في ملاحظات حول الفكر القومي، وهو كتابٌ صغير لجورج أورويل نُشر حين كانت الحرب العالميّة الثانية تلفظ أنفاسها الأخيرة، خصص الكاتب جزءاً من نقديته لما سمّاه «البروباغندا السلاميّة» في بريطانيا، قبل وخلال الحرب، حيث يقول:«اعتادت هذه البروباغندا اختصار نفسها بالمرافعة بأن طرفي الحرب متساويان بالسوء، لكن تحليلاً متمهلاً لكتابات المثقفين السلاميين الشباب يُظهر أن ما يبدو استنكاراً متساوياً ليس كذلك، إذ تُوجّه كامل اﻻنتقادات ضد بريطانيا والولايات المتحدة، ولا يُدان العنف كعنف بالمطلق، بل فقط ذاك الصادر عن الدول الغربيّة. يُدان الغربيون حيث ﻻ يُدان الروس، وﻻ تجد في هذه الأدبيات أيّ إشارة للعنف الصادر عن روسيا أو الصين».
تحفّز قراءة انتقادات أورويل هذه على التفكير في أنماط المنطق «السلامي» في مقاربة الشأن السوري الراهن، والبحث البسيط في كتابات وآراء سياسيين وصنّاع رأي يوصلنا بسهولة إلى عشرات الأمثلة عن المساواة بين الطرفين، لا سيما بعد عسكرة الثورة وتصدّر المواجهة المسلّحة للمشهد السوري. تترفّع هذه الآراء عادةً عن السياسة واﻻجتماع واﻻقتصاد، وترفض تحليل مدخلات ومخرجات الوضع، وﻻ تقبل أيّ نقاشٍ حول سُلّم المسؤوليات عن الوضع الراهن، بل تختصر خطابها بالقول إن هناك طرفين سيئين يتصارعان، و«الشعب» ضحيتهما. بالتالي، الشعب بالنسبة لهذا المنطق هو كتلة صامتة وسالبة، خارج الصراع وليست داخله، ويبدو أصحاب هذا المنطق وكأنهم منحوا لأنفسهم حقّ تمثيل «الشعب» باسم عقلانيّة السلام، وهي عقلانيّة مُعتّدة بنفسها متفوّقة على ﻻموضوعيّة «المتورّطين».
يصحّ القول أن المنطق المُستخدم أعلاه سهل اﻻتخاذ وقليل التكلفة للمُراقب الخارجي، فهو ليس أكثر من اتخاذ موقف إنسانوي يُريح صاحبه من البحث والتقصّي عن أسباب وجذور ما يجري، أو يُعفيه من اتخاذ موقف سياسي غير مُريح. لكن، هل هو فعلاً موقف «حيادي» سياسياً؟ ﻻ نتحدّث هنا فقط عن المساواة بين من يُسخّر مقدرات الدولة وإمكانات «جيشها الوطني» دون أيّ حساب أو رادع وبين معارضيه ذوي التسلّح الأبسط والأفقر، وﻻ نتحدّث فقط عن إهمال ونسيان سلوك النظام اﻻستبدادي والإفقاري طوال أربع عقود قبل الثورة، وﻻ فقط عن تسليط الأضواء على تجاوزات كتائب الثورة بكثافة دون الاهتمام بجرائم النظام، بل أيضاً عن كُثرة اللوم والتوبيخ في خطاب الكثيرين من أصحاب هذا المنطق، والواقعَين بشكل حصري على أهل الثورة: ماذا كنتم تتوقعون؟ تعرفون أنه باطش فلماذا تستفزونه؟ وقد عبّر الكاردينال الراعي منذ شهور عن موقف مُشابه خلال تنصيب البطريرك يوحنا العاشر اليازجي في دمشق، حين قال «ما يُسمّى إصلاحات وحقوق إنسان وديمقراطيات.. هذه كلّها ﻻ تساوي دم إنسان واحد بريء يُراق». ألا يقتضي الموقف «السلامي» المُفترض، على الأقل، أن يُقال أيضاً أن القبض على السلطة واﻻستدامة على عرشها ﻻ تساوي، هي الأخرى، «دم إنسانٍ واحد بريء يُراق»؟
بالمحصّلة، يبدو أن المسؤولية، حسب هذا المنطق، تقع على من أقلق «الاستقرار» السابق، حتى لو كان استقراراً مبنياً على إعمال كل أشكال العنف السلطوي. نعود هنا إلى اﻻتفاق مع أورويل حين يقول: «من الصعب أن نتجنّب أخذ انطباع بأن المنطق السلامي، حسبما يقدّمه بعض المثقفين، إنما يُستلهم من إعجاب مُستتر بالسلطة وبمقدرتها على البطش من أجل تحقيق أهدافها».
يُفترض بنا، في مقاربة المنطق المُركّب السابق، أن نترك هامشاً من افتراض حسن النية لشطر من معتنقيه، أكان بشكل جزئي أو بشكل كامل، لا سيما أولئك البعيدين عن الواقع السوري وظروفه. لكن منطقاً آخر، قوامه لغة «معاداة الامبرياليّة» ﻻ يترك لنا إمكانية لافتراض أي درجة من حسن النيّة، ﻻ سيما وأنه غالباً ما يتمفصل على دراية، أو ادّعاء دراية، بكل خفايا الجيوسياسة الإقليمية والدوليّة، وبكل التوترات اﻻقتصادية والسياسيّة بين القوى الإقليميّة والدوليّة. ﻻ تُخفي الغالبيّة الساحقة من مجموعات «مُعاداة الامبرياليّة» تضامنها مع نظام بشار الأسد، إذ يعتبرونه حليفاً في وجه القوى الامبرياليّة وحلفائها الإقليميين، ويلجأ شطر من هذه الغالبيّة إلى تغليف موقفه هذا برياءٍ يدّعي اﻻنطلاق من مبدأ سلامي مُناهض للحرب في بناء رأي وموقف حول سوريا. هكذا، وببهلوانيّة فاقعة، تُستبدل «الحرب في سوريا» بـ«حرب على سوريا»، أي القول بأن ما يجري في سوريا ليس إﻻ حرباً إمبرياليّة عليها باستخدام «وكلاء محليين» والكثير من «التضليل الإعلامي»، والذي ينفع أيضاً كمبرر لعدم اتخاذ أي موقف من جرائم النظام ﻷنها «مُفبركة»، وبالتالي الموقف المُناهض للحرب و«المتضامن مع الشعب السوري» هو إدانة الامبرياليين ووكلائهم ودعم «السلطة الشرعية». باستخدام هذا المنطق نفهم كيف يُنظم تحالف «أوقفوا الحرب» في بريطانيا نشاطاتٍ واعتصامات ضد «الحرب في سوريا» تُشاهد فيها أعلام وشعارات النظام وصور بشار الأسد، وكيف تُوقّع عشرات التجمعات والأحزاب اليساريّة الناطقة بالإسبانيّة وثيقة طويلة بعنوان «من أجل السلام في سوريا» لا يجد قارئها ولو حرفاً واحداً خارج فرضيّة أن ما يجري في سوريا ليس إﻻ حرباً إمبرياليّة على نظامها «المُمانع» الذي ﻻ يعترفون بأيّ عيبٍ فيه، وكيف يُصدر تجمّع «أجنحة السلام»، وهو ائتلاف للعديد من الجمعيات السلاميّة في أمريكا اللاتينيّة، قائمة سوداء تحوي، حسب تعبيرهم، أسماء الشخصيات والهيئات «المتورطة في حملة التضليل والتحريض على سفك الدماء في سوريا»، لكنها في الواقع ليست إﻻ قائمة بأسماء الشخصيات والهيئات اليساريّة الناطقة بالاسبانيّة، القليلة أصلاً، التي عبّرت عن دعمها للثورة السورية.
بطبيعة الحال، ﻻ يعني ما سبق رفضاً للنزعة السلامية ومناهضة العنف لتحقيق أهداف سياسيّة، لكنه إشارة استنكار وإدانة لاختطاف معنىً سامٍ كالسلام، إما من أجل الهروب من اتخاذ موقف خارج «الحياد المريح»، أو لتغليف الانحياز لطرف النظام. ﻻ معنى لمناهضة الحرب دون موقفٍ واضح من الأسباب التي أدّت إليها، ودون تفكيك «الحرب» ليس فقط إلى أطراف، بل إلى عوامل ومنطلقات وغايات، ودون تحليل بُنية العنف وأصوله وتوزيع مسؤولياته بموضوعيّة، بعيداً عن الانحيازات الإرادويّة. دون ذلك ليس خطاب «مناهضة الحرب» إﻻ حياداً، حقيقياً كان أم مصطنعاً، بين ظالمٍ ومظلوم، وﻻ يحتاج المظلوم أن يكون ملاكاً كي يكون الحياد بينه وبين ظالمه انحيازاً للأخير.