1-

ليس هناك من شاغل بحثيٍ ويومي في طرائق التواصل الإنساني الحديثة يمكن رصده بكثير من المتعة والإثارة، وشيءٍ من الخطورة والدهشة، كتلك التي تتعلّق بوسائط التواصل الإجتماعي كالفيسبوك مثلاً. فالفيسبوك يعتبر، إلى حدٍ ما، «تيرمومتر» مجتمعيٍ ونفسي، يمكن من خلاله رصد ظواهر وجوانب مرتبطة بأحداث راهنة، يكتبها أشخاص وذوات، يختلفون في كل شي، إلا أنّهم يجتمعون في سياق «تواصلي» له ملامح، تعكس تلك الصداقة «الفيسبوكية» الأثيرة بعضاً من أجزائه، من اتجاهاته، من توقعاته وآماله، ومن مخاوفه أيضاً. هذا ينطبق أيضاً على قطاع كبير من متابعي ونشطاء وداعمي الثورة السورية، التي تدخل الآن منعطفات حاسمة على جميع الصّعد، عسكرياً، سياسياً واجتماعياً، يشير بعضها إلى «أمل» كبير، فيما يستبطن البعض الآخر «مخاوف» وقلقا مشروعا حول ظواهر عديدة بدأت تتسرب إلى بنيان الثورة، مع المضي قدماً في صمود مرتفع الأكلاف حتماً. فهذا فيسبوكي يذيّل ستاتوساته  الساخرة بعبارة «هكذا تكلّم هردبشت»، وتلك فيسبوكية أخرى تنهي ماتكتب بعبارة «قادمون»، وأخرى تختم تعليقاتها المرّة بعبارة «سوريا أثق بك»، فيما ينهي فيسبوكي آخر تعليقاته الغريبة بعبارة أشد غرابة «الثورة بخير». أما أكثر عبارات الفسابكة التي تلفت النظر هذه الأيام فهي لاشك «والله لنكيّف»!

2-

قد تكون عبارة «والله لنكيّف» قيلت أوّل مرة في فترات العسكرة التي أخذ فيها «نجم» جبهة النصرة بالبزوغ، أكثر الأذرع العسكرية الثورية إشكالية، وربما غموضاً. قد يصحُّ القول بأن في جبهة النصرة تتركز كل الأعراض المقلقة للثورة، وتتكثّف فيها جلّ مخاوف قطاعٍ عريضٍ من المجتمع السوري الثائر، الذي وإن حاول تفهّم أسباب الإختلاف «السلوكي» و«الهيكلي» لعناصر الجبهة المقاتلين، بالإضافة إلى تبرير العمليات المسلّحة العنيفة التي نُسبت لها، خاصّة في أزمنة العنف الوحشي الذي قابل به «النظام» الفريد مجتمعه، إلا أنّ الحال والمزاج تجاهها بدء بالتبدّل والتغيّر مع مرور الوقت، خاصّة بعد عدد من المحطّات التي أظهرت أنّ لجبهة النصرة «مشروعا» يختلف عمّا ظنّ بأنّ الشعب السوري الثائر خرج من أجله. مع الرايات السود والإعدامات الميدانية هنا وهناك، مع أخبار تكسير بعض المجسّمات والتماثيل، منعاً لـ«الوثنية» وسعيا لـ«التوحيد»، ومع إحراق ونسف بعض المزارات التي لا تليق بـ«الفرقة الناجية»، وكذلك بعد الأنباء التي تحدثت عن احتكار واضح لبعض المواد الأولية في مناطق محررة مثل الحبوب والقطن والمحروقات، وبعد ظهور بعض أفراد قيل أنّهم يتبعون للجبهة بزي غريب ووافد عن «الذات» السورية «الحسّاسة»، كانت عبارة «والله لنكيّف» حاضرة عند أغلب المعلّقين الفسابكة. إلا أنّ أكثر المواقف التي حرّضت على العبارة إياها كانت عندما أعُلن في تسجيل منسوب لقائد الجبهة «أبو محمّد الجولاني»، يظهر فيه إنتمائه لتنظيم القاعدة، ذائع الصيت، ومبايعته لأحد أكبر «الفارّين» والمطلوبين للقضاء، العربي والدولي، بتهمة الإرهاب، محمد أيمن الظواهري. إذا بعد استشهاد الآلاف، ودمار المدن، ومئات الألوف من المعتقلين والمهجّرين واللاجئين فقد وجدنا أنفسنا خارجين من عباءة «بشار الأسد» لنستظل بأيمن الظواهري! والله لنكيّف!

3-

«والله لنكيّف» كانت حاضرة أيضاً في عراكات الفسابكة وشجونهم حول تصرفات وسمت بعض كتائب الجيش الحر المقاتلة على الأرض السورية، تلك الكتائب التي تكاثرت كالفطور، إذا لا يعلم إلا الله كم عددها، ولا كيف تدار ولا كيف تموّل. وإذا كان الكثير من الكتائب المحسوبة على الجيش الحر تقاتل قوى النظام وشبيحته ومرتزقته من الجوار في ظروف غاية في الصعوبة، تمويلاً وتسليحاً، إلا أن بعضا منها قرر أخذ استراحة طويلة من الحرب والسلم معاً، وفضّل القيام بتصرفات بدت أقرب للتشبيح منها إلى القوى الثورية المقاتلة. فهذا قائد كتيبة يستولي على ذخيرة كبيرة ولا يرسلها لمرابطين في جبهة مشتعلة، وذاك قام بتأجير «دبابة» تم اغتنامها من النظام لقاء أجر يقال أنه وصل النصف مليون من الليرات السورية التي أصابها داء التضخّم، وآخر أصبح مقاولاً للسيارات المسروقة وقرصاناً على منطقة تسير فيها قوافل السيّارة على طريق دولي سريع. هذا غير أعمال النهب والسرقة والخطف التي يقوم بها بعض المقاتلين لأسباب مختلفة لا يمكن هضمها في غياب تامٍ و«مفهوم» لأية جهات رقابية ثورية يمكن أن يعوّل عليها في القيام بأعمال مثل ضبط الأمن ومحاسبة المخالفين، خاصة في مناطق الجبهات أو التي تشهد اشتباكات شبه يومية فيها. وأمام مشاهد الهول والدّمار اليومي الذي يتحف النظام الهمجي أبناء المدن الثائرة فيها تأتي هكذا أخبار لتعكّر صفو روح الثورة وتضرب الأكف أخماساً بأسداسٍ على وقع العبارة الممتعضة تماماً: والله لنكيّف!

5-

في أوقات الحروب وغياب السلطات المركزية السابقة يبقى هناك مجالٌ كبير لتطور نوع من السلطات المحلية التي تأتي في ظروف معينة لتملأ فراغاً «واجباً» يسد حاجة الناس الملحّة لمرجعية قضائية أو تنفيذية ما في ظروف المنازعات والخلافات المختلفة، التافهة منها والجديرة بالمتابعة. ليس هناك من معلومات واضحة حول ظروف نشأة ما بات يعرف بـ«الهيئات الشرعية»، النظام الديني «شبه القضائي» الذي انتشر في بعض البلدات والمدن والمناطق المحررة، أو شبه المحررة في سوريا الثورة. كان بعض ما نُشر من معلومات حول هذه الهيئات الشرعية حريصاً أول الأمر على إظهار عدم اقتصار أعضائها على «طلاب الشريعة»، أو من بعض «رجال الدين» المتنفذين في مجتمعاتهم المحلية الناشئة، والتشديد على أنّ هناك أيضا أعضاءً من السلك القانوني والحقوقي المدني يتشاركون مهامها على صورة فريق متكامل، بسلاسة مطلقة. إلا أنه ومع مرور الوقت بدت الأمور مخالفة لتلك الصورة «الحالمة»، فبدأ التضييق على الأعضاء من المحاميين وخريجي كليات الحقوق وأصحاب الخبرة القانونية في فض النزاعات، فيما أعطيت صلاحيات تامّة لرجال دين وشيوخ، بعضهم معروف ويتمتع بصيت جيد، وبعضهم غير معروف ولا يبدو أنّه من أهل المنطقة التي «يفتي» فيها، فيما بدت على أغلبهم الصرامة في السلوك والملفظ، يظهرون بلحاهم الطويلة، فيما لم تفارق محيّاهم سلطة الدوائر الحكومية في النظام الآيل للسقوط، بقضّها وقضيضها. في أحد الفيديوهات التي ظهرت للتعريف بإحدى أكثر الهيئات الشرعية نفوذاً وإشكالية، وهي «الهيئة الشرعية في حلب» كان هناك عبارة في المدخل كُتب عليها «يمنع دخول المرأة بغير اللباس الشرعي المحتشم». فيما كتب على باب فيها «المحقق أبو يزن»، بينما زيّنت العبارة التالية باباً آخرَ عند الدخول لخطوات: «يوقف العمل أثناء الصلاة». طبعا ناهيك عن بعض السّلوكيات والأعمال التي تشابه تصرفات «الشرطة الدينية» وهيئات «الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» في بعض الدول ذات النظم البائسة مثل إيران والمملكة السعودية، بدت هذه الهيئات الشرعية تجاهد في إسباغ «شرعية» لا تليق إلا بالاستبداد واستبدال الأسوأ بالسيء. هنا تأتي العبارة الأكثر تعبيرا عن واقع يزداد صعوبة، بدأ يتسلل في دمار وحطام أتى على كلّ شيء: والله لنكيّف!

5-

مضى السوريون في ثورتهم اليتيمة كما لم يمضِ أحد سواهم. عرفوا نظاماً وخبروه، هو الأشرس والأعنف في تاريخهم وذاكرتهم الجمعية، البعيدة والقريبة. قاوموه بكل ما يمكن وما لا يمكن، بالنكات والتلاعب بين باطن الكلام وظاهره، بالتظاهرات، باللافتات المحرجة والمضحكة، بصفحات الفيسبوك الساخرة، بالرقصات والدبكات، بالأغاني التراثية، وبالحراب أيضاً، وبالسلاح وبالمقاومة الشعبية. إلا أنّ أكثر ما يخيف الطغاة هي «السخرية» منهم، وبهذا، وبما يملك «بشار الأسد» من كل أركان التهريج، لم يوفّر لهم حقاً إلا فرصاً تلو الأخرى للنيل من حكمته وإصلاحاته وتفسيراته «الفلسفية» العميقة. السوريون الثائرون لم يتوقفوا عند الطاغية ورموز عنفه فقط، بل أتوا على جوانب الثورة التي بدأ يصيبها «علل الشباب» وأمراضه المشروعة. حتى وإن كان عالم الفيسبوك لا يعكس إلا قطاعاً ضيّقاً من اتجاهات «الرأي العام»، مع تحفّظنا المبدئي على هذا المفهوم في سياقنا هذا، إلا أنه يوفر بلا شك فرصة لقياس «النبض المجتمعي» في لحظة ما. وقد تكون موضوعات مثل «جبهة النصرة»، «الهيئات الشرعية» و«الجيش الحر» وقضايا أخرى تتعلق بأسلمة الثورة أكبر من مجرّد موضوعات للنقاش يحتكرها فسابكة افتراضيين، وهي كذلك، إلا أنّ الواضح بأنها تشكّل ساحات «افتراضية» ممتازة للتدريب على «الانتقاد اللاذع»، ولبيان الصّور التي يشتهي قطاعٌ من السوريين الثائرين أن تكون عليها بلادهم. وهذا ما تعكسه شجارات الفسابكة التي لا تنتهي وعباراتهم في التعليق على ما يجري، وعبارة «والله لنكيّف» أحد أكثرها إمتلاءً بالمخاوف والقلق الممزوجين بالسخرية العالية.

والسلام عليكم