هذه دعوةٌ إلى مناقشةِ فيدرالية على أساس طائفي. كذا ومن البداية دعونا نكن واضحين، ربّما لأنّ الإنكار لم يعد ذا جدوى في إخفاء حقيقة أنّ السوريين ليسوا شعباً واحداً كما اقترحت الشعارات الأولى للثورة السورية. كذلك لم يعد مقنعاً الركون إلى التنوع الذي يشهده الوعاء الحاضن السُنّي كحجةٍ لا يكفّ البعض عن إشهارها كلّما احتدم الجدل حدَّ الدعوة إلى التقسيم، ربّما لأنّه بات واضحاً أنّ انقسام العرب السُنّة بين إسلاميين ومدنيين، أو بين فقراءٍ مهمّشين وطبقةٍ وسطى وأغنياء، أو حتى بين أهل مدنٍ وأبناء قرى، كل هذه الانقسامات «الأفقية» لا تعني الآخرين بشيء، «السُنّة هم السُنّة” هكذا يبدو الانقسام الشاقولي ماثلاً لدى الآخرين، العموم من العلويين والمسيحيين والأكراد والدروز والإسماعليين.

على أنّ الفصامية التي قامت عليها الوطنية السورية تُغشي الأبصار عن الصدوع الأصيلة التي قام عليها الوطن السوري. غداً قد تجد العلويين، في خندقٍ واحد مع السُنّة المدنيين، يطالبون ألا تكون الشريعة الإسلامية مصدراً أوحد للتشريع. البواعث مختلفة بطبيعة الحال، ربّما لأنّ العلويين أو المسيحيين أو الدروز، الرافضين لهذا حينها، لا يرفضون الأمر من منطلق إيمانهم بحرية الفرد، أو حتى بالتناقض الأساسي الذي تشكله الشريعة الإسلامية معها، ولكن يرفضونها لأنّها شريعة الآخرين. وبين الأمرين على أي حالٍ يكمن فرقٌ هام، أو لعلّه يكمن بينها كلّ الفرق.

ينبغي أن نحول الصراع من طابعه الشاقولي، الماهوي، والعصيّ بالتالي على الحل، إلى صراعٍ أفقيٍ في داخل كلّ مكون من مكونات المعقد السوري. الصراع القادم حتميةٌ تاريخية على أية حال، ولكنّ من العبث أن نبقى أسرى لصراع الجماعات. ينبغي أن يتحول الصراع إلى مؤدّاه الأصيل؛ الصراع بين أنصار الفرد وأنصار الجماعة. يبدو أنّ هذا لن يحصل ما دمنا معاً، كذلك يبدو من الأفضل أن نفترق لوهلة، أقلّه ريثما يخوض الفرد صراعه الخاص في كل جماعة، السُنّي مع السُنّة، والكردي مع الأكراد، والعلوي مع العلويين، والدرزي مع الدروز، والمسيحي مع المسيحيين… هذا قد يأخذ وقتاً لكنّ الصراع بين الجماعات سيأخذ كل الوقت.

هل هذه دعوةٌ إلى المحاصصة؟ قطعاً لا. ربّما لأنّ التقسيم بأي حال أفضل من المحاصصة التي تعلّب الفرد في الجماعة، مرةً واحدة وإلى الأبد. كذلك ليست هذه دعوةً إلى التقسيم، ليس بعد على أية حال. لا يزال لدينا هامشٌ للمناورة، وإن كان يضيق مع استمرار تعنّتنا بالإنصات إلى بعضنا، أو حتى الاعتراف بهوياتنا المختلفة. هذه على أية حالٍ دعوةٌ إلى الفيدرالية، لا شيء أكثر، ولا شيء أقل. لا داعي للقول هنا أنّ اللامركزية أقل من الفيدرالية.

الجمهورية السورية الثالثة ليست كسابقتيها، أقلّه لناحية فيض الدماء الذي أُزهق في سبيل قيامها. ينبغي ألا تحمل عوامل تفجّرها كسابقتيها. الدكتاتورية عاملٌ واحد، وثمّة عوامل أخرى أودت بنا إلى هذا الذي يحدث، منها التقيّة التي غدت طابعاً وطنياً لبلادنا، ومنها الإصرار على بنىً فكريةٍ فوقية لا تمت لحياة الناس ولا لأنماط عيشهم بصلة. فلنعترف أنّ الأمور أعقد من مستبدٍ بائسٍ كالأسد، أو حتى من منظومةٍ إقليمية مهترئة لم تكن لتقف بأي حالٍ في وجهنا لو كنّا حقاً واحداً. كذلك فلنكفّ عن تأليه الطاغية من خلال تعظيم شأنه؛ الرجل مرّ عبرنا لا غير، تماماً كما فعل والده قبلاً؛ حنكة الرجلين أتفه من أن تكون ذا شأن. ولكنّ تركيبتنا الوطنية من الغباء على ما يبدو بحيث لا تحتاج براعة الذكاء لاختراقها.