على قطعة من دمشق أطلُّ، تتراكب النوافذ مثل أصوات السنونو، لتحتضن أسرار البيوت والأسى والفرح المقطَّع؛ دمشق تحيطها الثورة، بينما يستمر منشدو المآذن هنا في مدح الرسول، دمشق الصغرى جداً أيقونة ثابتة، تزعج طائراتُ الميغ فضاء حماماتها…
في أقصى اليمين عن نافذتي ومن بين الأبنية، أرى بناء القصر الرئاسي يرقب أموات الأطراف، فداريّا حزينة عند قدميه، وتغفو في السهل دمّر البلد وقدسيا والهامة من خلفه، ومن نوافذه اليمنى ترى بساتين المزة زهر ربيعٍ هناك…
صوت رصاص في الشارع الرئيسي، نسوة شاميات بأعينهن العسلية من الخص الخشبي يسترقن النظر وبحلقهنّ السمع، بانخطافٍ خائف وورَعِ مؤمن، عبثُ الفضول يدفعهن إلى نافذتهن الصغيرة التي تُريك الزقاق المعتم فقط، وأخفض الجار في عليّته صوت «أم كلثوم» ليتيقن إن كان ما سمعه رصاصاً…
«عبودة» الحلاق عتَّم ضوء دكانه، فالساعة تنوف عن العاشرة مساءً، وبقي مع صديقين أو ثلاثة يتبادلون الحديث عما يجري ولكن دون أن يجاوز همسُهم آذانهم، فما زالت سطوة النظام هنا في مركز المدينة القديمة قائمة، وعيون اللئام ترصد كل شيء وتكتب تقاريرها، لا يرى هؤلاء الشباب أنفسهم كأبطال المسلسلات الشامية: يعرفون أنهم أبعد ما يكونون عن ذلك، فالعجز عن الفعل هنا موروث ربما، تسحرهم سِيَر الثائرين في الميدان وداريا ودوما، يومض ذلك في بريق أعينهم رجاءً صامتاً…
يعترض «محمد»، الجامعي الشاب، على ولادته في حي المالكي الثريّ، يخبّئ ذلك أمام أقرانه إن استطاع، يظن أن السكن هنا عارٌ في زمن الثورة، أجبرته على شعوره هذا القولبة الظالمة في بعض الأحيان للأحياء والمناطق، فبالقرب من منزله تتحلق المطاعم والكافيهات ذات الخمس والأربع نجوم، بقعة من المدينة خارج الحدث: تتزاحم السيارات الفارهة لتجد مكاناً لركنها، وأسماء المطاعم هنا إيطالي وفرنسي وأسعارها تقارب أسعار مطاعم الشوارع الراقية جداً في لندن وباريس؛ تجلس والقصف المدفعي من أعالي قاسيون يطال الأحياء الجنوبية الفقيرة، لكن لا وقت ولا نفس لديك لتسمعها أو تلحظها، فالفساتين هنا قصيرة والأنوف مجمّلة والنهود تعلوا رغماً عنها، لا وقت للسياسة ولا وقت لأخبار الموت، فالشباب الطالع هنا يلبس أفخم الماركات وعطرُه يشابه في فخامته هاتفه المحمول، ممثلات وفنانون ورجال أعمال متصابون، ألماس وذهب أبيض، وعالم بهيّ تحرسه حواجز الشبيحة والمخابرات…
في حي الزبلطاني، «محروس» يقطع الشارع المغطى بالقناصة مسرعاً بسيارته الصغيرة الحمراء من نوع «سوزوكي بيك آب»، هو ثائر، كمحمد ابن حي المالكي، ولكن لا يعرف أن شاباً كمحمد قد يشاركه الهم في الوطن، فوطن محروس للفقراء فقط؛ ترك زوجته وابنتيه الصغيرتين الجميلتين عند أمه ريثما يعود، وقد لا يعود… محروس واحد من احتمالات القناص، وواحد من احتمالات الاعتقال لدى أحد الحواجز فقط لهويته، مملكته هذه، السوزوكي، الصغيرة عليه على الرغم من نحالته: «الله يخليلي هالعروس»… ويقصد هنا سيارته، فبها «ولو عالموت عم جيب لقمة لبناتي»، فخور هو لأنه ما زال يعمل في زمن الحرب ويقي ابنتيه الصغيرتين الفاقة، وكم يعمل محروس للثورة خارج الأضواء وخارج كل شيء…
عند نزلة العفيف يقف «خالد»، تأخر خالد كثيراً عن الزواج، جاوز الأربعين وهو ما زال يبحث عن البنت المناسبة ويتعقب الجارات ليعرف إن كنَّ عند الطلب، يرى خالد أنه، هو الحائز على تعليم عالٍ، وعلى الرغم من سوء الأحوال في البلد، يرى أننا بغنىً عن الفوضى، يكره فساد النظام ولكن هذا لا يعني أن «نسمح بخراب البلد»، ففوق العفيف وعند سوق الجمعة وبيوت الشيخ محي الدين والجادات في المهاجرين تنام خلايا للجيش الحر، ولا تتوقف المداهمات والاشتباكات في المقابر القديمة: «كان سوق المهاجرين عامراً والعقارات هناك إلى ارتفاع، وكانت جادتا شورى والوزير تُباهيان بقية الجادات في دمشق بهناءة العيش ورغده، أما الآن فمن يجاور قصر رأس النظام؟!»…
على أبواب أحد المخافر في أسواق دمشق القديمة، يتمترس عدد من شباب الجوية وعناصر شرطة عاديين من بينهم «عبد الكريم»، يعرفه شباب السوق من حمّالين وكرّاجين وباعة وأبناء تجار؛ تطوع هذا الشاب في الجيش النظامي وهو من شمال سورية وبقي هنا، قربان موت للنظام، «البارودة الروسية» التي يحملها لا تكفيه ليشارك في قتال أو هجوم وارد كل ليلة على المخفر الصغير، وماذا لأكياس الرمل القليلة أن تفعل أمام «آر بي جي» أو سيارة مفخخة؟ عندما نمرّ ليلاً نراه في زاوية المحرس ينتظر الصباح وأصحاب الحوانيت ليُكتب له نصف يوم إضافي فرصة للعيش…
تستمر الحياة في دمشق المرتبكة، جزراً على بردى، يغمز لها الموت، تركض أقدام الأطفال الصغيرة في حارات لا تعرف كيف ستكون عندما تكبر، تعرف بتعرج أزقتها الظلال والشمس، وتسجل حجارتها العتيقة أصواتنا في ترميز أبدي للبقاء؛ سيبقى إسكافيو الأرصفة يطرقون على سندانهم أحذية الفقراء طرقة سيزيفية، في هارموني مع بردى الذي لن ينضب.