على خلفية بيضاء، يمتدّ الأخضر ليلتقي مع الأسود والأحمر، تجد الألوان الثلاثة طريقها لتشكّل، مع النجمتين، علم الاستقلال السوري / علم الثوّرة، وذلك على النسخة التي أصدرتها الهيئة الشرعيّة في حلب من الجلاء المدرسي (الوثيقة التي يحصل عليها التلاميذ السوريون في نهاية العام الدراسي). بمجرد وقوع النظر على الجلاء الجديد، تتشكّل رغبة، يبدو ألاّ سبيل إلى مقاومتها، لإجراء مقارنة بين «جلاءين»: ذاك الذي فرضته اللحظة السوريّة السوداء على امتداد ما يزيد عن أربع عقود: «سوريا الأسد»، وذاك الذي «اختارته» لحظة سوريّة يزيد عمرها عن العامين: سوريا الثوّرة.

تُستبعد تلك الرغبة لسببين على الأقل، أوّلهما أنّه لا يمكن مقارنة «العمل» الذي تقوم به سوريا التي تنزف وتولد بصورة يوميّة منذ عاميّن ونيّف، مع كل ما يرافق ولادات المجتمعات والأمم من آلام وفوضى، دمار ودماء، بناء وهدم، مع «العمل» الذي قامت، ومازالت، تقوم به «سوريا الأسد»؛ الميّت الذي يقاوم الدفن ويرفض أن يموت. المقارنة، بهذا المعنى، ظالمة وتفتقر إلى الحس بالعدل. وثانيهما، ليس ثمّة فعاليّة عمليّة، عدا عن كونه فقير المخيّلة وينمّ عن قدرات إبداعيّة محدودة، في السعي المستمر إلى تأسيس سوريا الجديدة بناء على المقارنة مع تلك التي تموت وحسب. إذ يبدو أكثر انحيازاً وتجذّراً في الثوّرة أن يُترك «الموتى يدفنون موتاهم».

سيرى «شكّائون» كُثر في أغلب «ملامح» الجلاء الجديد مبرراً لاستمرار حديثهم الفارغ عن «استبدال استبداد بآخر»، لكن أمر حديثهم هذا لن يكون، كما هو دائماً، سوى تعبير عن العجز عن إنتاج معرفة جديدة بالمجتمع السوري؛ مجتمعهم، وعن استمرار عيشهم في الفضاء المعرفي والأخلاقي الذي صنعته السلطة، بأوسع معانيها، خلال الأربعين عاماً التي مضت من عمر الكيان السوري، ذي الأقل من مئة عام.

الأجدى دوماً هو الانطلاق من الجديد. وهو هنا «جلاءٌ مدرسي»؛ باعتباره أثراً يمكن أن يختزل كامل الأيديولوجيا التي تقف، أو ربما ستقف، خلف العمليّة التنمويّة الأكثر أهميّة والأشد حساسيّة الآن وفي كل آن: العمليّة التربويّة والتعليميّة.

مجمل ما كُتب على صفحتي الجلاء السوري الجديد يحيل إلى هويّة إسلاميّة، لا تأبه لهويّتها المحليّة: سوريّتها. ينتمي جلّ ما كُتب إلى ثقافة إسلاميّة عامّة ترتجل لنفسها بعض «الأفكار».

يبدأ الجلاء، في صفحته الأولى بعبارتي التشّهد وحديث لمحمد رسول الإسلام «إنّ الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم». ويضم على صفحته الأخيرة مجموعتين من «الأفكار»، قد تمّثل المنطلقات والغايات «السياسيّة» لصانعيه. لا يمكن نقد تلك «الأفكار» انطلاقاً من هويّة أيديولوجيّة مناهضة لأسلمة العمليّة التربويّة والتعليميّة إلاّ إن وضعت في حسبانها أنّ الأمر، في الأساس والجوهر، إنّما يتمحور حول بناء «السوري الجديد»: الطالب المدرسي حاليّاً. وليس، قطعاً، انطلاقاً من حسابات «السلطة».

يرد تحت عنوان مبادئنا أربع أفكار يهمّنا منها اثنتان: «الشريعة الإسلاميّة هي الموّجه الرئيس في العمليّة التربويّة والتعليميّة…». «ترسيخ اللغة العربيّة… لأنّها تمّثل حقيقة انتمائنا للدين والأمّة». أمّا تحت عنوان طالبنا فترد أربع أفكار أخرى، أوّلها «هو (الطالب)  إنسان مسلم يعتز بدينه وأمّته ووطنه وتاريخه»، وأيضاً «طالب نعمل على الرقيّ بتفكيره أوّلاً، ثمّ نمنحه حريّة اختيار مبادئه واتجاهاته».

الارتجال واضح جداً. التناقض أيضاً. يتردد صانعو الجلاء بين حدّين: الوصاية والحريّة. تصدر الأولى عن ثقافة شعبيّة، أقرب إلى الشفويّة، ترى إلى التلميذ «المسلم طبعاً!» فرداً قاصراً، وترى إلى الإسلام و«شريعته» و«لغته» منهجاً ودرباً لإنضاج ذاك الفرد. في حين تصدر الثانيّة عن الثوّرة.. طبعاً.

يسعى صانعو الجلاء  إلى «الرقي» بالطالب/الفرد، لكنه سعيهم هذا ينطلق من تأطير يعلّب الفرد في صفة «الإنسان المسلم»، الأمر الذي يتناقض جوهرياً مع غاية ذلك المسعى «حريّة الاختيار». هذا ما يمكن أن يسمى، في الفقه الإسلامي نفسه، «تناقض في الحدود»، إذ كيف يمكن المربي أن يوفّق بين سعيه للرقيّ بالفرد وانطلاقه، في مسعاه هذا، من مسبقات ومطلقات (دينيّة كانت أم غير دينيةّ) تشكّل نقيضاً للحريّة أيّاً كانت تعبيراتها، بدءاً بحرية السؤال والكشف والإبداع والتفكير، وصولاً إلى تلك الحريّة الخام، المطلقة، غائمة الملامح، التي لهجت حناجرُ السوريين المنتفضين بالهتاف لها في مطلع الثوّرة، حين لم يكونوا بعد قادرين على صنع هتاف أو أهزوجة للتعبير عن غاياتهم، فكان الاكتفاء بالصراخ «حريّة حريّة حريّة» هو تكثيف لكل تلك الغايات غير المعرّفة، وبوّابة دخولهم إلى لحظة الثوّرة بصفتها وجوداً إنسانيّاً مكتملاً.

الجلاء المدرسي السوري الجديد هو نتاج مجتمع سوري محلي؛ حلبي في سياقنا هذا، «يُتأتئ» إذ يسعى لتنظيم شؤونه ذاتيّاً، لكنّه يقدّم نفسه نيّئاً، دون مواربة ودون «شعارات». تهيّمن عليه ثقافة إسلاميّة عامّة يرى فيها مرآة لنفسه دون حساب متبّصر في الغايات النهائيّة.

لا شك أنّ «سياسة» و«سياسيين» يقفون وراء أمر إصدار نسخة الجلاء بالصورة التي ظهر عليها؛ بكلمة أخرى، ثمّة مصالح سلطويّة في الأمر. وليس ثمّة اعتراض مبدئي على هذا، فالجميع يفعلون ذلك، لكنّ حين تتعلّق المسألة بـ«التربيّة والتعليم»، أيّ ما يمكن اعتباره كامل المستقبل الذي ستنهض عليه سوريا ما بعد الأسد، يكون «التدجين» و«التعليب»، كما هما دائماً، مرفوضين بالمطلق.

هي معركة، إذاً، لجميع المعنيين، لاسيمّا هواة العلمانيّة من جميع الأصناف، الذين عليهم، كما فعل حلبيو الهيئة الشرعيّة، السعي إلى صناعة «جلائهم»!