بينما تدور الكثير من الأحاديث والاتهامات والتحليلات والصور حول وضع الأقليات الطائفية والعرقيّة في سوريا، يغيب عن الذكر في معظم الأحيان الأقليّة الأقلّ شهرة والتي يمكن اعتبارها إحدى الأوراق الرابحة في يد النظام الأسدي اليوم: الأقليّة السنيّة.

الأقليّة السنية، والمتمثلة بالإسلام البرجوازي السوري، هي الورقة التي يمكن لها بالفعل أن تغيّر مجرى الأحداث في سوريا اليوم، كما كان لها أن تفعل منذ الأيام الأولى للثورة. البرجوازيّة السنية نأت بنفسها عن الصراع الجاري في سوريا لفترة طويلة، ربّما لم تنتهِ حتى الآن. على العكس، فقد تكون الأكثر قلقاً وتخوّفاً من فكرة سقوط النظام واستلام إسلاميين متشددين للسلطة، أكثر أيّ فئةٍ أخرى. بل ولربما قبلت هذه الفئة التفاوض على بقاء النظام في السلطة على المغامرة بالامتيازات التي تتمتع بها. فهي تعيش علاقة وديّة مع النظام وتمتلك حريّة ممارسة ما يناسبها من الدين دون أن تشعر هي نفسها بالخطر أو تشكّل بدورها خطراً حقيقيّاً على النظام.

تنقسم هذه الأقليّة فيما بينها إلى شقين متلاصقين، الأوّل البرجوازي المتمثل بالتجار والأثرياء المقربين من السلطة لدواعٍ اقتصاديّة لا تشعرهم بالحاجة الفعلية للانتفاض ضد الفساد أو الفقر، الذي إن لم ينفعهم فهو لا يزعجهم، والثاني هو الاجتماعيّ–الدينيّ  المرتبط مباشرةً بتعريف الشقّ الأوّل لمفهوم الدين وفرز علمائه وفقهائه بما يتناسب معهم ومع السلطة. ارتباط الشقين السابق ذكرهما معاً ضمن حلقة اجتماعيّة منعزلة بنفسها عن باقي الشعب في سوريا يجعلها غريبة عن الشعور بغياب الحريّة التي ينادي بها البعض كلازمة شرطيّة من جانب، ولا تفهم صراع البقاء الذي تعيشه  باقي فئات الشعب من جانب آخر، فلا ترى أيّ داعٍ حقيقيّ لافتعال خلاف  مع النظام هو بدوره لا يزعج مساحتها بشكل يستحق التضحية بالغالي والرخيص في سبيل التخلص منه.

تجمُّع معظم هذه الفئات في كلّ من دمشق وحلب قد يفسّر تأخر الأخيرة في الدخول إلى صلب الصراع وتقاعس الأولى عن الانخراط فيه بما يكفي. فتراها، أي البرجوازيّة السنيّة الدمشقيّة، تنظر إلى الثورة نظرة ملؤها الملامة والفوقيّة متهمةً إياها بأنها تقومُ بالمغامرة  دون الرجوع إليهم كالفئة السلطويّة الأهم في المجتمع. بدأ هذا منذ أحداث درعا الأولى، التي انتقد فيها بعض المتأصلين بانتمائهم البرجوازي الدمشقي أهل درعا بأنهم كانوا يخرجون إلى المظاهرات بـ«الشحاحيط»، وصولاً إلى التعامل مع الاغتيالات الجدلية التي يقوم بها أفراد من المعارضة المسلحة في دمشق على أنها الحدث الوحيد الذي يجري في سوريا لأنه يخترق حرمة «دمشق» التي يجب أن لا تُمسّ، مهما كان َ الحاصل في باقي مدن ومحافظات سوريا، حيث يمكن المجازفة بها وبأهلها مقابل عدم وصول أزمة، أيّ أزمة، إلى دمشق. هذا المنطق ذاته انتشر سابقاً مع بداية دخول الثورة عامها الأوّل، عندما كانت حمص تخضع لحملة عسكريّة قاسية، بينما كان العديد من سكان دمشق يتذمرون من تعطيل رحلاتهم الأسبوعيّة في أيام الجُمَع من قبل المحتجين والمتظاهرين من باقي فئات الشعب في ريف دمشق، وهو ما يتكرر اليوم في حلب الغربيّة، الثريّة، المحاصرة من قبل الجيش الحر، حنقاً وانتقاماً ربما.

وهنا يمكن القول بأنّ لهذه الفئة أسبابها كي لا ترى الحاجة للثورة، بل وعلى العكس فلربما كانت الثورة قد أقلقت جزءًا من راحة ممارستها السلطويّة من جهة، وراحتها الأمنيّة من جهة أخرى. وفي هذا الشأن فإنّ هذه الفئة من السوريين لا تبالغ أو تدعي عندما ترى نفسها ضحيّة ضمن الصراع وتطلق حملات وقف القتال والاتجاه نحو الحب ّ لحل ّ المسألة.

وقد يكون أكثر من فهم هذه الآلية واستطاع قراءة المعادلة بشكل صحيح هو رئيس الائتلاف السابق معاذ الخطيب، ما قد يفسر شهرته والتفاف شرائح مختلفة من المجتمع السوري حوله والقبول بحلول لم تكن لتكون مقبولة لو طرحت من أحد غيره. خاطب الخطيب الشعب السوري بمختلف شرائحه عن طريق توجيه خطابه إلى هذه الفئة أولاً. الخطيب، غير الملتحي وغير المتشدد والذي كان في الثورة واعتُقل في سياقها، هو إمام الجامع الأمويّ في دمشق سابقاً وابن البيئة الدمشقيّة التي يتقن لغتها ويعرف مخارجها، لذا كان لخطابه وقع حسن ضمن أوساطها (إن لم يكن بدعم منها بشكل مباشر أو غير مباشر) إذ ظهر بحلة الرجل الدمشقي الذي استطاع تطمين الأقليّة السنيّة عن طريق خطابه غير المتشدد أولاً والملتزم ثانياً، دون الدخول كندّ أو خصم للغالبيّة الأخرى من الشعب.

من جانبٍ آخر، لن يقبل النظام خسارة هذه الفئة الأقرب ما تكون إلى جانبهِ وإن بحياد صامت. فوجود هذه الأقلية في صفّ النظام أو على الحياد تغذي روايته بأنه يقاتل جماعات إرهابيّة سلفيّة وحسب أمام الرأي العام العالمي، فإسلام هذه الفئة هو التعريف الأمثل للإسلام المعتدل والتعايش الديني وعلمانيّة الدولة ورخائها الاقتصادي وقدرتها على التواصل والتعبير عن نفسها دينياً وثقافياً، على عكس ما يظهره الإعلام عن إسلام الثورة الذي تبدو عليه الأمارات المعَولمة للتشدد كالتكبير واللحى وسائر ما ينمـّي علامات الإسلاموفوبيا المرتبطة بالجهاد والسلاح.

ويبقى السؤال مفتوحاً عن مدى قدرة أو حاجة الثورة لتقديم «تطمينات» لهذه الأقليّة، التي كثيراً ما كانت أقرب للأنظمة منها إلى الثورات؛ الطبقة البرجوازيّة بانتمائها إلى نفسها والمتحجرة بالتعامل مع التغيير، بشكلٍ خاص ذاك القادم من الطبقات المسحوقة ضمن حلقتها الاجتماعيّة. تفرز التعريف الدينيّ المناسب في المجتمع بكونها الطبقة التي تمتلك القوّة الاقتصاديّة والنفوذ الاجتماعيّ اللازم لإفراز التعريف النمطيّ للدين والتدين في المجتمع.