مع بداية الألفية الجديدة، صدر للفيلسوف الفرنسي إدغار موران كتاب يحمل شكل دليلٍ لتربويّي المستقبل، يخطّ فيها طرقاً سبعة لمستقبل تعليمي رؤيوي يندمج فيه الفرد مع نفسه ومجتمعه ومع العالم والكوكب على العموم، منها مثلاً التعليم البيمنهاجي لفهم غير أحادي أو بؤري للظواهر والحقائق، ومنها كذلك إدخال الشرط الإنساني في كل مقاربة علمية أو مناهجية مهما كان مجال الدراسة قريباً من العلوم الدقيقة؛ ومنها أيضاً تعليم المواطنة العالمية لأطفال المستقبل، إفهامهم أن مصيرهم مرتبط بمصير الإنسانية جمعاء… إلخ.
ومن بين الطرق السبعة طريقة يتوجب تذكرها وتمثلها حتى العمق في مثل هذه الأيام الظلماء التي يمر بها مشرقنا، مفادها أنه على إنسان المستقبل أن يتعلم التعامل مع اللامتوقع، ومع ما لا يمكن التنبؤ به بمرونة وسلاسة، فتجربة القرن العشرين أثبتت صعوبة التنبؤ بمآلات المغامرة الإنسانية المتهورة وغير المحسوبة، بدءاً من إرهاصات الحرب العالمية الأولى وصولاً إلى انتخابات بوش الابن والحرب على أفغانستان والعراق.
اليوم، وبعد مرور سبعة وعشرين شهراً على آذار 2011، نرى بوضوح أن الثورة السورية كانت تكثيفاً لمقولة المآلات غير المحسوبة للمغامرة الإنسانية، ليس بمعنى أن من ثار لكرامته وحريته كان مغامراً مهداراً. الثائر مغامر حكماً، ولكن الحقّ الجليّ الذي دفعه في مغامرته وشكّل منتهاه لا يقبل النسبية كقيمة عليا، حتى لو تعثر المسار أو فشل، وما أكثر الأمثلة في التاريخ عن قضايا محقة عادلة لم يُنجر مبتغاها. ولكن المغامرة ساهم ويساهم فيها كل الأطراف، بدءاً من التمثيل السياسي للثورة من قوى المعارضة الديمقراطية (وغير الديمقراطية) وانتهاءً بالقوة الدولية المؤثرة، مروراً بالقوى الإقليمية. المعارضة غامرت في تعويلها على سرعة نجاح الثورة المسلحة، وفي تعويلها على المساندة الدولية غير المتلكئة، وفي تحالفها غير المشروط مع قوى لا تسعى بالضرورة للتصور نفسه عن دولة المستقبل، وفي تغاضيها عن أخطاء متكررة من داخل الثورة. القوى الدولية بدورها تعوّل على تصوراتها القديمة قدم الاستعمار، بأن سوريا والشرق الأوسط على العموم ملعب دوليّ متاح، كما كانت عليه الحال في بداية القرن العشرين، دون حساب للزمن أو لنتائج استدامة العنف. أما القوى الإقليمية فمغامراتها تُختزل إلى المعنى الأول المبتذل لكلمة مغامرة، باقتحام أمكنة جديدة وادعاء السيطرة على الموقف برمته، كما يفعل حزب الله بإشراف إيران. أما النظام فقد تجاوز حدود اللامتوقع بمراحل في مغامرته الفاشية. وبالنتيجة يواجه الإنسان السوري معاشاً ومصيراً لم يكن باستطاعته استشرافهما.
إلا أن ما يهمّنا من مقولة «مجابهة اللامتوقع» في الحقيقة ليس جزء المغامرة منها، فذلك أصبح بديهية لا تحتاج إلى استدلالات، استبطنها الفرد السوري أكثر من أي فرد آخر. شعوره المخيّب بأن قدره لا يخصّه ولكن يخصّ لاعبين آخرين. الجزء المفيد للتأمل هو جزء المجابهة. كيف نجابه اللامتوقع وكيف نعلّم الأجيال القادمة ذلك؟ يبدو لي أن أول خطوة مهمة تكمن في الفهم الموضوعي لحقيقة نحاول إنكارها باستمرار بإكثارنا من التفجع على ما وصلنا إليه، الحقيقة هي أن شعباً كاملاً يمكنه أن يفنى، وثقافة بأكملها قابلة للفناء، وفي النهاية أن كوكباً كاملاً قابل للفناء، إن تم التشبّث في كل مرة بنفس الآليات المكرورة والمجرّبة آلاف المرات دون أن نغير مقاربتنا للحقائق والوقائع.
في هذه المرحلة من عمر الثورة، وبمواجهة مآلات لم يكن يتوقعها الكثيرون، اللهم إلا المتنبّئين الملهمين، يجدر من باب المرونة ومجابهة اللامتوقع اجتراح أشكالٍ جديدة في المقاومة، ويبدو أن المجتمع السوري في المناطق المحاصرة التي تُركت لمصيرها دون الحد الأدنى من سبل العيش يقوم الآن باجتراح تلك الأشكال ليصمد ويعيش ويجابه ظروفاً لم يتخيلها يوماً، ويواجه خصوماً جدداً يحاولون بسط سطوتهم الجديدة بحد السيف. يبقى أن الاجتراح السياسي قد يطول أمداً قبل إفرازات جديدة، إلا إذا انطلقت السياسة مجدداً من أشكال مجتمعية وهيئات جديدة لا يمكن لأحد أن يتنبأ بها.