«كانت أطول من هيك»، يتكلم أبو نجم على لحيته، ويشير إلى صدره لتقدير طول اللحية التي كانت قصيرة وقت التقيته مطلع هذا الشهر. في الخامسة والعشرين الآن، كان أبو نجم يعمل نجار باطون قبل الثورة، وينال دخلًا يقارب 50 ألف ليرة (1,000$) في الشهر. لكنه يحمل غضبًا خاصًا حيال بيئة موالية للنظام حول بلدته القدموس، التابعة لمحافظة طرطوس، بيئة يرى أنها تحارب القدموس لأنها مختلفة عنها وليست بمثل ولائها للنظام.
دافعي ليس طائفيًا، يقول أبو نجم، فنحن عاشرنا «الأمن» ونعرفهم، ونعرف مؤسسات الدولة وطائفيتها، وكل شيء في سورية هو بشار الأسد. الطائفية تجدها في الشارع والمؤسسة والمدرسة والشرطة اللي بيتحكموا بالناس.
عشت أحداث القدموس عام 2005 على الأرض، ورأيت أن من اعتقلوا عذبوا بوحشية (نزاع بين أهالي القدموس الإسماعيليين في أكثريتهم وبين جيران علويين لهم، تفجر إثر مشكلة عارضة بين شبان، وكان يمكن أن يكون عارضًا، لولا أن انحازت أجهزة النظام فيه لمصحلة الأخيرين، وحاصرت البلدة واعتقلت على إثره عددًا من الشباب القدامسة، قضوا شهورًا في سجون النظام).
وفي ذهننا أيضا سؤال عن أحداث 1982، بدنا نعرف شو صار بالناس، وليش تفظّع فيهم وما حدا حكى.
في السنة الأولى من الثورة شاركت في مظاهرة في مدينة السلمية. رحت عالسلمية لأنو أول صورة انضربت لحافظ بسورية كلها كانت بالقدموس، فنزّل النظام «لجان شعبية» وحطوا حواجز، وما عاد في مجال لحدا يتحرك بالقدموس.
تظاهرت في السلمية، وفي حماه، النظام ما كان قادر يعتقلني من السلمية بسبب مظاهرة، منشان ما تنكشف قصتو اللي يحكي فيها على عصابات مسلحة وسلفيين.
لكن صرت مطلوب في شهر أيار، وانكبس البيت بالقدموس من قبل دورية أمن دولة وأمن عسكري، وهربت. بعد 15 يوم اعتقلت بحيلة عند أمن الدولة في طرطوس. ضليت عندهم 4 أيام، وما كان التعذيب قوي، بس تعذيب المعتقلين السنيين كان أقسى ولافت لنظر الجميع. بعدين نقلتني دورية طائفية بكل معنى الكلمة إلى فرع أمن الدولة في حماه، وتعرضت لتعذيب طوال 12 يومًا، قبل ما يتركوني. خدمني شيء هو أني كنت الوحيد من القدموس. لكن خرجت حاقدًا، سياسيًا طائفيًا. واقتنعت إنو ما بيمشي الحال دون سلاح ورصاص. شوفة الناس اللي تعرضوا لتعذيب رهيب هي اللي زادت قناعتي بعدم جدوى أي شي غير القوة ضد هالنظام.
لكن كان أهلي معارضين لأن أكون معارضًا للنظام. هدّيت شوي حتى آذار 2012. خلال هالوقت شاركت في مظاهرات وأنشطة إغاثية، وكنا نبذل جهدًا منشان ما تنقلب الأمور إلى طائفية. حاولنا تجنب أي احتكاك، وكنا نمتصّ أي صدام.
في آذار 2012، وقع انشقاق في اللواء 12 وطلبوا احتياط، وطُلبت أنا إلى اللواء الذي كنت فيه. قلت لنفسي «جاءت على رجليها»، فالتحقت فورًا بكتيبة العمري في اللجاة. كان قائد سريتي في الجيش النظامي منشقًا، وهو عبد المنعم سوتل من التريمسة، رحمه الله. كان أكثر من أخ لي. تكلمت معه وانضممت إليه، وبقينا في اللجاة أكثر من شهرين. كان ضد الطائفية والتسميات الطائفية، لكن حين وقعت مجزرة التريمسة (12 تموز 2012، سقط فيها 305 شهداء) صارت لديه ردة فعل قوية، طائفية، وكنت أحاول تهدئته.
ذهب إلى داريّا، وكانت خطتنا أن ننضم إليه، نتوجه بعد ذلك إلى حماه لتغيير المعادلة التي فرضها النظام، معادلة تطييف الصراع، ونعمل تجمع وطني متعدد الطوائف من المقاتلين، لكن بعد أسابيع انقطع الاتصال به… استشهد، وانتهى المشروع.
بقيت في كتيبة العمري مع أبي يوسف، أُثيْب حْمير، الذي استشهد هو الأخر بعد 15 يومًا.
ثم انتقلت إلى كتيبة الفاروق مع الملازم أول عبد الحميد قدور. كنت مقاتلًا عاديًا. وجدت وجهًا آخر في هذه الكتيبة، أناس بسطاء وطيبون، مرت أيام كنا نأكل فيها خبزًا وشايًا، ولا تجد في المجموعة كلها 100 ضرب (رصاصة) روسية. كنا نواجه الدبابات مع ذلك. كانت أيام حلوة، أحلى الأيام.
تعرضت لشكوك وإزعاجات من مقاتلين في الجيش الحر. بعضهم حاسبين الإسماعيليين عالنظام، ويحكوا كلام مسيء وجارح للمشاعر، شبيحة باختصار.
لكن معهم حق. لأن السنة محارَبين من الجميع… وهؤلاء الناس ليسوا طائفيين، هم وطنيون جدًا، ولم تنفتح عيونهم على الطائفية إلا على يد بشار الأسد. أنا صرت طائفي أكثر منهم، وصرت ضد المواطنة وضد الديمقراطية إذا بدك. صارلنا سنتين نسامح ونعفو… يكفي. ما عاد في حل وسط، ونحن مو أنبياء. أنا ما مجبور أضحّي بكل شيء منشان العالم تنال كرامتها بدون ما بتضحي بشي.
ماني مبسوط بهالشي، بيني وبين نفسي يعذبني هالشي، لكن نحن لسنا ملائكة ولا أنبياء، وما فينا نسامح، ما رح نسامح.
واليوم صارت الأمور واضحة، في احتلال إيراني، ونصر الله يدافع عن الوريث بشار باسم الحسين اللي هو شهيد توريث معاوية الحكم لابنه.
ببداية شهر تشرين الثاني من العام الماضي تركت الفاروق، وجئت إلى الغوطة الشرقية. بقيت في لواء سلفي لمدة يومين. وجدتهم بشار الأسد بوجه آخر، يحاربون حريتك من التدخين وإنت ماشي. نحن ما ثرنا ضد بشار منشان بشارين آخرين.
بعدين أخدوني جماعة «أبابيل حوران» إلى عند أبو عدي قائد لواء أمهات المؤمنين اللي جيت أصلا لأنضم إليه. أبو عدي رجل طيب وصادق وشريف، وأتشرف أن أكون معه. انقصفنا يوم وصولنا لمقر اللواء، وانجرحنا أنا وأبو عدي وشاب ثالث. كانت إصابات خفيفة. أنا انكسرت رجلي، فارتحت لمدة شهر.
وبعدين استلم أبو عدي قائد قوات المغاوير، فخرجت معه وشكلنا سرية قيادة، وبقيت حتى اليوم في المغاوير. تلقيت خلال هذه الفترة دورة على كافة أنواع الأسلحة.
طبعًا أخاف من تقسيم البلد، لكن رأيي أن هذا مستحيل، وإن حاوله النظام لفترة.
أخاف أيضًا من الحاقدين، ومنهم أنا. الحاقدون لا يستطيعون بناء البلد. لازم يكون في قطب متحرر من الأحقاد. أنا لا أستطيع وضع يدي في يد من يقتلونا اليوم.
أما بعد سقوط النظام فلا أخاف من شيء. طبعًا لا أرضى أن يحل بشار آخر محل بشار هذا. نحن نصنع طواغيتنا ونحن نكسرهم.
الثورة لن تنتهي بسقوط بشار، بعد السقوط لدينا مشاكل البناء وسورية الجديدة.
أعرف أني متناقض مع نفسي. أريد سورية الجديدة للجميع، لكن أكره كثيرين، ولا أستطيع أن أضع يدي في يد من يقتلوننا، أو حتى من لا يقاتلون معنا أو من لا يشاركون في الثورة.
من هم مثلي لن يهنأ لهم عيش وهناك حفيد لكسرى في أرضنا، ونصر الله لن يجد مزبلة تحويه.
لا أخاف من الطائفية في المستقبل، بسقوط النظام سوف تنتهي الطائفية. ولا أخاف من السلفيين وجبهة النصرة لأن من يشيل بشار رح يشيل كل من يأتي بعده، ولن تحصل صراعات ضمن الثورة لأن من رفعوا السلاح في وجه النظام لن يرفعوا السلاح في وجه بعضهم.
لن أقوم بدور سياسي يومًا. السياسة كذب، كلها كذب.
عُرض علي الخروج من البلد إلى تركيا وأن أكون ممثلا لبلدنا، القدموس، في القيادة المشتركة للمجالس العسكرية، ورفضت. طموحي الأكبر أن أدخل الساحل مقاتلًا.
أنا مسلم مؤمن، أصلي منذ ما قبل الثورة. ويزيد إيماني أنه أثناء الثورة حصلت معي أكثر من معجزة. سمعنا مرة زغاريد النساء في إحدى معاركنا قرب إزرع، كانت ذخيرتنا قليلة، لكن كان هجومنا فعالًا، وكان بيننا شباب يبكون تأثرًا وانفعالًا، وهم يسمعون الزغاريد. في اليوم التالي تأكدنا أنه لم يكن هناك زغاريد، ولم يسمعها أحد غيرنا.
وكنت نجوت من الأمن حين كنت في القدموس بقدرة قادر، ونجونا من الموت بقدرة قادر أيضًا وقت قصفت راجمات الصواريخ مقرنا، وأصبنا أنا وأبو عدي…، وخرجنا بجروح خفيفة.
وحظيت في الجيش الحر برفقة أولاد الحلال الطيبين، رغم أن هناك كثيرين ليسوا كذلك في الجيش الحر.
لا أعرف ماذا سأفعل بعد الثورة، هذا سؤال صعب. الرجوع إلى البيت صعب، لا أستطيع العودة إلى الحياة نفسها. هناك ظلم وسأبقى ضده. أنا ثائر.
لكن يخطر ببالي أحيانًا أنه لحظة يسقط بشار أكبّ بارودتي وأذهب إلى البيت.
ولي حبيبة في البلد لم أرها منذ 15 شهرًا، وهذا موضوع يعذّبني لأني أشعر أني أظلمها.