ﻻ ندري إن كان رأس النظام السوري قد أصيب بنوبة سُعال جراء الغبار المتطاير من فتح صندوق الذكريات خلال حواره مع صحيفة «البعث» المنشور اليوم. عبارات من طراز «إمكانيّة تحقيق الوحدة العربيّة»، و«المشروع القومي العربي هو المُستهدف»، أو «حزب البعث مُستهدف»، أو «هويتنا قوميّة عربيّة مُعتدلة»، أو حتى الإشارة لبشار الأسد بوصفه «الرفيق الأمين القطري لحزب البعث»، كلها تنتمي إلى أزمنة منتهية من مسيرة النظام، ولتلك الحقب ينتمي أيضاً اكتراث «الرفيق الأمين القطري» بالتواصل مع «قواعد الحزب» عبر «جريدة البعثيين»، أو حتى حضور حزب البعث أو خطابه في المجال المُحيط بالصورة العامة لرأس النظام.

في هذا المجال، يصحّ القول إن ثقل حزب البعث في الحكم لم يضمحل على يد بشار الأسد، بل كان والده هو صانع إفراغ الحزب من مضمونه السياسي، عن طريق تحويله القسري من كيان فرِط النشاط المكائدي السياسي-العسكري، ذي حياة داخلية أشبه بعش دبابير متصارعة، إلى مجرد هيئة مُدجّنة، مختصّة بتنظيم تعبيرات الولاء الأعمى للقائد وإدارة توزيع المُكافآت المناصبيّة على الأنشط تعبيراً. لكن هذا التعقيم السياسي لم يمنع  اقتران الحزب رمزياً بالدولة، وﻻ أن تكون لغة الحزب وشعاراته هي لغة رأس السلطة في خطاباته وأن يكون لون الحزب موجوداً في المظهر العام لـ«الرفيق المناضل». عدا ذلك، كان المسؤولون الحزبيون الكبار أكثر حضوراً من مسؤولين حكوميين كوزراء أو مدراء عامين في الحياة العامة، المُقتصرة فعلياً على تدشينات وزيارات ميدانية لمشاريع صناعية وزراعية أو مهرجانات حزبيّة، وﻻ نشاط «جماهيري» إلا عبر المنظمات الشعبية البعثية كالطلائع والشبيبة واتحادات العمّال والفلاحين. حتّى النشاط العلني لأنيسة مخلوف، «السيدة الأولى» آنذاك، كان يقتصر على رعاية مدارس أبناء الشهداء، إحدى إنجازات الحزب القائد لرعاية أبناء الشهداء الذين سقطوا في حروبٍ هي كلّها –أيضاً– من إنجازات الحزب القائد.

الحياة العامّة في سوريا كانت «بعثيّة» بشكلٍ طاغٍ في كامل عهد حافظ الأسد.

تغيّر الخطاب العام للنظام بعد وفاة الأب وتوريث الابن، فالدور البروتوكولي لحزب البعث في عمليّة التوريث تلاشى بعد أقل من سنتين ليتصاعد التعاطي مع الحزب على أنه تركة ثقيلة، كجثّة معلّقة على رقبة الوريث، فقُرن تارةً بـ«الحرس القديم»، وقيل عنه تارةً أخرى أنه بحاجة لإعادة تأسيس كاملة، وسُرّب تارةً ثالثة أن إيديولوجيا الأسد الابن ليست بعثيّة أصلاً، بل أنه سيسعى، حالما تتحسّن الظروف الإقليمية، لتأسيس حزبه الخاص، والذي سيحمل أفكاراً شبابية وعصريّة. هكذا، وتناغماً مع أحداث إقليميّة ودوليّة متتالية، لا سيما اغتيال رفيق الحريري وخروج الجيش السوري من لبنان، اختفت «القضيّة العربيّة» لتحلّ «الممانعة» محلّها، وأصبحت الأعلام السوريّة المقرونة بصور الوريث الشعار الأوحد للولاء «الوطني»، تُجاورها شعارات حزب الله (وحماس بدرجة أقل) بوصفهم شركاء في «محور المقاومة»، ولم يُسجّل لحزب البعث ظهورٌ مهم في تلك المرحلة عدا المؤتمر القطري العاشر عام 2005، والذي لم يُنتج إﻻ استنساخات عن خطاب الأسد الابن حول «التطوير والتحديث»، وكلّها بقيت مجرّد حبراً على ورق. ومع دخول النصف الثاني من العقد أُبعد الحزب حتّى عن صفته كمُنظّم لتعبيرات الولاء، لتحلّ محلّه رعايات شركات حيتان الفساد المرتبطين بالنظام، وعلى رأسها «سيريتيل». وخسرت «المنظمات الشعبيّة»، لا سيما طلائع البعث وشبيبة الثورة، موقعاً احتكارياً لصالح هيئات ومنظمات راعية للطفولة والشباب، مثل مشاريع «مسار» أو «بصمة»، ذات مظهر مدني و«حضاري» ﻻ إيديولوجي، وجميعها نتاج مزيج من رعاية الشركات آنفة الذكر وحملة العلاقات العامة لأسماء الأخرس، «السيّدة الأولى» الجديدة.

تزامناً مع هذا التحوّل المؤسساتي، طرأ تحوّل خطابي وثقافي جذري في سلوك ومنطق مؤيدي النظام، فالحقبة القوميّة العربيّة في عهد الأسد الأب تحوّلت إلى «قوميّة سوريّة» أيام الأسد الابن، ليس فقط بسبب شرعنة الوجود العلني للحزب القومي السوري بعد عام 2000 والسماح له بالظهور الرمزي أكثر من كل أحزاب «الجبهة الوطنيّة التقدميّة» مجتمعة، وأيضاً ليس فقط ﻷننا اليوم قد نجد عشرات من يصفون أنفسهم «قوميين سوريين» في جمهور موالي النظام الشباب مقابل كلّ واحدٍ يعرّف عن نفسه كـ«بعثي» (هذا إن وُجدوا)، بل بسبب طريقة تعريف الشطر الأعظم من هذا الجمهور الموالي الشابّ عن سوريا، وهي مزيج عجيب من الفرعنة المصريّة في عهد مبارك والمنطق الكتائبي اللبناني، والقائمة على عدوانيّة شديدة تجاه العرب ككل (وليس فقط ضد الأنظمة الحاكمة) وإحالة الأصالة السوريّة إلى الحقب الوثنية والمسيحيّة من تاريخها، واعتبار الفتح الإسلامي عدواناً على هذه «الأصالة» ودفناً لها، وإقران هذا التعريف الهوياتي بتفسير ثقافوي للمشكلات الاجتماعيّة بإرجاعها لمُعتقدات «الشعب المتخلّف»، وبالتالي اقتراح حلول «تنويريّة» ذات منحى علمانوي قسري. ويُكثر لسان التأييد الجديد من الحديث عن «بدو» و«عربان» وحتّى «أبناء الرمال» حسب تعبير المخرج نجدت آنزور، ومكانَ الشعراء والكتّاب العروبيين أيام الأسد الأب أصبحنا نجد مكانةً كبيرة لأسماء مثل نضال نعيسة ونبيل فيّاض في صناعة «ثقافة» المؤيدين للنظام، ووحده الإجهار الفاضح بمحبّة إسرائيل منع وفاء سلطان من الحصول على مقعد مركزي في هذا المجال.

تعمّق هذا التحوّل مع انطلاق الثورة السوريّة، وازدادت العدوانية تجاه المُركّب الهوياتي العربي-الإسلامي بشكل شبه هوَسي عند جمهور الموالاة، وأضحى العنف اللفظي تجاه عرب الخليج من مستوى ما يُقال عن إسرائيل، ترافقاً مع تطرّف هذا المنطق ازداد يُتم حزب البعث، والذي قُدم كتضحية سهلة من قبل النظام في كلّ لحظة، وأُقصي من القيادة الاسميّة للدولة والمجتمع في مشروع الدستور الجديد الذي قدّمه النظام، ولم يُنظّم له اجتماع أو مؤتمر قيادي ذو قيمة طيلة عامين ونصف، وأُهمل تعيين شخصيات جديدة في المناصب القياديّة الشاغرة لوفاة أصحابها أو انشقاقهم، وغُيّب الحزب وقياداته عن إعلام النظام لصالح تيار قدري جميل والحزب القومي السوري. لهذا السبب ربما يجدر التوقف مع إعادة ظهور حزب البعث مرّتين خلال الأيام القليلة الماضية، مرّة مع تجديد هيئاته القياديّة وإقصاء كلّ الأسماء «التاريخيّة»، بما فيها اسم فاروق الشرع، ومرّة أخرى مع حوار رأس النظام مع جريدة الحزب وبصفته الحزبيّة.

هل هناك محاولة لإعادة إحياء حزب البعث بطريقة ما؟ ولماذا؟ قد تكون الإجابة على السؤالين مُجازفة في تسرّعها، لكن جزءاً من حديث الأسد لصحيفة «البعث» قد يُساهم في توقّع بعض الأمور، حيث قال، بعد التأكيد على هويـ(تنا) العربيّة: «الهويّة العربيّة بدأت تعود لموقعها الصحيح بعد سقوط الإخوان المسلمين». هل يريد بشار الأسد الاستثمار بعثياً في العالم العربي عموماً، ومصر خصوصاً، بعد سقوط حكم الإخوان المسلمين في مصر؟ لم يفقد بشار الأسد دعم القوميين العرب، بعثيين كانوا أم غير بعثيين، منذ بداية الثورة في سوريا، حيث لم ينقطع وصول الوفود الحزبية والنقابية القوميّة إلى دمشق للتعبير عن الوقوف مع النظام في وجه «المؤامرة» المُحاكة ضدّه، لكنّ الصفة السياديّة لهذه التجمعات والأحزاب غائبة في بلادها، والطابع الهامشيّ طاغٍ على أغلبها، لذلك لم يحتج الأسد للاستثمار فيها أكثر من استقبالها ومنحها حيّزاً إعلامياً، ولم تُطالب هي بأكثر من التحلّق حول خطاب «الممانعة» دون مكانة مختلفة عن أحزاب وحركات يساريّة ويمينيّة قوميّة مُعادية للمسلمين من مختلف أنحاء العالم. لكن ضخامة الحدث المصري، وفرص التحوّلات الجذريّة التي يُحتمل أن تظهر في المنطقة إثره قد تشجّع على محاولة الاستثمار في تيارات الحنين إلى الناصريّة، أو حتى في جمهور «الفلول» (ﻻ ننسى هنا معاملة «أحمد سبايدر»، الرمز الفلولي المُراهق والأخرق، مُعاملة كبار الزوّار في سوريا)، وذلك من باب إعادة إحياء العروبة كإطار عمل لمواجهة «الإسلام السياسي».

يبقى أن نتساءل عن إمكانيّات هذه الفرضيّة في إنجاز جسور وصل تُخرج النظام من عُزلته الجماهيريّة عن العالم العربي، والحقيقة أن سلوك الشخصيات ذات الطابع القومي في مصر، ومنها حمدين صباحي، المرشّح الرئاسي السابق الذي حاز المركز الثالث في اﻻنتخابات الرئاسيّة المصريّة العام الماضي، محققاً نتائج ممتازة في المدن الكبرى، والذي تحوّل من مُناصرة الثورة السوريّة بوصفها جزءاً من «الربيع العربي» إلى وصفها بالحرب الطائفيّة والتعبير عن موقفه الداعم لـ«الدولة السوريّة»، حتى «ولو كان في ذلك دعم لبشار الأسد»، يدلّ على أن هناك منطقاً مشتركاً بالحدّ الأدنى للتفاعل، منطقاً قد يكفي، برفقة تقديم بشار الأسد ككاشف مبكّر لخبث الإخوان المسلميّن ومُبرهن نجيب على أن القوّة وحدها تُجدي معهم، في جعل هذه الفرضيّة قابلة للتصديق، وللتحقيق أيضاً.