النص الأصلي كُتب بالإيطالية، وترجمته إلى الإنكليزية فانيسا مرزولو لصالح المرصد السوري الإيطالي، وعن الإنكليزية تُرجم هذا النص إلى العربية.
في 12 حزيران 2013، نشرت وسائل الإعلام الدولية كافة، بتركيز واهتمام شديدين، أخباراً تفيد وقوع مجزرة طائفية فظيعة نفذتها المعارضة السورية المسلحة: في الواقع، أفادت هذه الأخبار أن المتمردين قد قتلوا قبل يوم ستين شخصاً من سكان حطلة (قرية في دير الزور)، مدنيين ومقاتلين، على خلفية انتمائهم للطائفة الشيعية.
بعدها قامت المواقع الإلكترونية وشبكات التواصل الاجتماعي المؤيدة للأسد وحزب الله بإثراء المشهد الفظيع بتفاصيل متخيّلة، وبالمزيد والمزيد من الوحشية (قتل نساء وأطفال، قطع رؤوس… الخ)، ثم قام النظام السوري بتقديمه مشفوعاً بصور قديمة لضحايا.
وحصل عدد من الناشطين المقربين من المعارضة السورية في الخارج أيضاً على هذه النسخة من المجزرة الطائفية، وهُرعوا إلى إدانتها على شبكات تواصل اجتماعي عديدة، متعامين عن نداءات تنبّه إلى وجوب توخّي الحذر، نداءات أطلقها أولئك الذين أشاروا إلى عدم وجود دليل على هذه المجزرة.
هذه الأخبار حول حادثة التطهير الإثني كانت نُشرت حصرياً من قبل المرصد السوري لحقوق الإنسان، الذي يشغل شقة من غرفتين في لندن، والذي تعتبره وسائل الأعلام الغربية، ولأسباب يتعذر تفسيرها، المصدر الوحيد الموثوق والجدير بالذكر للأخبار حول سورية. في الأحوال كافة، إن مصداقية المرصد السوري لحقوق الإنسان، المؤلّف من فرد واحد حسبما نعرف وهو المدعو أسامة سليمان (معروف باسم «رامي عبد الرحمن»، يدّعي أنه معارض للنظام السوري في المنفى وأن لديه 200 ناشط سرّي على الأرض يقدمون له المعلومات)، هي مصداقية غامضة إلى حد بعيد، ولا سيما أن سليمان لم يقدم تقريباً أي برهان يدعم أقواله. أكثر من ذلك، إحصائيات المصرد التي يحدث أن تصدق أحياناً لا يرافقها تقريباً أي توثيق، وتخلو حتى من أسماء الضحايا (وهذا خلاف ما تقوم به المنظمات الجدية، التي لا يأخذها الإعلام الغربي على محمل الجد). وكان المرصد السوري لحقوق الإنسان قد وقع في الخطأ مراراً، ولا سيما في مسعاه لأن ينسب إلى المتمردين، أو بالحد الأدنى إلى فاعلين غير محددي الهوية، جرائم من الواضح والثابت بالدليل أن نظام الأسد هو مَنْ ارتكبها.
بلا طائل حاول ناشطو المعارضة، داخل سورية وخارجها، أن يحذروا الصحافة الغربية من سليمان الغامض هذا ومرصده، واتهموه بتضخيم أعداد القتلى المقربين من النظام السوري، كي يتساوى الضحايا والقتلة، دون أن يوثق الأعداد والحوادث التي ينشرها ويقدمها للصحافة، وذلك ليشوّه سمعة المنظمات والناشطين الجديين وليقدم الوقائع، على نحو متواصل وبشكل كاذب، عبر منظور طائفي يغذّي الكراهية الطائفية بين الشيعة والسنة.
يُضاف إلى ذلك أن نظرة سريعة على صفحة المرصد السوري لحقوق الإنسان على الفيسبوك تُظهر أن أسامة سليمان –رامي عبد الرحمن– يُشدد حصرياً تقريباً على «جرائم» حقيقية أو متخيلة ارتُكبتْ من قبل الثوّار، وهي فقط الجرائم التي يمكن تقفّي أثرها عبر مقاطع الفيديو (التي يجدها على اليوتيوب ومن ثم يعيد نشرها وتوزيعها مدموغة بشعار المرصد السوري لحقوق الإنسان) وهي وحدها ما يُعلِم وسائل الإعلام بها. وهذه الجرائم غالباً ما تكون صغيرة جداً: فعلى صفحة المرصد السوري لحقوق الإنسان، ما قام به بعض الإسلاميين من إحلال راية جبهة النصرة محل علم الثورة ثلاثي الألوان –بلا أي عنف– أهمّ بكثير من تدمير القُصير على يد حزب الله وقوات النظام.
إذن، المصدر الوحيد لـ«المجزرة الطائفية لشيعة حطلة» ليس تماماً فوق مستوى الشبهات، وليس بالمصدر الذي يمكن تصديق أخباره دون المزيد من التحقق.
إذا صحّ خبرها، فإن مجزرة حطلة ستكون بوضوح حدثاً مهولاً لا سابق له، سيلطخ صورة جزء من الثوّار. والأهم من ذلك كله، ستكون ثمة مصداقية وأساس، للمرة الأولى، لمخاوف تم التعبير عنها كثيراً جداً من جانب سياسيين وإعلاميين غربييّن، دون أية دلائل حقيقية، عن مخاطر محتملة لأعمال قتل وحتى «مذابح» للأقليات بعد سقوط النظام. وبينما تم توثيق عدة حالات من التطهير الإثني، مجازر لمدنيين سنة –شملت نساء وأطفال– ارتكبتها ميليشيات وقوات النظام، فإنه لم تحدث أبداً أعمال قتل على أساس طائفي من طرف كتائب الثوار حتى الآن.
في الأحوال كافة، وبشكل متدرج، تقود قراءة النسخ اللاحقة من رواية أحداث حطلة التي قدمها المرصد السوري لحقوق الإنسان إلى شك قوي في حدوث هذه المجزرة الطائفية أصلاً.
فبركة المرصد السوري لحقوق الإنسان لـ«المذبحة الطائفية»
في النسخة الأولى من الهجوم على حطلة، والتي نشرها المرصد باللغة العربية، لا يوجد أي أثر للمجزرة الطائفية. «المرصد» يستخدم اللغة المألوفة المصمّمة لجعل الناس يرون الثورة السورية حرب طوائف لا أكثر مما يزيد سعير الكراهية الطائفية، إلا أنها تتحدث بوضوح عن وفيات نجمت عن اشتباكات بين مؤيدي ومعارضي النظام:
«محافظة ديرالزور – المرصد السوري لحقوق الانسان: سيطر مقاتلون من عدة كتائب مقاتلة على قرية حطلة التي تقطنها أقلية من الطائفة الشيعية، وذلك بعد اشتباكات عنيفة وقصف أسفر عن مقتل ما لا يقل عن 60 شخصاً من الطائفة الشيعية، غالبيتهم الساحقة من المقاتلين الذين سلّحهم النظام السوري، ونزح بعض من الشيعية المدنيين إلى قرى الريف الغربي، وفرّ بعض المقاتلين إلى قرية الجفرة، واستشهد ما لا يقل عن عشرة مقاتلين من الكتائب المقاتلة خلال اشتباكات اليوم. يشار إلى أن الاشتباكات اندلعت مساء أمس الاثنين إثر هجوم المقاتلين الشيعة في القرية على مركز تابع لكتيبة مقاتلة، مما أسفر عن استشهاد مقاتلين من الكتائب المقاتلة وإصابة 8 بجراح، تجمع بعده آلاف المقاتلين من الكتائب المقاتلة من ريف دير الزور للهجوم على حطلة، فتعرضوا للقصف من قبل القوات النظامية المتمركزة في مطار دير الزور العسكري، مما أسفر عن استشهاد مقاتلَين اثنين وإصابة العشرات بجراح، ولم نتمكن من توثيق خسائر بشرية في صفوف المقاتلين الشيعة. وعلم المرصد السوري لحقوق الانسان من نشطاء في المحافظة أن النظام قام خلال الأسابيع الأخيرة بتسليح مئات المواطنين الذين دخلوا في الطائفة الشيعية في عهد حافظ الأسد» (المصدر).
تقرير المرصد هذا، كما هو، ارتكب غلطتين (والأكثر ترجيحاً أنه كذب كذبتين مقصودتين): واقع الحال أن قرية حطلة هي قرية مختلطة وليست مسكونة بالشيعة وحدهم، وأن عدد من شاركوا في الاشتباكات من مقاتلي المعارضة –كما يظهر في الفيديو بوضوح– يبلغ بضع مئات في أحسن الأحوال وليس الآلاف على ما ذكر المرصد. ويُرجح أن المرصد ادعى أن سكان حطلة كلهم من الشيعة ليجعل الناس تعتقد أن الثوار استولوا على قرية يقطنها سكان يعارضونهم ويرونهم كمحتلين، في حين أن الفيديوهات تُظهر احتفالات المدنيين بتحررهم من مليشيات الأسد، أما «الآلاف» من مقاتلي دير الزور فوظيفتهم أن تُحمّل المعارضة المسلحة بأسرها مسؤولية «مجزرة» كان المرصد يتهيأ سلفاً لتصنيعها.
وعلى الفور، اتصل أسامة سليمان (مُستخدماً الاسم المستعار رامي عبد الرحمن) بقناة فرانس 24، التي تبث بالعربية أيضاً، لينبئهم عن مقتل «60 شيعياً»، كما لو أنهم قتلوا لانتمائهم إلى الطائفة الشيعية لا لأنهم مليشيات للنظام كانت قد هاجمت مواقع للثوار. وبعد ساعة من نشر الأخبار باللغة العربية، نشر المرصد نسخة إنكليزية من الحوادث مختلفة كلياً عن النسخة العربية:
«محافظة دير الزور: قام ثوار من فصائل مختلفة بالاستيلاء على حطلة، القرية التي يقطنها أساساً مدنيون من المسلمين الشيعة، بعد اشتباكات عنيفة وقصف من قبل الثوار أدّيا لمقتل 60 من مدنيي ومقاتلي قرية حطلة. فرّ عدد من مقاتلي حطلة إلى قرية الجفرة، كما قُتل في اشتباكات اليوم 10 على الأقل من الثوار» (المصدر).
الستون قتيلاً –الذين في النسخة العربية من الخبر كانت «غالبيتهم الساحقة» ميليشيات مؤيدة للنظام– أصبحوا فجأة «مدنيين ومقاتلين»، ويختفي في النص الإنكليزي أي أثر لحقيقة أن القتلى «الشيعة» هم فعلياً عناصر مليشيا يسلّحها النظام كانت قد هاجمت وقتلت مقاتلين معارضين في الأيام السابقة. تصف النسخة الإنكليزية هجوماً غير مبرر من جانب المعارضة المسلحة على قرية شيعية، قرية كل ما قامت به أنها دافعت عن نفسها، مما أسفر عن عدد كبير من الوفيات في صفوف المدنيين سببه قصف عشوائي من قبل الثوار. ولا يقدم المرصد أدنى تفسير للفارق الهائل بين النصّين العربي والإنكليزي، واللذين نُشرا متزامنين تقريباً. إضافة إلى ذلك، لا يظهر أي توافق في صفحة الفيسبوك العربية للمرصد: يقدم المرصد نسختين للحقيقة، مختلفتين كلياً حسب اللغة.
بعدها باثنتي عشرة ساعة، يطوَّر المرصد قصته ويتحدث صراحة عن مجزرة مروعة على أساس طائفي للمرة الأولى: الواقع أنه ينشر مقطعي فيديو أخذهما من اليوتيوب (هنا الأول، وهنا الثاني) من بين العديد من الفيديوهات ذات الصلة بالاستيلاء على حطلة، ويضع عليهما شعاره الخاص، ثم يكتب:
«لقطات الثوار من فصائل مختلفة يقتحمون ويحرقون بيوت المدنيين في قرية حطلة في ريف دير الزور. وقد قتل الثوار أيضاً عدداً من السكان (مدنيين ومحاربين) في قرية حطلة. جدير بالذكر أن هذه الفظاعات ارتُكبت على أساس طائفي. يأتي ذلك بعد أن سيطر الثوار أمس على القرية إثر اشتباكات وقصف أوديا بحياة 60 مدنياً ومقاتلاً من حطلة و10 من مقاتلي الثورة» (المصدر من صفحة المرصد).
وفي الحقيقة، يُظهر مقطعا الفيديو ما يأتي: المقطع الأول، بضعة جثث مغطاة بشراشف، ومنها جثة واحدة فقط يمكن تبيّن أن صاحبها –على وجه الاحتمال–عنصر في ميليشيا مؤيدة للأسد؛ المقطع الثاني، مجموعة ثوار يتباهون بحرقهم بيوت بعض «الشيعة»، وثمة بعض سحب الدخان في خلفية المشهد. إلا أن التقرير الجديد للمرصد يدين المذبحة الطائفية بشكل واضح هذه المرة، المذبحة التي تأتي بعد احتلال القرية: يكتب المرصد بما لا يدع مجالاً للَّبس أن المتمردين، وبعد أن قتلوا 60 مدنياً ومقاتلاً في الاشتباكات والقصف واحتلوا القرية، ذبّحوا القرويين في مجزرة ذات أساس طائفي. وهذه النسخة، مُرفقةً بمقطعي فيديو، هي ما حرص المرصد وقتها على إرسالها إلى الصحافة العالمية، التي نشرتها فوراً، مبرزةً إياها بقوة ودون الحد الأدنى من التحقق، وحتى دون إلقاء نظرة إلى صفحة المرصد على الفيسبوك باللغة الإنكليزية (ناهيك عن صفحته باللغة العربية). فلو كان الصحفيون ألقوا نظرة إلى هاتين الصفحتين لأدركوا مباشرة أن ثمة خطأً ما: في البيان الصحفي وفي تصريحات عديدة نسي المرصد أن يُحَدِّث العدد الاجمالي للضحايا من الشيعة، العدد الذي يُفترض منطقياً أن يكون 60 ممن ماتوا في الاشتباكات والقصف، مضافاً إلى ضحايا الـ«المجزرة الطائفية الشنيعة». إلا أن عدد القتلى الشيعة يبقى ثابتاً على الـ60 قتيلاً في كل تقارير المرصد.
بعد 3 ساعات من إعلان المجزرة الطائفية في حطلة، حين ينشر المرصد عدد ضحايا يوم 11 حزيران، تجد أنه لم تعد هناك أية مجزرة: يبقى عدد مَنْ قُتلوا في الاشتباكات 60، وهؤلاء يرجعون، كما في النسخة العربية، «رجالاً محليين سلَّحهم النظام»، رغم أن بعض المدنيين قتلوا أيضاً. كذلك، بما أن المرصد أعلن أن المجزرة الطائفية قد جرتْ «بعد» احتلال القرية، لم يُذكر قتلى الـ«مجزرة» في عِداد قتلى اليوم التالي: في إحصائيات 12 حزيران لا يوجد قتيل واحد في حطلة.
إلا أن الأمور تزداد سوءاً: فخلال الدقائق الأولى من يوم الخميس، وعندما كان العالم كله يتحدث عن مذبحة طائفية لشيعة حطلة، نشر المرصد فجأة على صفحته باللغة الإنكليزية على الفيسبوك نسخة حرفية تقريباً من النص العربي: يُوصف القتلى بميليشيا سلَّحها النظام، وهذه الميليشيا كانت قد هاجمتْ وقتلت قبلذاك ببضعة أيام مقاتلي المعارضة، ويحذو سرد الوقائع حذو النسخة العربية الأصلية بالحرف. وحمام الدم الطائفي اختفى كلياً. لكن المرصد أرفق مقطعي الفيديو المعهودين، وكتب أن المتمردين في المقطع الأول «يهينون لفظياً جثث أشخاص كانوا قد أُعدموا»، وهذا هو الأثر الوحيد المتبقي من حدث التطهير الإثني المروع الذي سارع المرصد إلى إيصاله للصحافة الدولية: «شخص ما»، لا أحد يعرف مَنْ هو، كان أعدمه الثوار في حطلة. كيف عرف المرصد أنه أُعدم؟ هذا لغز، ذلك أنه لا شيء في مقطع الفيديو يقودنا إلى الاعتقاد أن الميت المرئي الوحيد قد أُعدم ولم يُقتل في الاشتباكات.
بمواجهة هذه الكثرة من النسخ المختلفة المُقدَّمة دائماً من قبل المرصد السوري لحقوق الإنسان، والوحيدة التي أُرسلتْ إلى وسائل الإعلام منها هي النسخة التي تتحدث عن مجزرة للشيعة على أساس طائفي، ثمة إذن سبب للاعتقاد أن المذبحة الطائفية في حطلة لم تحدث قط وأنها رُكِّبتْ بطريقة خرقاء للغاية من جانب المرصد السوري لحقوق الإنسان بغية تشويه سمعة المعارضة المسلحة. إن تحليل عدد من الروايات غير المتسقة للحوادث مما يقدمه المرصد تقودنا للتفكير أن المرصد كان نشر خبراً قصيراً باللغة العربية، صحيح كثيراً أو قليلاً، استمدّه مما يُنشر على شبكات التواصل الاجتماعي (اشتباكات بين مقاتلين مناهضين وآخرين مؤيدين تسبب بها المؤيدون وانتهت بانتصار المعارضين)، لكن مع تشديد قوي على الجانب الطائفي، جانب يُرجّح ألّا يكون ذا صلة (إذا كان المؤيدون ميليشيا مسلحة سلَّحها النظام، فإن البعد الديني يكون غير ذي صلة)، إضافة إلى انعدام خطير للدقة (إذ وُصفتْ حطلة كما لو أنها مأهولة بالشيعة فقط، وأن «الآلاف» من الثوار اجتاحوها). ونسخة المرصد الإنكليزية المُزامنة تقريباً تقّدم الوقائعَ تحت ضوء غير محبّذ من قبل الثوار، وتبدأ في وضع خطوط عريضة لمجزرة بحق المدنيين، حتى لو كان في صيغة قصف عشوائي وحسب لا في صيغة أعمال قتل طائفية: الواقع أن الـ«شيعة» لا يُوصفون بعد الآن بالميليشيا التي سلّحها النظام، كما يبدأ الهجوم الذي شنته الميليشيا المؤيدة للأسد بالتلاشي، والموتى يصبحون «مدنيين ومحاربين» (وليست «غالبيتهم الساحقة من المقاتلين» كما في النسخة العربية)، لكن المجزرة على أساس طائفي لم توجد بعد. ويبدو أن ثمة فرصة لتلفيق قصة عن التطهير الإثني قد توفرتْ للمرصد السوري لحقوق الإنسان من خلال اكتشاف مقطعي الفيديو على اليوتيوب، حيث يستخدم بعض الثوار لغة طائفية متّقدة أمام بعض جثث الأعداء (لا أحد يعرف عدد هذه الجثث، ذلك أنها مغطاة، لكنها ليست أكثر من 4-5 جثث بالتأكيد)، وكذلك ادعاءهم حرق منازل عناصر الميليشيا الشيعية. والأرجح أن المرصد فبرك قصة التطهير الإثني و«المجزرة المروعة بحق الشيعة» على أساس طائفي ابتداءً من هذه النقطة، فأنسته العجلة أمر تحديث عدد القتلى ومسألة إضافة الستين قتيلاً أثناء القتال إلى ضحايا «المجزرة» المزعومة. ومن ثم أرسل إلى وسائل الإعلام كافة قصة المذبحة، مُرفقة بمقطعي الفيديو لا يظهرانا أبداً في الواقع. لكن، وقبل التوصل إلى استنتاجات محددة، يجب أن نحلل الوثيقتين المتعلقتين باحتلال حطلة.
المعطيات عن احتلال الثوار لقرية حطلة
إن الدليل الرئيس على المجزرة –تبعاً لواحدة من نسخ المرصد (النسخة التي أُرسلتْ إلى وسائل الإعلام) وتبعاً للصحافة الغربية– هو مقطع الفيديو المنشور في 11 حزيران على عدة أقنية في اليوتيوب وأعاد المرصد توزيعه في اليوم التالي كما أسلفنا القول. القتلى مغطَّون بالشراشف، ويظهر واحد منهم فقط: رجل راشد، ويُحتمل أنه مقاتل. لكن حتى مع عدم رؤيتنا الجثث الأخرى، فمن الواضح إمكان وجود 4 أو 5 جثث أخرى تحت هذه الأغطية –لكن بالتأكيد ليس عشرات الجثث– مات أصحابها أثناء القتال قطعاً، ومن الجانبَين. وقد صُوِّر المتمردون الجهاديون وهم يستخدمون تعابير طائفية مقززة (قال أحدهم إن على الكويتيين السنّة أن يقتلو شيعة بلدهم، لمسؤوليتهم عن تشيّع بعض سنّة سوريا) إلا أن وجود لغة طائفية لا يكفي كدليل على الإبادة. والأمارة الصغيرة الوحيدة على قتل مدنيين هي ما يصدر عن أحد الثوار إذ يقول –والترجمة موضع نقاش– أن إحدى الجثث الأربع أو الخمس المغطاة بالشراشف تعود إلى امرأة، لذا يجب ألا يرفع عنها الغطاء، لكن –وبإقرار صحة الترجمة– يجب على المرء أن يضع في اعتباره أننا رأينا نساء يقاتلن على كل من طرفي الصراع في سورية، وما زال يمكن أن يلقى مدنيون حتفهم عرضاً أثناء المعارك. لا تظهر جثث في مقاطع فيديو أخرى ذات صلة بحطلة (تظهر جثة واحدة لأحد الثوار قُتل أثناء القتال للاستيلاء على القرية) والخسائر البشرية هي فقط لمقاتلي المعارضة، وتظهر في مقاطع فيديو يعود تاريخها إلى 10-11 حزيران. وفي مقاطع الفيديو هذه أيضاً يمكن رؤية سكان حطلة يرحّبون بالمقاتلين المناهضين للنظام، ومظاهرة يسيّرها مدنيون احتفالاً يتحرير حطلة من «الشبيحة» (الميليشيا الموالية للأسد). وما من أمارة تجعلنا نفكر أننا في مسرح لمجزرة.
ثمة دليل آخر قدمه أولئك الذين يزعمون وقوع مجزرة طائفية في حطلة، وهو مقطع فيديو يُظهر رجل دين كويتي سني متطرف يُلقي كلمة أمام السفارة اللبنانية في مدينة الكويت، اسمه شافي العجمي؛ العجمي هذا، وبعد سلسلة تهجمات لفظية على حزب الله يقول «نحرنا السيء» في حطلة، ويقول (مخاطباً حزب الله): «اليوم نحرنا رمزاً من رموزكم، السيء حسين، الذي كان في الحطلة في دير الزور، ونحرنا ولده معه ثبتنا كلام شافي العجمي بحرفيته بعد العودة إلى مقطع الفيديو المذكور في النص. و يبدو أن كلمة «السيء»، التي يستخدمها أكثر من مرة في كلمته المذكورة، هي لعب لفظي وتحريف لكلمة «السيد»، يستخدمها العجمي سخرية وتحقيراً في سياق هجومه على حزب الله ومرجعيته الثقافية. المترجم».
وبحسب بعض المعلقين، حسين هذا هو عضو في فئة رجال الدين الشيعة المحليين، لكن هذا الكلام يفتقد إلى التأكيد. وإنني أشك في أن رجل الدين الكويتي، شافي العجمي، يشير إلى شخص حقيقي. فحزب الله، في الواقع، درج على تقديم معركة القصير، والصراع السوري عموماً، بوصفها إعادة تجسيد لمعركة كربلاء وانتقام لها، وفيها مات الإمام الحسين –الرمز الكلي ومركز العبادة في المعتقد الشيعي– وولده علي الباقر. فمن المحتمل أن رجل الدين الكويتي يقصد: «اليوم انتصرنا، نحن السنة، مرة أخرى، وقتلنا حسينكم الذي تريدون الثأر له، مجدداً في حطلة. ونحن نربح معركة كربلاء الجديدة». يبدو غريباً أن رجل الدين الكويتي، متحدثاً من الكويت، قد يفترض أنّ سامعيه يعرفون حسيناً بعينه يعيش في حطلة، كما يبدو مستبعداً أنه يشير إلى عضو غير معروف في فئة رجال الدين الشيعة في قرية قرب دير الزور بصفته «أحد رموز» حزب الله نعتقد أن كاتبة المقال تقدم تفسيراً بعيداً عن الحقيقة هنا. فسياق الكلام في مقطع الفيديو الخاص بشافي العجمي يرجح أنه قصد شخصاً حقيقياً يعيش في قرية حطلة. إذ تظهر عبارة مكتوبة في مقطع فيديو مدته حوالي دقيقة واحدة، يبدو أن مؤيدين للنظام السوري وحزب الله قد اجتزأوه من كلمة العجمي، تعلق أن المقصود بـ«نحرنا ولده» في كلام العجمي، يُقصد بها شخص اسمه «إبراهيم». يضاف إلى ذلك أن علي بن الحسين –واسمه علي زين العابدين وليس علي الباقر– لم يُقتل في كربلاء كما ذكرت الكاتبة. ويضاف أيضاً أنه محال أن يتشفّى شيخ سلفي بالحسين أو يدعو أو يهلّل لمأساة كربلائية، فالحسين حفيد النبي المشهود له ولا ضغينة لدى المسلمين السنّة تجاهه (وهو ليس «مركز عبادة» في المعتقد الشيعي، غنيّ عن القول). فإذن، الأرجح أن العجمي يقول لحزب الله ومن وراءه الشيعة، حسب سياق الكلام، نحرنا حسيناً وولده، باعتبار أن حسين هو أحد قادة ومسؤولي التشيع في حطلة، وبهذا يصبح «رمزاً». المترجم. إضافة إلى ذلك، يمكنكم أن تروا في أحد مقاطع الفيديو الخاصة بالاستيلاء على حطلة أحد الثوار يحمل صورة كبيرة، ممزقة جزئياً، للإمام الحسين الأرجح أن حجة الكاتبة هنا غير موفقة أيضاً، ويحتمل الأمر تفسيراً آخر أكثر منطقيةً. فإن صح أن المقاتلين الذين سيطروا على حطلة ينتمون إلى كتائب جهادية، وبعبارة آخرى سلفية جهادية، كما أشار في غير موقع من هذا المقال، فسيكون مفهوماً ومبرراً رؤية هؤلاء يحطمون ويمزقون التماثيل والصور التي يعتبرونها تجسيداً محرماً للهيئة البشرية، وأصناماً يجب إتلافها، بحسب مرجعيتهم الثقافية. المترجم. وأياً تكن الحال، وحتى مع افتراض أن رجل الدين الكويتي يشير إلى شخصين حقيقيين ويعرف شيئاً عما حدث في حطلة ولا يكتفي بقراءة الأخبار في وسائل الإعلام، فإن القتل المحتمل لحسين وولده لا يصلح لأن يكون دليلاً –ولا حتى أمارة– على حدوث مجزرة على أساس طائفي، ولا سيما أن شافي العجمي لا يقول شيئاً عن ظروف موت هذين الشخصين.
سارع الجيش السوري الحر إلى نفي حدوث أية مجزرة في حطلة ونفي قتل مدنيين، وقال أنه سيطر على القرية بعد بضعة أيام من الاشتباكات مع عناصر في ميليشيا محلية مؤيدة للنظام، وقد قُتل بعض عناصرها في القتال وأُسر بعض آخر.
وفي اليوم التالي للمجزرة المزعومة، أجرى زيد بنيامين لقاءً مع عمر أبو ليلى، الناطق الرسمي للجيش السوري الحر في المنطقة الشرقية. وقد أنكر أبو ليلى، على نحو قاطع، وقوع حادثة تطهير إثني في المنطقة الشرقية. وقال إن القتلى من المحاربين في الميليشيا المؤيدة للحكومة (وتسمى جيش الدفاع الوطني)، الذي كان قد قتل عدداً من الثوار قبلها ببضعة أيام وحاول الاستيلاء على حاجز للمعارضة المسلحة. إذن، فقد قرر الثوار الاستيلاء على القرية التي انطلق الهجوم عليهم منها. ويتابع: تم أسر بعض عناصر الميليشيا المسلّحة من قبل النظام، ويجري الآن استجوابهم. ويعترف أبو ليلى أن بعض مقاتلي جبهة النصرة فقط، ممن شاركوا في العمليات العسكرية إلى جانب مجموعات مقاومة أخرى، أطلقوا النار على منازل عناصر الميليشيا المؤيدة للنظام. حتى أن لجان التنسيق المحلية، وهي حتماً ليست متهمة بالتعاطف مع الإسلام السياسي ولا تتردد عادةً في إدانة وشجب الطائفية والانتهاكات والجرائم المحتملة التي ترتكبها بعض فصائل الثوار، أوردت أخبار تحرير حطلة من قبل الجيش السوري الحر وحسب.
…
تحليل هذه المعلومات يؤدي إلى خلاصة مفادها عدم وجود دليل على حدوث مجزرة ضد الشيعة في حطلة. من المؤكد موت «شيعة» في القرية، لكن كل المؤشرات تشير إلى أنهم قُتلوا في القتال بسبب عضويتهم في ميليشيا يسلّحها النظام كانت قد هاجمت سابقاً مقاتلي المعارضة المسلحة وقتلت بعضهم. علاوة على ذلك، يعترف المرصد السوري لحقوق الإنسان بعدم وقوع وفيات بين الثوار أثناء الاشتباكات للاستيلاء على حطلة (وهو ما ثبت بشكل قاطع في أحد مقاطع الفيديو). ومن المؤكد أن بعض مقاتلي المعارضة استخدم تعابير طائفية لا تُطاق، إلا أن اللغة الطائفية، رغم أنها مذمومة، أمر مختلف تماماً عن حادثة تطهير إثني. حتى شبكة EAWorldView، ودون أن تأخذ بعين الاعتبار النسخ المختلفة للمرصد السوري لحقوق الإنسان ودون أن تحلل بشكل تفصيلي فيديو حطلة، أشارت إلى أنه لا دليل يؤيد مزاعم المرصد السوري لحقوق الإنسان، وإن لم تمض إلى حد التأكيد الصريح أن المجزرة لم تحدث قط. علاوة على ذلك، لا تتوقف تلك الشبكة عند حد إنكار الستين قتيلاً في الفيديو، بل يبدو أنها تقيم تعارضاً صارخاً بين تأكيد المرصد السوري لحقوق الإنسان أن «الآلاف» من مقاتلي المعارضة قد شاركت في الأعمال العدائية وبين المجزرة التالية لهذه المشاركة. فأثناء عرض مقاطع الفيديو، بما فيها المقاطع المتعلقة بالمعركة، هناك عشرات المقاتلين، وليس الآلاف، يقيناً: الثوار الذين قاتلوا في حطلة هم مئات قليلة في أحسن الأحوال. أكثر من ذلك، يستحيل الاعتقاد أن الجيش السوري الحر ومجموعات المقاومة الأخرى قد حول آلاف المقاتلين إلى حطلة بغرض احتلال قرية صغيرة. أخمّن أن المرصد السوري لحقوق الإنسان، وفي مراحلة مختلفة من فبركة مجزرة طائفية يُرجّح أنها لم تحدث قط، أراد أن يُجرِّم أكبر عدد ممكن من مقاتلي المعارضة ليمنع أحداً من الكلام عن «قليل من ’التفاح‘ الفاسد». فإذا شارك آلاف الأشخاص في الـ«المجزرة» فلن يكونوا مجرد تفاحات قليلة بل ستكون الشجرة برمّتها فاسدة.
بطبيعة الحال، ليس ممكناً بحال أن نثبت بشكل لا يقبل الدحض أن «مجزرة حطلة» لم تحدث. لكن كما جرى العرف دائماً، وبكل وضوح: البينة على من ادّعى، والمرصد السوري لحقوق الإنسان لم يقدم براهين، والحقيقة أنه لا يمتلك حتى أمارة على أن حدث تطهير إثني قد وقع في حطلة: فكل ما قاله أن المعارضة المسلحة نفذت مجزرة في شيعة على أساس طائفي (مقدماً نسخاً مختلفة في كل مرة) ومن ثم أرسل بيانها الصحفي –يكمله مقطعا فيديو لا يثبتان شيئاً– إلى الصحف، التي نشرتها كما لو كانت حقيقة لا تقبل الجدل. وبهذا أصبحتْ «مجزرة الشيعة في حطلة» خبر اليوم فيما يتعلق بسورية. ما من شك في أن الصحافة لا تتصرف بالطريقة ذاتها عندما تندد المعارضة (يومياً تقريباً) بمجزرة ارتكبها جنود أو ميليشيات النظام، رغم أن التنديد يُدعم بمشاهد فيديو تُظهر الضحايا ومقابلات مع شهود العيان وما سواها. في الحالات النادرة حين المجازر بحق المدنيين –المرتكبة من قبل النظام والموثقة بشكل مؤكَّد– تصل إلى العناوين الرئيسية في الإعلام، عادةً بقليل من الإبراز، فإنها دائماً تُقدَّم بطريقة مشكّكة («أخبار لم يتم التحقق منها من مصدر مستقلّ»)، وإذا نُشر شيء من هذا القبيل، فإن رواية النظام السوري دائماً مقدّمة، في حين لم تنقل أية وسائل إعلام تقريباً نفي الجيش السوري الحر ما تم تناقه حول «مجزرة حطلة».
علي أية حال، فإن التحدث عن المعايير المزدوجة لدى وسائل الإعلام سيقودنا بعيداً عن الهدف. إلا أن السؤال يبقى قائماً: لِمَ يكون رجل عديم المصداقية، يعيش في لندن ولا يقدم براهين على مزاعمه ويقدم أعداداً بالكاد يمكن الوثوق بها، هو المصدر الوحيد الجدير بالتصديق فيما يتعلق بسورية، بحسب الإعلام الغربي؟