طرح عبد الحميد سليمان في مقالته «لم لا تكون الجمهورية الثالثة فيدرالية؟» على صفحات مجموعة الجمهورية للدراسات فكرة «الفيدرالية على أساس طائفي»، مبيّناً فيها حيثيات الفكرة، ومسوّغاتها، ومبرّراتها التاريخية. وهذه مجرّد أفكار أوليّة سريعة، ربما كان من الضروري أن تأتي سريعاً بعد نشر هذه المقالة.
لا شك أن طرح الفكرة إلى العلن في مقالة رسمية تنشرها «مجموعة الجمهورية» (من دون أن تتبنّاها) هي خطوة شجاعة أخرى للخوض في المناطق المحرّمة. غير أنّ مقاربة المسألة على النحو الذي فعلته المقالة هي مقاربة تعتورها بعض الهنات والفجوات، التي لا أحمّل كاتب المقالة مسؤوليتها، باعتباره استبق الحديث كلّه باعتبار مقالته «دعوة إلى مناقشة» فحسب.
وكاستجابة أوّلية إلى هذه الدعوة، تجدر الإشارة إلى نقطتين رئيسيتين:
-الجمهورية السوريّة الأولى لم تستكمل خطواتها لإنجاز مهمات تأسيس الهويّة الوطنيّة، بل إنّ الطبقة السياسية هربت من مسؤولياتها هذه باتجاه تحقيق شعار الوحدة العربيّة، باتجاه «وهب سوريّة على طبق من ذهب إلى جمال عبد الناصر»، وفق ما عبّر عنه حازم صاغيّة يوماً. الفشل جعل هذه الجمهورية تتهرب من مسؤولياتها في تأسيس وتجذير الهوية الوطنيّة السوريّة، وتمضي باتجاه القوميّة العربيّة.
-الجمهورية السورية الثانية، التي استكملت ملامحها بالجمهورية الأسديّة، لم تكن في الواقع سوى «فيدرالية طوائف غير معلنة»، وفق ما عبّر عنه كنان قوجة يوماً. وقد تهرّبت هذه الجمهورية أيضاً من مسؤولياتها في تأسيس وتجذير الهوية الوطنيّة السوريّة، باتجاه القومية العربية شعاراً/تقيّة، وباتجاه ما دون الوطنيّة تطبيقاً.
لكن تجدر الإشارة إلى نقطة ثالثة أشار إليها غسان سلامة، وينبغي التنبّه إليها دوماً عند الحديث عن التقسيم، وهي أن الجغرافيا الوطنيّة بعد الحرب العالمية الثانية باتت في معظم الدول تكتسي بقوة تماسك ذاتي في الدفاع عن نفسها، وذلك بفضل عوامل داخلية وخارجيّة عديدة. إذ مهما كانت عوامل التقسيم واضحة، فليس من السهل تفتيت الحدود الوطنية للدولة (السودان مثلاً) إلا إذا اكتسبت قضية التقسيم قوّة تجعلها تتفوق على قوة التماسك الذاتيّ تلك.
بيد أنّ طرح المقالة، إذ يميل إلى براغماتيّة شكليّة في النظر إلى ما يجري في سوريا، ينطوي على محاذير، وربما اعترافات وإقرارات إشكالية ينبغي التنبّه لها، ودراستها، ودحضها:
-المكوّنات الأساسية في سوريّة هي مكوّنات طائفيّة أولاً (وقوميّة)، تعيش أطواراً غير متسقة من التطوّر بسبب ماهيّتها الطائفية.
-نظام الاستبداد ليس هو المسؤول الوحيد عن حالة الشرخ الطائفي.
-المشاكل الاقتصادية/الاجتماعية (البطالة مثلاً) التي أسهمت باندلاع شرارة الربيع العربي ليست ذات صلة بالواقع السوريّ.
-شعارات الحريّة والكرامة (وبالتالي المواطنة والديمقراطية)، التي كانت أولى شعارات الثورة السورية، لم تكن تعبّر عن حقيقة ما يريده المتظاهرون. هم في الواقع كانوا يريدون التخلّص من سيطرة العلويين على الدولة.
قد لا يقصد الكاتب تبنّي هذه الأمور بهذه الفجاجة. لكن هذا الطرح ينطوي على:
-التسليم بأنّ الخلافات الطائفية الحالية هي خلافات القرن السابع الميلادي، وليست خلافات القرن الحادي والعشرين.
-إنّ خيار قفزة إلى الوراء تتجنّب الاعتراف بإخفاق القوى الديمقراطية العلمانية المدنية في النهوض بالمسؤوليات التي طرحتها عليها الثورة، وفي إدارة المعركة القائمة، وتتحايل على هذا الإخفاق بفكرة إرادويّة يلخصها الكاتب بعبارة «ينبغي أن نحول الصراع..»، سعياً منه إلى ما يعتقد أنه تفتيت الخصم.
-إغفال أنّ المكونات الفيدرالية الطائفية، إن تحققت، فستكون مفخّخة بمشاكل طائفية ثانوية على مستوى المكوّن الفيدرالي: السنّة في دولة العلويين، الشيعة في دولة السنّة، العلويون في دولة الاسماعيليين، المسيحيين في كل الدول الفيدرالية.
الفيدرالية ليست خياراً مداناً، بل إنها تتسق مع توجّهات تشهدها الدول المتطورة، تجعل المدينة/الدولة (شنغهاي وزوانغجونغ في الصين، نيويورك وغيرها في أمريكا، دبي وأبوظبي في الإمارات) حالات حقيقية غير معلنة (ومعلنة أحياناً) من الفيدرالية.
ما أودّ قوله باختصار: الشيطان يكمن دوماً في التفاصيل. وينبغي لفكرة الفيدرالية أن تكون قوة دافعة في مسير تطوّر سورية، وليست نكوصاً. والسوريون في معظمهم أبناء مدن يرفضون النظام مدنيّاً، بغضّ النظر عن غلبة الطابع الريفي المسلّح على الثورة.
نعم، ليس في الفيدرالية ما يُخيف، فهي نمط متقدّم (ومتنوّع) من اللامركزيّة. لكن، ولكي يكون الطرح الفيدرالي عملياً قابلاً للحياة وتقدّمياً بآن معاً، ينبغي أن ينطوي على فرصة لحل المشاكل الاقتصادية والاجتماعية والسياسية، وعلى رأسها استكمال مهمات التحرر الوطني من خلال تأسيس وترسيخ وتجذير الهوية الوطنيّة السوريّة، والحكومة الرشيدة التي تتناسب مع مستوى التطوّر الاجتماعي والسياسي للسوريين وذلك من خلال دولة متماسكة الدستور والقانون والديمقراطية.