قبل شهرين تقريباً من ظهور الأمين العام لحزب الله حسن نصر الله على «شاشاته» المنتشرة بكثرة في قاعات تعج بأناس حجّوا لملاقاة «سيّدهم” خطيباً، كانت الخيبة ترن في صوت مواطن جنوبي يتحدث عبر الهاتف إلى برنامج همزة وصل على إذاعة النور التابعة لحزب الله. أصل الخيبة الممتزجة باليأس، لا بالتمرد، هو الأسف الذي يبديه المواطن على وضع معيشي يكابده مع أبناء قريته وعموم الجنوبيين. يشتكي المواطن من كلّ شيء تقريباً؛ انعدام الكهرباء والماء النظيف أوّلاً، ولنا أن نتمم القائمة ببقيّة «الأساسيات” التي تمّثل حاجات لا غنى عنها لمواطن يحيا، أو يريد أن يحيا، في القرن الواحد والعشرين.

ينعطف حديث المواطن، فجأة، إلى التذكير بالمناسبة العزيزة على قلوب الجنوبيين: «التحرير». يستند إليّها كي يلفت نظر «السيّد” و«الأستاذ” إلى أوضاع عيشهم. يمتنّ للمناسبة، يعبّر عن سعادته بها، ويقول (دون أن يفعل!) أنّ صانع «الإنجاز الوطني اللبناني» هو المواطن الجنوبي ولا أحد سواه.

الإنجاز الذي تحوّل بلغة «السيّد” إلى «نصر إلهي»، و بلغة المصالح إلى رأسمال سياسي وأخلاقي ينبغي له أن يُصرف في خدمة قضايا نبيلة، أوّلها، بالنسبة للمواطن الجنوبي وكل مواطن، تلبية احتياجاته الأساسيّة.

يقع المواطن الجنوبي في الفخ (أمّ أنّ حسن النيّة هو ما يقود إلى الاعتقاد بذلك؟!) حين يعتبر أنّ «الإنجاز» سابق الذكر هو نتاج عمل مقاوم اضطلعت بأمر تحقيقه «المقاومة». لا يُطالب المواطن الجنوبي أن ينظر إلى الأمر، أمر «التحرير»، باعتباره نتيجة، ربما كانت غير مأمولة أو منتظرة من حزب طائفي يؤدي دوراً وظيفياً لا أكثر، يخدم به جميع الأطراف الفاعلة في المنطقة: إيران وسوريا في المقدمة طبعاً… وإسرائيل نفسها أحياناً!

رغم ذلك لا بدّ أن يُرى إلى «التفكير الفطري» الذي يمارسه ذاك المواطن، لا شعورياً على الأرجح، باعتباره تفكيراً سياسياً حكيماً، منطلقه ومنطقه هو سؤال جوهري وصحيح: ما الغاية من «تحرير» الوطن إن لم ينعكس، على المواطن، تحرّراً من ثقل الحاجات والأساسيات في المقام الأوّل؟!

كان رد فعل المذيعة، على الانعطافة التي قام بها المواطن من «الحديث المعيشي»؛ السياسي اليومي، إلى حديث «التحرير» السياسي الاستراتيجي متوّقعاً. لكنّه أيضاً كان مخزيّاً ومفجعاً، خلواً من الروح؛ بلا تعاطف ولا تضامن. حاولت أن تلملم الحديث وأن تختصره لتنجح في غضون أقل من دقيقة بإنهائه. لسان حالها، في الجوهر، هو لسان حال «القمع السلطوي» أينما حل وبأيّة شكل تجلى.

حاولت المذيعة أن «تنزّه» اسم «السيّد» عن حديث «العبد.. الفقير إلى الله»؛ المواطن اللبناني الجنوبي الذي يكشف عن همومه اليوميّة. الحديث عن المشاكل المعيشيّة ممكن، وربما مطلوب، فهو يعطي الحزب وإذاعته هيئة «رافعي الصوت ضد الظلم والتهميش»، ويساهم في تفريغ نقمة «الجماهير» أيّاً كان مصدرها. إذ، ثمّة في النهاية، من يشتكي علناً. ولكن حين يصل الأمر إلى «تدنيس الرموز في وحل الواقع» فليس على المواطن/الرعيّة سوى أن.. يخرس.

الأمر شبيه جداً بحالة النظام السوري. وكيف «لحبيبَين» أن يختلفا في شيء!

كان مسموحاً ومرغوباً أن يُشهر المواطن السوري (الجنوبي، كليّاً، هو الآخر، وعلى طريقته) سيف نقده على الحكومة وسياساتها الاقتصاديّة. أنتجت هذه «الحريّة النقديّة» جموعاً من «محترفي النقد الاقتصادويين»، وربما كان الأصح تسميّتهم «الشكّائين»، أبرزهم في هذا المجال وأكثرهم ألقاً «المعارض السوري» الذي أسّس عبر حزبه (حزب الإرادة الشعبيّة) كتائب المقاومة السوريّة: الدكتور قدري جميل!

لا يمكن «للقضايا الكبيرة» سوى أن تلتهم تلك الصغيرة. ولا يمكن للأخيرة سوى أن تشكل كامل الحياة بالنسبة لأناس عاديين، هم أنفسهم من يعيدون صياغتها بوصفها معجزة. فهؤلاء هم «ملح الأرض».

لا يمكن «للقضايا الكبيرة»، حين تتحوّل إلى أوثان وأصنام، وبعبارة أخرى مطايا لأصحاب المصالح من عبدة السلطة والثروة والنفوذ، ولا شيء آخر سوى ما ذُكر، غير أن تلتهم حياة الناس العاديين، أيّ الحياة بأحرف كبيرة.

في نهاية الأمر، لا بدّ أن يصاب المرء بالحيرة عند مقاربة مسألة الجدوى من قول كلّ ما سبق قوله. تبدأ الحيرة من مشاهدة «أهالي الجنوب» الفرحين بعودة أبنائهم في نعوش تُطلق حولها الزغاريد ويُنثر فوقها الأرز. نعوش قادمة من القصير، أو غيرها من المدن السوريّة الثائرة التي تدّنسها قوات احتلال أجنبيّة وطائفيّة. بدأ الأمر في القصير، بصورة علنيّة وبكامل أوصاف القبح والوقاحة والعربدة. القصير، المدينة السوريّة الصغيرة، التي يقطنها «جنوبيون» أيضاً، حيث ليس ثمّة أيّة «إسرائيل» بالطبع. ولا تنتهي الحيرة، التي تتصاعد لتتحوّل إلى أسف ممزوج بالنقمة، عند أمّ جنوبيّة قررت حمل السلاح بعد «استشهاد» ابنها، لتقاتل… في القصير!