ربما لم تتعرض ثورة في التاريخ لما تتعرض له الآن الثورة السورية من محاولات للتشويه ومحاولات دمغها بالهمجية والتطرف، أو وصمها بالعمالة لجهات أجنبية وغيرها من التهم. ومردّ ذلك يعود لأمور عدة، أهمها شراسة هذا النظام وحلفائه وإصراراهم المذهل على ايقاف ساعة التاريخ، وبالتالي تأخير انتصار الثورة وفقدانها لمصادر القوة.

وإذ جسّدت الثورة السورية منذ بداياتها صرخة شعب موجوع، بوجه ظلم جاوز حدود التحمل البشري، وإذ شكلت في منطلقها صوت الفطرة والضمير ضد أيديولوجيا فاشية متغطرسة، فإنها –مثل كثير من الثورات– كانت ولا تزال ثورة «جماهير»، وهي تأتي في سياق ولادة عصر جديد: «عصر الجماهير العربية».

كان غوستاف لوبون، عالم الاجتماع والمؤرخ الفرنسي، أول من صاغ مفهوم «عصر الجماهير»، حيث قال في مقدمة كتابه «علم نفس الجماهير» –والصادر عام 1895– متحدثاً عن الجماهير الصاعدة آنذاك: «إن دخول الطبقات الشعبية في الحياة السياسية وتحولها التدريجي إلى طبقات قائدة يمثل إحدى الخصائص الأكثر بروزاً لعصرنا، عصر التحول، فجميع الحضارات التي عرفها تاريخ البشرية كانت بُنيت ووُجّهت حتى الآن من قبل أرستقراطية مثقفة قليلة العدد، ولم تُبنَ قط من قبل الجماهير».

كما لفت في مقدمته آنفة الذكر إلى أن «كلمة ’جمهور‘ التي تعبر في معناها العادي عن تجمع لمجموعة من الأفراد، أيا تكن هوياتهم أو مهنتهم أو جنسهم وأيا تكن المصادفة التي جمعتهم، تتخذ معنى مختلف تماماً من وجهة النظر النفسية، ففي ظروف معينة، وفي هذه الظروف فقط، يمكن لتكتل ما من البشر أن يمتلك خصائص جديدة مختلفة جداً عن خصائص كل فرد يشكله. عندئذ تنطمس الشخصية الواعية للفرد، وتصبح عواطف وأفكار الوحدات المصغرة المشكلة للجمهور موجهة في نفس الاتجاه، حيث تتشكل روح جماعية عابرة ومؤقتة لكنها تتمتع بخصائص محددة ومتبلورة تماماً، عندئذ يمكن تسميتها  ’جمهوراً نفسياً‘، فهي تشكل كينونة واحدة وتصبح خاضعة لقانون الوحدة العقلية للجماهير».

وبالطبع لا يتطلب هذا التشكل الحضور المتزامن للأفراد في نقطة واحدة، ذلك أنه «يمكن لآلاف الأفراد المنفصلين أن يكتسبوا صفة الجمهور النفسي في لحظة ما، تحت تأثير بعض الانفعالات العنيفة أو تحت تأثير حدث قومي عظيم». وقد عزّزت هذا الكلام مؤخراً ثورة الاتصالات في عصرنا والتي تمكننا جميعاً من أن نكون حاضرين معاً في كل مكان.

بعض خصائص الجمهور النفسي

لن أدخل في هذا العرض الموجز بدراسة سيكولوجيا الجماهير في مستوياتها اللاشعورية التي عمقها «سيغموند  فرويد» والأبحاث اللاحقة، إنما سأكتفي بـ«التوصيف» الظاهراتي الذي صاغه لوبون لسلوكيات الجماهير والذي لم تختلف عليه الأبحاث اللاحقة. وإذ أعتذر على طول الشواهد –المستقاة جميعها من مقدمة الترجمة التي صاغها الباحث «جورج طرابيشي» لكتاب سيغموند فرويد «علم نفس الجماهير»،– إلا أنني حاولت الاختصار حتى حدود الضرورة.

والظاهرة الأكثر إثارة للدهشة في توصيف «لوبون» كانت التالية: «فمهما تكن نوعية الأفراد الذين يشكلون الجمهور النفسي، ومهما يكن نمط حياتهم متشابهاً أو مختلفاً، وأيا تكن طبيعة اهتماماتهم وأمزجتهم ودرجات ذكائهم، فإن مجرد تحولهم إلى ’جمهور‘ يزودهم بنوع من الروح الجماعية. وهذه الروح تجعلهم يحسون ويفكرون ويتحركون بكيفية مختلفة تماماً عن الكيفية التي كان سيُحسّ ويفكر ويتحرك بها كل فرد منهم لو كان معزولاً (…) وعندما ينحل ذكاء الفرد المفرد في المجموع، فإنه سيتصرف تصرفات ويقبل بقرارات جماعية بلهاء ما كان ليتصرف او يقبل بها لو بقي على فرادته وحسه النقدي الذاتي».

ويضيف لوبون: «من الخطأ –وهو خطأ شائع– أن نتصور أنه يتأتى عن التجمع الذي يشكله الجمهور حاصل متوسط للعناصر التي يتألف منها، فالجمهور  ليس مجرد محصلة حسابية للجمع والطرح بين أفراده، بل هو تركيب جديد وخلق لخاصيات أو ماهيات جديدة. فقانون الوحدة العقلية للجمهور النفسي يشتغل، إن جاز التعبير، وفق نمط كيميائي، لا نمط فيزيائي. حيث يمكن أن نلاحظ وفق هذا التحول كم يكون الفرد المندمج في جمهور نفسي مختلفاً عن الفرد المعزول».

«لكن ما يخسره الجمهور النفسي، من حيث الذكاء والحس النقدي، يربحه في الغالب من حيث القوة أو الشعور بالقوة، فعن طريق العدد يكتسب الفرد المنضوي في الجمهور شعوراً عارماً بالقوة، مما يجعله ينصاع بسهولة لبعض الغرائز التي قد تدفع به مع سائر أقرانه نحو أعمال عنفية، بل ووحشية. وهذا العنف الجماعي يجد تفسيره في كون الجمهور مغفلاً بطبيعته، وبالتالي غير مسؤول».

ويشبّه لوبون قوى اللاشعور الطاغية ضمن الجمهور النفسي والمسيطرة على تصرفاته ومشاعره بـ«القوة التنويمية القادرة على توجيهه الوجهة التي تشاء بعد أن غدت الشخصية الواعية مغمياً عليها»، ويضيف أن عاطفة الجماهير، حتى ولو أسقطت على فكرة سياسية مؤمثلة (كفكرة الثورة)، فإنها «تبقى دائماً ذات جوهر ديني».

وبصفتها الدينية هذه، فمن المحتم أن يتواجد فيها العنصران اللذان يميزان كل تفكير ديني: «عنصر السر الخارق للطبيعة، وعنصر المعجزة. فالجماهير تخلع على الأيديولوجيا التي تعتنقها نفس القوة المليئة بالأسرار والخارقة للطبيعة التي تكمن في أساس التصور الديني للعالم، وهكذا فإن الإنسان لا يكون متديناً فقط عن طريق عبادة آلهة معينة، بل أيضاً عندما يضع كل طاقاته الروحية وكل خضوع إرادته وكل تأجج تعصبه في خدمة قضية ما».

«وهذا الجوهر الديني في كل عاطفة جماهيرية هو ما يفسر تعصب الجماهير واستبداديتها، واعتناقها للأفكار والعقائد على أنها حقائق مطلقة، ودمغها لما سواها بأنها أخطاء مطلقة. فالعقائد لا تتشكل عند الجماهير إلا عن طريق التحريض والعدوى والإيحاء التنويمي، ولا تتولد عن طريق تشغيل العقل والمحاكمة العقلانية». ومن هنا فإن الجماهير لا تشك لحظة واحدة في صحة ما تعتقد أنه صحيح، وفي خطأ ما تعتقد انه خطأ. وإذا كان الفرد يقبل الاعتراض والمناقشة فإن الجمهور لا يحتملها أبداً. وهكذا يلاحظ لوبون أنه «في المهرجانات والاجتماعات العامة، أقل اعتراض يصدر عن خطيب سرعان ما يقابل بالصياح والغضب والشتائم العنيفة، ثم بالضرب والطرد إذا ما أصر الخطيب على موقفه، ولولا وجود قوات الأمن ’لذبحوه‘ في أرجح الظن!».

حول أخلاقية الجمهور النفسي

ينقلنا الحديث عن «الذبح» تلقائيا للحديث عن البعد الأخلاقي للعاطفة الجماهيرية، وهنا يقرر غوستاف لوبون أن الجماهير لا تستخدم قوتها إلا في الهدم والتدمير،  فهي «تمارس فعلها من خلال قوتها التدميرية، كالجراثيم التي تساعد على انحلال الأجسام الضعيفة أو الجثث، وعندما تصاب أسس الحضارة بالنخر، فإن الجماهير تجيء لكي تقوضها. وفي تلك اللحظة بالذات يتجلى دورها، وعندئذ تصبح القوة العمياء للكثرة هي الفلسفة الوحيدة للتاريخ».

لا يعرف الجمهور التدرجات الانتقالية، ولا يستطيع رؤية الفروقات الدقيقة بين الأشياء، وكل فكرة يعتنقها الجمهور تتحول في الحال إلى يقين لا يقبل الشك، والعاطفة تجاه كل ما يخالفها تتحول مباشرة إلى حقد هائج.

ويرى الكاتب والباحث المترجم جورج طرابيشي، ودائماً بالإحالة إلى مقدمات لوبون نفسها التي أوردها في مقدمة الترجمة لكتاب فرويد آنف الذكر،  أنه «إذا أخذنا بعين الاعتبار تضخم الثقة بالنفس لدى الجماهير واطمئنانها إلى عدم المحاسبة والمعاقبة كلما كان عدد الجمهور أكبر، فهمنا لماذا تقتدر الجماهير المحتشدة على الإتيان بأعمال لا يأتيها الفرد في العادة. ففي الجمهور، وبسبب انعدام المسؤولية الفردية وانتفاء الخوف من العقاب، يتحرر الأبله والجاهل والحسود من الإحساس بدونيتهم وعدم كفاءتهم، ويصبحون معبّأين بقوة عنيفة وعابرة ولكن هائلة، وفي الغالب شريرة، وهذا ما يفسر قابلية الجماهير لارتكاب أبشع الأعمال وأكثرها تطرفاً وهمجية. لكن هذا أيضاً ما يفسر قدرة الجماهير على اجتراح أفعال البطولة، وعلى التفاني من أجل قضية نبيلة، على نحو يتجاوز بكثير قدرة الإنسان المعزول على ذلك».

وفي هذا يقول لوبون: «إذا كان الجمهور قادراً على القتل والحرق ومختلف أنواع الجرائم، فإنه قادر أيضاً على أفعال تضحية ونزاهة أرفع بكثير من تلك التي يقدر عليها الفرد الواحد. ووحدها الجماهير قادرة على اجتراح المآثر الكبرى والتفاني العظيم من أجل القضايا العظمى، ونادراً ما تكون المصلحة الشخصية محركاً قوياً لدى الجماهير، في حين أنها تشكل المحرك شبه الكلي لدوافع الفرد الواحد. ولا يندر أن يتحول أرذل الأوغاد –عندما ينصهر في أتون الجمهور– إلى مثال للبطولة وتسامي الأخلاق والقدرة على التضحية بالنفس».

«لكن ذلك لا يخفف من الخطر على الحضارة وعلى العقلانية الذي تمثله الجماهير، فسرعة تأثر الجماهير وسذاجتها وتصديقها لأي شيء عن طريق التحريض أو العدوى النفسية وقابليتها لإحياء وتفعيل الغرائز الأكثر بدائية، فضلا عن انتهازية أغلب المحرضين والزعماء وحساباتهم الدنيئة ومكيافليتهم السياسية، كل ذلك يجعل من الجماهير قوة غاشمة قابلة في كل لحظة للانفلات من قيد العقل ورادع الحضارة».

حول التحميل الأخلاقي الزائد للثورة السورية

يتيح توصيف الظاهرات الجماهيرية أعلاه دراسة الثورة السورية من جوانب عدة، كنوعية الجماهير والقوى الخاضعة لها (جمهور النظام، وجمهور الثورة، والجمهور الصامت)، أو دراسة التفاعل ما بين جمهور الثورة والقيادات الانتهازية التي ركبت فوقها من المعارضة الخارجية، أو ربما زوايا أخرى… لكنني آثرت التركيز على جانب واحد، وهو محاولة تفنيد تهافت، بل تفاهة، النقد الموجه للثورة، أو التنكر الرخيص لها بصفتها ثورة، وذلك من قبل نفر من المثقفين اليساريين، حتى أن كاتباً هاماً مثل ياسين الحاج صالح، الذي يمكن القول أنه من الكتاب القليلين المنغمسين في الثورة، لم يتردد في الكلام على «خيانة المثقفين والنخبة السياسية الحديثة للجمهور العام والثورة». حيث «كان يمكن لمشاركتهم أن تحدث فرقاً، أن يتعلموا شيئاً ويعلّموا أحداً، وأن يشجع وجودهم بحد ذاته الناس على تفكير وسلوك أوسع أفقاً».

ورغم أنني أتفق مع الكاتب في تقييمه لفعل الخيانة، لكني أشك في مدى القدرة على إحداث الفرق، فالجمهور في لحظات الثورة والغضب يمتلك ديناميته المستقلة وقوانينه الطبيعية وسط حالة الفوضى، والتي يعود ياسين ليتلمسها حين يتحدث عن صدى كتاباته بين أهل الثورة: «القليل من الصدى. لا أحد سمع بي أو يعرف عني شيئاً».

لست هنا بمعرض التقليل من دور المثقفين، ولا من أهمية وضرورة الاستمرار بنقد الثورة ومحاولة تنظيمها وتصويب مساراتها، لكن على المثقف ان يعي حدود تأثيره، وأن لا «ينطمز» ويعادي أحلام البشر عندما لا تُصغي إلى اكتشافاته العبقرية، خصوصاً في واقع معقد كالواقع السوري وحجم المؤامرات الواقفة في وجه تطلعاته. ولا بد هنا من التذكير أن الكتاب المخلصين لشعبهم لم يكفوا لحظة واحدة عن نقد الأخطاء ومحاولات التصويب، إلا أن هناك فرقاً بيّناً تميّزه الفطرة السليمة، بين النقد القلق الذي يخاف على الثورة ويألم لتضحياتها ويسعى لانتصار صوت العقل، وبين النقد الرخيص واللاأخلاقي الذي يهدف للنيل منها ومن شرعيتها الأخلاقية.

والحقيقة أنه لو تأملنا جيداً في ديناميات الحراك الجماهيري الموصوفة أعلاه، لشكرنا جمهورنا السوري العظيم وثواره على صمودهم الأسطوري وعلى عظمة تضحياتهم ومحدودية أخطائهم، وعلى مناعة هذا الشعب المذهلة أمام أنياب الفتنة الطائفية التي يحاول النظام وحلفائه غرسها في الجسد السوري الدامي.

لقد برز الجمهور السوري كمارد انتفض من تحت الرماد في مواجهة أعتى قوى الاستبداد، وكانت ذروة ظهوره كجمهور حاشد ربما في منتصف السنة الأولى من عمر الثورة وحتى نهايتها. وقد كان للعنف المذهل واللامحدود الذي استخدمه النظام –بدعم وتواطؤ دولي غير مسبوق تاريخياً– الدور الأكبر في تفريق هذا الجمهور العظيم وكسر هيبته وتحويله إلى مجموعات صغيرة غلب عليها قسرياً الطابع العسكري من أجل الدفاع عن النفس، لكن جذوة العمل السلمي والمدني لم تنطفئ، رغم عمر الثورة المديد ورغم العنف المتزايد واللامحدود وعمليات القتل والاعتقال المنهجي للناشطين والتي طالت مئات الألوف من الأرواح المقدسة.

هذا الانكسار المؤلم والمحزن كان له وقع آخر في نفوس هؤلاء «المثقفين»، والذين خاب أملهم بانتصار سهل وسريع كالذي حصل في دول الربيع العربي الأخرى، وتحولوا تدريجياً من مواقع المناصرين للثورة السلمية إلى مواقع المنتقدين لـ«أخطائها»… وبالتدريج، ومع كل انتكاسة للثورة، ومع كل ازدياد وتعاظم في وحشية النظام، ومع كل ازدياد في حجم الإذلال للبشر ومحاولات تركيعهم القاسية، صارت تتكشف حقيقة هؤلاء، حقيقة استلابهم العميق لمبدأ القوة وتماهيهم  مع الظالم. لقد أتيحت لي الفرصة مراراً أن أرقب تدفقات لاشعورية تنضح من كلام عدة «معارضين» سابقين، بل جهابذة في المعارضة اليسارية. كان أحدهم يعرض بزهو المنتشي خصائص وميزات صواريخ  أس 300 عندما أشيع أن الأسد قد تسلمها من روسيا. تستطيع أن تلمس في هذه التدفقات اللاشعورية ليس فقط استلاباً عميقاً للقوة، إنما تعويضاً مريضاً عن لاشعور مزمن بالخصاء إزاء قوة إسرائيل الجوية وحاضتنها الغربية، متناسين أن الأسد ونظامه لم ولن يستخدم أي من عوامل قوته المستوردة إلا لتمزيق لحم أبناء شعبه، ومتناسين أنه لا فرق اليوم بين قوى الغرب الإمبريالية وما يحسبون أنها «قوى الخير» الشرقية والتي تسعى لمصالحها الدنيئة على حساب لحمنا ولحم أطفالنا، ومتناسين أيضاً أن دور روسيا القبيح في التأسيس للكيان الإسرائيلي لا يقل قباحة عن الدور الغربي، وأنها لم ولن تسمح يوماً بتوازن حقيقي للقوى في الصراع العربي الإسرائيلي.

لم يكتف الكثير من هؤلاء المثقفين بدور مشرط الناقد، فقد آثر بعضهم التشفّي بالشعب والسخرية من ثورته ومن مشاعره.. .وما أكثر المرات التي سمعناهم فيها يتشدقون بالضبط كما الشبيحة السوقيين: «هاي ثورة هاي!»، «هاي هي الحرية؟!».

إن إنساناً عادياً يتمتع بحد أدنى من المعرفة الفطرية والاخلاق لا يسمح لنفسه أبداً بالسخرية من شعب أو الحكم على سلوكيات جمهور، فكيف تسنى لمثل هؤلاء أن يمارسوا خيانتهم العلنية بلا رادع من ضمير وبلا أي عمق معرفي سوى تنظيرهم الفارغ والمستريح على «أخطاء» جمهور أُجبر على الانغماس في الفوضى وسط بحيرة من الدماء والدموع؟ ألم يرَ هؤلاء كيف تثور جماهير أخرى؟ ألم يشهدوا كيف كانت تتدحرج رؤوس المذنبين والأبرياء على السواء بين أرجل جمهور الثورة الفرنسية العظيمة، ووسط تصفيقه الحاد وهتافه للدم؟!

والسؤال الذي يجبرنا على طرحه: هل كان لهؤلاء المثقفين أن يرتكبوا هذه الخيانة في سياق حالة انتصار للثورة؟؟

لقد رأينا على شاشات الفضائيات كتاباً ومثقفين وفنانين مصريين كبار يعتذرون كالأولاد المخطئين في حضرة الجمهور المصري إبان سقوط مبارك، ومن المرجح أننا سنرى هؤلاء «السوريين» يوماً في ذات الموقف.

سوف يغفر الشعب السوري مستقبلاً للكثير من المخطئين، وعلى الأخص السذّج منهم،لكنه ربما لن يستطيع الغفران لمن خانه وهو في أمس الحاجة إليه، لمن تشدق بأخلاقيات مفترضة على أريكته الناعمة في وقت كان يذبح فيه الناس وتهدم المدن فوق رؤوس ساكنيها أمام أعين الجميع… وهل هناك ما هو أكثر بذاءة من توجيه وعظ أخلاقي لضحية تُذبح ظلماً من الوريد إلى الوريد!!