قد يكون نيك غريفين أكثر سياسيي بريطانيا، وأحد أكثر سياسيي القارة الأوروبيّة بأكملها، إثارةً للجدل، فهذا المحامي الخمسيني هو زعيم الحزب القومي البريطاني، وأبو أفكاره اليمينيّة، المتطرّفة بفخر واعتزاز. حيث يذهب نيك غريفين يُلاقي وقفة استنكار لوجوده أو محاولة للتملّص من استقباله: البرلمان الأوروبي، أي مناسبة وطنيّة بريطانيّة، قناة البي بي سي، جامعة كامبردج (حيث درس). أفكاره العنصريّة المتطرّفة، العنيفة للغاية ضد المهاجرين، خصوصاً غير «البيض القوقازيين» منهم، وخطابه الهجومي الشرس ضد الإسلام والمسلمين، وتصريحاته الإنكاريّة للهولوكوست والحنونة تجاه حقبة الأبارتهايد في جنوب أفريقيا والشرسة ضد نيلسون مانديلا، كلها تجعل منه ضيفاً مُحرجاً وغير مرغوبٍ به في أيّ محفلٍ يبغي المحافظة على قدرٍ أدنى من اللباقة السياسيّة، لكنّ نتائج اﻻستحقاقات الانتخابيّة الأخيرة في بريطانيا أبرزت صعوداً مثيراً للقلق لحزبه، فمنطقه في تحميل المُهاجرين مسؤولية تردّي الأوضاع اﻻقتصادية يلقى رواجاً في الطبقات البريطانيّة الأكثر تضرراً من الحال الراهن للاقتصاد.
زار نيك غريفين دمشق الأسبوع الماضي، تلبيةً لدعوة النظام السوري لمجموعة من البرلمانيين الأوروبيين، وقابل العديد من المسؤولين، وجال في شوارع دمشق، والتي وصفها بأنها «مدينة حديثة، مزدحمة، فيها إجراءات أمن مشددة وكأنها بلفاست وسط اضطرابات»، وندد في تصريحاته بموقف حكومة بلاده المناوئ للنظام السوري، وحذّر من تسليح المعارضة التي «تهيمن عليها الجماعات الجهاديّة المتطرّفة على غرار قتلة لي ريغبي (الجندي البريطاني الذي قُتل قبل أسابيع على يد متشددين إسلاميين قرب لندن)»، وقد ﻻقى موقف غريفين هذا استحساناً من قبل وسائل إعلام النظام، كما حظي، لغرائبيّة مزيج الشخصيّة والمكان، رواجاً في وسائل الإعلام البريطانيّة والأوربية بشكل عام.
يتلاقي موقف غريفين وحزبه المتطرّف مع موقف مُشابه من عقلية مُماثلة على الضفّة الأخرى من بحر المانش، فاليميني المتطرّف جان ماري لوبن، الزعيم التاريخي لحزب الجبهة الوطنيّة الفرنسي وأحد روّاد الخطاب العنصري الأوروبي ضد المهاجرين الأفارقة والمسلمين، عبّر في أكثر من لقاء صحفي عن تأييده لحقّ «الدولة السوريّة» في فرض «سيادتها»، وأشاد بدور نظام بشار الأسد في محاربة «الأصوليين الإسلاميين».
على المقلب الإيديولوجيّ الآخر، يُلاحظ انحياز كبير لدى السواد الأعظم من حركات اليسار العالمي والأحزاب الشيوعيّة لرواية النظام حول «المؤامرة»، وتتراوح مواقف هذه الحركات بين الاكتفاء الريائي بالحديث عن إدانتها لتدخّل خارجي تفترض أنه غربي حصراً ولصالح المُعارضة فقط، بلا أيّ إدانة لسلوك النظام أو لتدخّل حلفائه تسليحاً أو مشاركةً مباشرة في القتال، أو الانحياز الكامل والواضح لصالح النظام السوري باستخدام لغة معاداة الإمبرياليّة والتصدي للصهيونيّة، كما هي حالة أغلب الأحزاب الشيوعيّة في جنوب أوروبا وكتلة دول «أوناسور» في أمريكا اللاتينيّة. الموقف اليساري الداعم للثورة السوريّة بات انشقاقياً بامتياز، ولا يندر أن يواجه من قبل أوساط اليسار التقليدي بقدر كبير من العنف اللفظي أو حتى بالعنف الجسدي، كالاعتداء على منظمي نشاط متعلّق بالثورة السوريّة خلال مجريات المنتدى الاجتماعي العالمي في تونس قبل شهرين ونيف.
استخدام نيك غريفين الانتهازي لجريمة قتل لي ريغبي –النكراء– من أجل مُهاجمة الثورة السورية هو نسخة طبق الأصل عمّا قاله، في حسابه على «تويتر»، النائب البريطاني السابق جورج غالاوي، والذي يُفترض أنه غريم غريفين الأشد في السياسة البريطانيّة، بعد ساعات قليلة من حصول هذه الجريمة. تلاقى الأضداد الأعداء عند نفس المنطق في الدفاع عن النظام السوري.
على صعيد الرأي العام العربي، ولا سيما في الدول التي عاشت حراكات ثوريّة، يكاد يقتصر الدعم غير الملتبس للنضال الثوري السوري ضد اﻻستبداد على التوجهات الإسلاميّة، فغالبيّة الفئات المتبقّية من الطيف السياسي تنقسم، إما على تعريف ما يجري في سوريا على أنه صراع طائفي تتساوى فيه شرور الأطراف جميعها، وبعضهم يحمّل بشار الأسد المسؤولية عن وصول الأوضاع إلى هذا السيناريو وبعضهم لا؛ أو وصف الثورة السوريّة بأنها حراك إسلامي تجب معارضته بنفس الحدّية التي تُعارَض بها الحكومات الإسلامية المنبثقة عن أولى اﻻنتخابات في الحقب الثورية. هكذا، أضحى مألوفاً سماع الهتافات المُناهضة للثورة السوريّة، أو مُشاهدة أعلام النظام وصور بشار الأسد في كثيرٍ من الوقفات والمظاهرات المُعارضة لحكومة النهضة في تونس، أو، بدرجة أقل، ضد حكومة حزب الحرية والعدالة في مصر. عدا الإسلاميين، لم يعد الموقف العربي المؤيد للثورة السوريّة دون التباس وفيراً.
ﻻ تعيش الثورة السوريّة أياماً جيّدة على مستوى صورتها الخارجيّة، أكان على المستوى العربي أو الدولي، وﻻ يمكن، أمام هذا الواقع، اﻻكتفاء بالتنديد بـ«تحالف أوغاد» ضدنا أو بوالبكاء على خذلان العالم لقضيتنا. المشكلة مزدوجة: كان هناك عمل سياسي وإعلامي دؤوب للنظام السوري وحلفائه، لم نأخذه على محمل الجد واكتفينا بالتندّر على عُصابيّة الخطاب الظاهر للنظام وكثرة حديثه عن «مؤامرات كونيّة»، خصوصاً حين توجّه بالحديث نحو مؤيديه، لكننا لم نعتنِ ما يكفي بمهارة النظام في اللعب على الكلمات المفتاحيّة للأوتار الحسّاسة لدى التيارات الإيديولوجيّة في العالم عموماً، وفي الغرب خصوصاً: محاربة «الإسلاميين» وكسر شوكتهم وحماية الأقليات –لا سيما المسيحيين– يميناً، ومقارعة الإمبرياليّة وكسر مخططاتها والصمود في وجه إسرائيل يساراً. أما في حالة التوجهات السياسيّة غير الإيديولوجيّة فلغة المصالح فاعلة، أكان مُباشرةً أم عبر الوسيط الروسي: العرض المستمر باستئناف التعاون الأمني واﻻستخباراتي مع أوروبا والولايات المتحدة، وهو تعاونٌ ثمينٌ للغرب وحقق له مصالح كثيرة في حقبة «الحرب على الأرهاب» في العقد الماضي، مقابل تخفيف الضغط، أو تحذير الأوروبيين من مخاطر استمرار الأزمة السوريّة على وضعهم الاقتصادي وفتح باب جديد للهجرة «غير الشرعيّة» نحو دولهم، وهو أحد أكبر كوابيس أوروبا في خضم أزمتها الماليّة الحاليّة.
لقد انشغلنا بمحادثة ذاتنا، واتّكلنا على حتميّة الموقف الإنساني الإجباري أمام نظام استبدادي قمعي يستخدم كلّ أنواع الأسلحة ضدّ شعبه، وربما كانت هذه الحتمية صحيحة في الشهور الأولى للثورة، لكنها لم تعد واضحة لغيرنا مع تسلّح الثورة، فحيث نرى نحنُ دفاعاً مشروعاً عن النفس يرى غيرنا «طرفين» مسلّحين ضمن «حرب أهليّة». وقد تسبب هذا الإيمان المُسرف بالحتميات بتقصيرٍ سياسي وإعلامي في التعريف عن القضيّة السوريّة أمام العالم، وهو تقصيرٌ مُتّسق مع العقم الشامل في أداء المعارضة السياسيّة، لكن الأوساط الثقافية والإعلامية السورية مسؤولة أيضاً عن حصوله.
الثورة السوريّة اليوم أمام استحقاقات سياسيّة كبرى، وتحتاج لرأي عام عالمي مُتعاطف كي تتمكّن من الدفع سياسياً إلى ما هو أبعد من التسوية السطحية التي يبغي العالم فرضها علينا. هذا يقتضي التحرّك بسرعة. الآن!