الحدود التي تعترف بها الأمم المتحدة للجمهورية العربية السورية هي حدود الوطن السوري، وتالياً هي حدود الهوية الوطنية السورية، ويفترض في الأساطير المؤسسة للدول الوطنية أن إرادة أبنائها المشتركة هي التي تصوغ هويتها الوطنية وترسم حدودها، فهل كان هذا شأن حدود الدولة الوطنية السورية، وهل كان هذا شأن الهوية الوطنية السورية؟
ليس الجواب على سؤالنا عسيراً، فحدود الوطن السوري رُسمت بإرادة دولية محضة، ولم يختر أبناء درعا مثلاً جنسية مختلفة عن جنسية أبناء الرمثا الأردنية بمحض إرادتهم. وينطبق هذا على أغلب السوريين في واقع الحال. وربما يكون لإرادة السوريين دورٌ في عدم تجزئة الكيان الذي سمي وقتها دولة سورية إلى دول ذات صبغة طائفية، ولكن بكل تأكيد ليس عموم السوريين بل بعض نخبهم فقط. وأما القول برفض الشعب السوري لتقسيم البلاد، والقول باختياره هوية وطنية واحدة، فإنه قراءة سطحية مغرضة للتاريخ. على أن من الإنصاف القول أن غرضها وطنيٌ وحداثيٌ بامتياز. على أي حال، فإنه كان يمكن لهذه الأسطورة المؤسسة أن تتحول إلى حقيقة مستقرة في وعي السوريين لو أن وطناً حقيقياً تم بناؤه داخل هذه الحدود.
لاحقاً، لم تكن القوى السياسية التي هيمنت على الحياة السياسية في سورية وطنيةً في عمقها. لم يكن القوميون العرب والإسلاميون والشيوعيون يرون في سورية وطناً نهائياً لهم. ليست وطنيةً تلك الأيديولوجيات التي لا تضع أوطانها ومواطنيها قبل كل شيء. لم تكن سورية سوى كيان قطري مؤقت يجب إزالته لبناء دولة الأمة العربية، أو وطناً يجب توظيفه بأرضه وسكانه وماضيه وحاضره ومستقبله لخدمة الأمة الإسلامية، أو لخدمة الصراع الأممي مع الإمبريالية. ورغم أن السوريين كان لديهم نزوعٌ للاعتداد بالنفس والتميّز عمن سواهم من عرب وغير عرب، فإن الحدود السورية ووحدة الوطن السوري لم تكن تعبيراً حقيقياً عن إرادة وطنية شعبية شاملة، وكانت الهوية الوطنية السورية الناشئة تتآكل شيئاً فشيئاً بدل أن تتجذر، كانت تتآكل في الخفاء تحت وطأة الطغيان والإقصاء والقمع.
الحقيقة أن الدفاع عن وحدة التراب السوري وعن استقلال سورية وسيادتها هو خطاب وطني جامع لا غبار عليه، ولعل المتظاهرين السوريين كانوا أحرص من بعض نخبهم عليه في أشهر الثورة الأولى. إلا أنه كان أيضاً شماعةً علق عليها كثيرون مواقفهم من الثورة السورية ومآلاتها، وأعني الرافضين لحمل السلاح ضد النظام والرافضين للتدخل الخارجي على وجه الخصوص، هؤلاء الذين كانت ذريعتهم دوماً أن حمل السلاح والتدخل الخارجي سيتسببان بالإجهاز على الوطن السوري وحدوده ووحدته، ويبدو بالنسبة لقسم منهم أن بقاء الوطن السوري موحداً تحت حكم الأسد أفضل من المخاطرة باحتمال تفككه بهدف إسقاط الأسد، ولعل مما يثير الدهشة أن أكثر الرافضين لمقاومة النظام بالسلاح بحجة الحفاظ على وحدة الوطن السوري هم يساريون يؤمنون أن الوطن السوري ليس سوى محض صناعة استعمارية.
ثمة محصلة قوى دولية ومحلية صنعت للسوريين وطناً كان يمكن له أن يغدو دولة وطنية يقطنها مواطنون لولا استلابه بأيديولوجيات وأفكارٍ عابرةٍ لحدوده، ولو أنه سُمح لأبنائه أن يصيروا مواطنين فعلاً، ذلك لأن المواطنة لا تخلق من العدم بل تبنى كما تبنى الدول، وهذا ما لا يفهمه أغلب من يدَّعون أنهم نُخب الشعب السوري. وأما السوريون السائرون على درب ثورتهم بإصرار وعناد مثير للإعجاب والدهشة، فإن قسما كبيراً منهم لا يزال يرى في سورية وطناً موحداً، إلا أنهم ماضون في طريقهم إلى درجة المقامرة بهذا الوطن، ومن ثم العمل على بناء غيره إذا اقتضى الأمر، ذلك في مقابل الخلاص من الأسد وطغيانه.
إن الأوطان تبنى بإرادة أبنائها ووعيهم لمصالحهم وذواتهم، ولا توجد منذ الأزل، وإن الوطن الذي يُجهز عليه دفاع قسم من أبنائه عن أنفسهم في مواجهة الموت والطغيان، والوطن الذي يُجهز عليه تدخل قوات أجنبية، هو وطن غير جدير بالبقاء. على أي حال، لم يكن حتمياً أنّ حمل السلاح ضد النظام السوري أو أنّ التدخل الخارجي سيؤديان إلى تفكك الوطن السوري، ولعله لم يصبح حتمياً رغم كل هذا البؤس حتى الآن، ولكن ماذا إذا كان هذا صحيحاً؟ وماذا لو كنا نشهد اليوم بداية نهاية الدولة الوطنية السورية المركزية؟
مصالح السوريين وحقوقهم وتقدمهم هي مركز القضية كلها، قبل وحدة التراب السوري، وليست وحدة التراب السوري ذات قيمة ما لم تكن ممراً لضمان حقوق السوريين وتقدمهم. من هنا أصبح لا بد من فتح النقاش على مصراعيه بعقول وقلوب مفتوحة. وإذا كان ثمة من يرى أن وحدة التراب السوري هي الضامن الوحيد لتقدم السوريين، وإذا كان ثمة من يرى على الضفة الأخرى أن الحل يمكن أن يكون عبر سورية فدرالية أو حتى مقسّمة إلى دول مستقلة، فإن نجاح هذه الرؤية أو تلك مشروط بإدراك أن الدول الوطنية تُبنى متى توافر الإدراك والإرادة والمصلحة، وليس متى توافرت القصائد والأساطير والتاريخ المجيد.