اندفع كثير من السوريين منذ البداية إلى التعبير بالكاميرا ودون أي خبرة سابقة في التعامل مع لغة الصورة.

ومنذ أكثر من سنتين نلحظ لدى سوريين تصميماً مذهلاً على التعبير بواسطة الكاميرا. يتم توثيق وتدوين الأحداث اليومية بواسطتها، وكأنما لا يملك السوريون طريقة أخرى لشرح ووصف ما يحدث في أيام ثورتهم.

أنتجت كاميرا الثورة كميات هائلة من الصور والمشاهد الحية، وقد تكفل الانترنت، يوتيوب وفيس بوك، بنشرها بسرعة.

حرصت كاميرا الثورة على نقل صور ومشاهد مظاهرات واحتجاجات سلمية، لكنها أيضا نقلت بإصرار مذهل ومنذ بداية الثورة   مشاهد قتل وموت واللحظات الأخيرة من الحياة لأفراد من عامة الناس.

كثيرة هي المشاهد ومقاطع الفيديو التي تنقل صور جريح ينزف حتى الموت أو أم تبكي ابنها الذي سقط أمامها برصاصة قناص أو أب يعانق طفله للمرة الأخيرة قبل أن يضعه في قبره.

بتصوير الموت بكل أشكاله، كانت كاميرا الثورة كأنها تواجه كاميرا أخرى، كانت تحاول تصوير استمرار حياة طبيعية بكل أشكالها من عمل ودراسة وزواج وأعياد لدى سوريين يعيشون في بلدات ومدن ليست بعيدة عن ساحات الموت الجماعي. أظن أن استمرار التناقض الشديد بين الصور المنقولة، صور الموت والحياة، قد دفع الكثير من حاملي كاميرا الثورة ومشاهدي صورها إلى حمل السلاح.

في عامها الأول بدت الصورة في الثورة قاسية فجة جارحة عنيفة، وأظنها كانت تحاول خلق صدمة عند مشاهد بقي في معظم الأحيان صامتاً بارداً مراقباً هادئاً، أو هكذا كان يحاول أن يظهر. نقل حاملو الكاميرات عبر هذه الصور رسائلهم إلى العالم، فظهرت ثورة السوريين مسالمة سلمية، مقتولة دون أدنى مقاومة، وراح العالم يصفق لبطولة أبنائها وشجاعتهم في مواجهة موتهم الجماعي.

خلال عامها الثاني، بدأ يغلب على صور الثورة السورية مشاهد السلاح والمعارك، فظهرت ثورة عنيفة قتالية قاتلة، وبدأ العالم يتوجس خوفاً من معاركها وحروبها، ويلحق بها صفات الحروب الأهلية أو الطائفية.

في بداية الثورة بدت منتجات الكاميرا وكأنها واضحة لا تحتاج إلى أي شرح أو تعليق أو توضيح، عدا عن مكان وزمان إنتاجها.

لكنها شيئاً فشيئاً، ومع استمرار حفلات الموت الجماعي، أخذت ترافقها غالباً عبارات وجمل عفوية دون أي حذف أو طمس أو تحوير. فأصبحت المشاهد المنقولة بالكاميرا تترافق مع حديث شفهي تغلب عليه مفردات وعبارات شعبية، تتناغم مع إيحاءات ودلالات المشهد الأسطوري: ثائر ضعيف شجاع في مواجهة نظام قوي، يختبئ خلف سلاحه.

عبر صور الثورة وكلماتها المرافقة، كانت كاميرا الثورة تبعث برسائل مباشرة صادمة فجة لا تراعي أبداً حساسيات ومشاعر مشاهديها أو مستمعيها، وربما كانت غريبة عن سوريين عاشوا على اجترار كلمات وعبارات مكررة باردة، وأبدعوا في فنون صناعة التورية والمواربة اللغوية وطرق التعديل والتحوير والإيحاء.

من ناحية اجتماعية، فإن أغلب منتجي صور الثورة ورسائلها الشفهية هم من فئات شعبية فقيرة مهمشة. لا يتقن هؤلاء قواعد إنتاج  النص المكتوب وأصوله، ولم يتعلموا أسراره، وأغلب الظن أنهم سئموا من صياغة مفردات وتعابير تقليدية ألفوا سماعها أو قراءتها  من نخب متعلمة تبحث عن جذور الأحداث وأسبابها، عن مبرراتها ونتائجها. تحتاج هذه النخب للوقت من أجل التفكير والتحليل قبل إنتاج نصوص ثورية، بمعنى انحيازها للثورة، نصوص تراعي حساسيات جميع القراء فتصبح رسمية صالحة للنشر.

تبدو لي الرسائل التي تبعثها الكاميرا عن طريق الصورة وحديثها المرافق كأنها تنافس أو تواجه هذه النصوص الرسمية المنحازة للثورة والصادرة عن نخب المعارضة على اختلاف تشكيلاتها.

أعتقد أن جزءاً كبيراً من إنتاج الصورة وخطابها المرافق في الثورة يمثل أحد مظاهر التعبير عن عذابات وأحلام فئات شعبية مقهورة مهمّشة وغير معترف بها تاريخياً في مجتمعاتنا، لذا تبدو وكأنها أحلام وآمال فوضوية عشوائية، طبيعية وبرية ووحشية، أو  لاعقلانية من وجهة نظر النخب التي انحازت إلى الثورة. بالمقابل تحاول هذه النخب، وهي عموماً من فئات اجتماعية مرتبطة تاريخيا بالنظام السياسي الرسمي، «الدولة»، إنتاج قراءاتها الخاصة للثورة، قراءات منظمة غالباً ومرتبة وعقلانية، تعبر عن أحلام وآمال هذه النخبة والفئات الاجتماعية التي تنحدر منها.

يبدو لي اليوم أن إنتاج كاميرا الثورة (صورة أو مشهد فيديو + حديث  شفهي) في حالة منافسة وصراع مع خطاب الثورة الرسمي.

الخطاب الرسمي للثورة مازال يستخدم في معظمه اللغة نفسها والتركيبات والدلالات المكونة لخطاب النظام نفسها، ويبدو كخليط  غير متجانس من حطام شعارات ناصرية بعثية شيوعية إخوانية، مع إشارات إلى حقوق الإنسان (إنسان متعلم غالباً، يعيش خارج سوريا، أكثر مما هو ريفي أو مهمش لم يغادر بلدته أو مدينته). في حين يغلب على إنتاج كاميرا الثورة أحاديث وإشارات وإيحاءات  قادمة من أعماق التاريخ وقصص انتصاراته الأسطورية الجذابة الساحرة، قصص وحكايات كان قد سمعها شباب الثورة في أسرهم وحاراتهم الشعبية، ثم قرأوا عنها خلال سنوات التعليم في المدارس الرسمية (حصص التاريخ والديانة)، ثم شاهدوا صورا متخيلة  عنها على شاشات التلفزة السورية والعالمية في السنوات العشر الأخيرة.

استمرار التناقض الشديد بين خطابين، وربما بين ثقافتين في مجتمعات الثورة: ثقافة شعبية + صورة + خطاب شفهي، مقابل ثقافة رسمية وخطاب عقلاني منظم بارد، قد يفسر جانباً من عجز المعارضة السياسية عن التأثير في مسار الثورة ومجتمعاتها خلال العامين المنصرمين من عمرها.