إضاءات

بين ياسين الحافظ ومدرسة فرانكفورت، بدأ التحول الداخلي عندي نحو فكر –ماركسي أو غير ماركسي– معنيّ بالأسئلة والنقد، لا باليقينيات
بدون الحرية، سنبقى محكومين ببُنى بطريركية أو قبلية مغلّفة بأيديولوجيات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين
لا نزال نعاني من الرضّة الاجتماعية والفكرية التي أحدثها انهيار المشاريع القومية واليسارية في المنطقة
علينا أن نتخلى عن وهم الثورات السريعة والنظيفة
الإسلام السياسي اليوم يعبّر عن أزمة المجتمعات العربية، وتحديداً البرجوازيات الصغيرة فيها، أكثر مما يعبّر عن فكر ديني بحت
الربيع العربي يعني بالأساس أنه ما من حركة سياسية قادرة على استغباء الجماهير، وأن عملية الرقابة اليومية على الأداء السياسي مستمرة.

يبدو لي، ولا أدري إن كنت توافقني الرأي، أن الحرية والديمقراطية كقيم أو كمفاهيم بقيت هامشية في الفكر العربي الحديث والمعاصر، ولا سيما لو قورنت بمفاهيم أخرى من مثل «الحداثة»، «التمدن»، «الهوية»، أو «العدالة»… لذلك يتحدث كثير من المثقفين من أبناء جيلك عن لحظة ما أعادوا من خلالها اكتشاف أهمية الحرية السياسية وأولوية النضال من أجل الديمقراطية. هل كان في حياة حسام عيتاني لحظة بعينها من هذا القبيل؟ ربما تحدثنا عنها فنستطيع عبرها التعرف على مسيرتك الفكرية؟

بلا شك. في الحقيقة أتحدر فكرياً وسياسياً من خلفية ماركسية، ورثتها عن والدي ثم أعدت النظر فيها. اللحظة التأسيسية كانت بالنسبة لي في أوائل التسعينات، إثر انهيار الاتحاد السوفياتي والتحولات الجذرية التي شملت كل أوربا الشرقية حينها. عجزُ اليسار عن شرح  أسباب الأزمة دفعني في اتجاهات جديدة، فتعرفت على المثقف السوري ياسين الحافظ من خلال كتابه «الهزيمة والأيديولوجيا المهزومة»، الذي كان بالنسبة لي وقتها أشبه بحمام ماء بارد. بدأت عندها التساؤلات والبحث عن أجوبة جديدة بعيداً عن يقينيات اليسار السوفييتي.

كان الحزب الشيوعي اللبناني يمرّ في نفس الوقت بأزمة خانقة بعد نهاية الحرب الأهلية اللبنانية، إثر منع الحزب من ممارسة المقاومة وانقطاع الدعم السوفييتي عنه. كان واجباً على المرء ليحافظ على قدر من التوازن الشخصي أن يفتش ويتساءل. في تلك الفترة بدأتُ أيضاً بقراءة الكثير من الإسلاميات، وبدأت التعرف على الفكر الماركسي المعارض للتجربة السوفييتية. كانت فترة أسئلة وامتحان صعب، شعرنا حينها أن ما ضحّينا وحملنا السلاح من أجله تبخر، وأننا أصبحنا وحيدين في اللامكان، أو في مكان أشبه بالصحراء.

بين ياسين الحافظ وقتها ومدرسة فرانكفورت، بدأ التحول الداخلي عندي نحو فكر –ماركسي أو غير ماركسي– معنيّ بالأسئلة والنقد، لا باليقينيات. تلك كانت لحظة البداية.

كيف تصنّف نفسك الآن إذاً؟ هل ترتاح أن تعرف نفسك كليبرالي مثلاً؟

الليبرالية مصطلح إشكالي، فهي قد تعني شيئاً ما في بلد مثل فرنسا وشيئاً آخر تماماً في الأدبيات السياسية الأمريكية. وفي الحقيقة سؤالك يعيدني إلى التساؤل عن قيمة الكثير من المصطلحات والمفاهيم والتعريفات الأساسية التي نستعملها حالياً  للتفكير بشكل أكثر تنظيماً أو منهجية. مصطلح «يساري» اليوم بات يشمل مروحة عريضة من المثقفين، وكذلك «ليبرالي»، ولكن ما من تعريف واضح أو مفيد لهذين المفهومين.

الحقيقة أن مصطلحات كهذه باتت اليوم ضحية التراشق والاتهامات التي يُكيلها بعض المثقفين للآخر… من مثال «ليبرالي وهابي» أو «يساري صفوي» أو «مهدوي». الابتذال والاستهلاك الإعلامي لمصطلحات كهذه هو بالأساس ناتج عن مرحلة الضبابية المعرفية التي نعيشها. نحن اليوم في وضع لا نفهم معه أين نحن تماماً. بعض من يقدّمون انفسهم كمثقفين يعملون على إسقاط الكثير من المفاهيم على الواقع، وقد ينجحون في الترويج لها في بعض الأحيان إعلامياً… لكن المعنى الحقيقي يبقى غائباً.

تتحدث عن الضبابية الفكرية وكأنها حالة استثنائية يمكن تجاوزها. ألا تعتقد أن الخطوة الأولى نحو فكر ديمقراطي هي التوقف عن البحث عن يقين ما والقبول أن الضبابية الفكرية قد تكون القاعدة لا الاستثناء؟

صحيح، فالواقع مركب. لكنك بحاجة أن تتبين خطواتك القادمة وهذا يتطلب الإجابة عن بعض الأسئلة، وبالتحديد تبيّن المصالح والقيم التي تريد التعبير عنها و/أو العمل من أجلها. بالنسبة لي حالياً، فإن القيمة الاساسية في قاموسي هي الحرية، ويأتي من بعدها أهداف أخرى كالعدالة. بدون الحرية، سنبقى محكومين ببُنى بطريركية أو قبلية مغلّفة بأيديولوجيات القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.

دعنا ننتقل إلى الربيع العربي، دون أن نترك الشأن الفكري أو الأيديولوجي تماماً. ألا ترى أن الثورات العربية أتت من دون مقدمات أو تأسيس فكري، لا بل كانت إلى حد ما انتفاضة على الثقافة العربية أيضاً، في حين يُعرف عن الثورات الأوروبية الكبرى، ولا سيما الفرنسية، أنها قامت على قاعدة فكرية صلبة قدّمتها فلسفة التنوير؟

السؤال هنا برأيي يُعيدنا إلى جوهر علاقة حركة الفكر بحركة الواقع، أيّ منهما يسبق الآخر. لا أعتقد صراحةً أن الفرنسيين الذين اقتحموا سجن الباستيل (لحظة اشتعال الثورة الفرنسية) كانوا بمعظمهم من قراء فولتير وروسّو، أو أن دافع الثوار للثورة كان فلسفة التنوير. حركة الواقع سباقة على حركة الفكر. هناك ضرورة واقعية تفرض نفسها وتفرز حراكاً معيناً، وحينها فقط تبرز الخيارات لدى المثقف: إما أن يقف موقفاً نخبوياً متكبراً أو أن ينخرط ليفهم ويفسّر ما يجري، وليدفع الحراك إلى الأمام، بعيداً عن الفعل الغوغائي الفارغ، تماماً كما فعل مثقفون ثوريون مثل سان جوست وسان سيمون. هؤلاء أعطوا الثورة الفرنسية معناها، وربطوا بينها وبين فلسفة التنوير، بعد أن كانت الثورة قد قامت فعلاً. وهذا يختلف عن قولنا أن فلسفة التنوير أتت أولاً وقدمت القاعدة الفكرية الصلبة التي قامت عليها الثورة. الأمور لا تجري بهذه الصورة.

الربيع العربي حالة شبيهة. هو فرصة تاريخية للخروج من الاستبداد في العالم العربي لا يمكن أن نشترط عليها مساراٌ أو التزاماً فكرياً معيناً. هل يحق للمثقف أن يقف موقف المتفرج النخبوي، الذي يطالب الحراك بمراعاة حساسياته الفكرية أو موقفه تجاه الدين؟ أم أن على المثقف الانخراط مع الناس لفهم حساسياتهم وأهدافهم ومساعداتهم على تحقيق التغييرات المطلوبة بأقل كلفة ممكنة؟ هكذا أفهم دور الكاتب وطبيعة علاقة الفكر بالثورة.

من هذا الباب دعني أسألك عن أثر الربيع العربي على حسام عيتاني ككاتب. ما الذي أوضحته حركة الواقع العربي خلال السنوات الثلاث الماضية لك، بالمقارنة مع قناعاتك الفكرية والسياسية السابقة؟

تعقيدات الواقع باتت واضحة أكثر، وبات واضحاً أكثر إفلاس المناهج الفكرية القائمة على التجريد المعرفي. مناهج ميشيل فوكو أو إدوارد سعيد لم تعد تقنعني صراحة، وأرى أن الامور باتت تتجاوز ثنائية السلطة–المعرفة. الواقع أكثر تعقيداً من القوالب الجاهزة كالماركسية أو فلسفة فوكو ما بعد البنيوية، التي لا شك أنها قوالب مفيدة لكنها لا تحيط بالواقع. ظواهر من مثل الطائفة، أو حركة الريف وعلاقته بالمدن في سوريا، ما من صيغة جاهزة قادرة على شرحها كلياً. أي محاولة لشرح ما يجري في العالم العربي بآلية وحدة أو بصيغة واحدة ستسقط من تلقاء نفسها، لأن خصوصية كل دولة وتشعّب الواقع المعاش سيكشفان فشل تلك الآلية في تفسير ما يجري.

لم يعد مقبولاً تلخيص الواقع بإرجاعه إلى خطاب معرفي ما، أو «إبستيم»، ثم التعويل على المثقفين والنخب لإنتاج خطاب معرفي مناهض أو مختلف. هناك مصالح ووقائع مادية مُعاشة يجب أن نتعامل معها. كما أنه لم يعد مقبولاً إلقاء جميع أخطائنا وعثراتنا على الإمبريالية أو الماضي الاستعماري. نحن مجتمعات راشدة، علينا أن نتحمل مسؤولية ما ننتجه من استبداد أو عنف، وإلا كيف نكون قادرين على تحقيق الاستقلال الحقيقي لاحقاً؟

الثورة السورية تحديداً كشفت لي سخافة المدرسة العالمثالثية ضمن اليسار، والتي تؤكد على أولوية محاربة الامبريالية على النضال الديمقراطي، دون الأخذ بعين الاعتبار أن طبيعة الإمبريالية قد تغيرت أصلاً وباتت أكثر خبثاً وتغلغلاً في أنظمة يعتبرها المعسكر هذا «ممانِعة»، أو دون الأخذ بعين الاعتبار أن القضية الفلسطينية تغيرت جذرياً أيضاً، فبات فيها انقسام وطني صارخ. مقاربة القضايا الخارجية التي يواجهها العالم العربي بنظرة الستينات والسبعينات كارثة. القضايا الداخلية تغيرت أيضاً، بتنا أمام تغول اكبر لنخب سياسية اقتصادية وحصر أكبر للسلطة والمال، ترافق في بلد مثل سوريا على سبيل المثال مع انفجار سكاني  مما أنتج واقعاً مريراً في الأرياف السورية خلال العقد الأول من القرن الـ21. المواطن السوري لم يعد يتحمل، وهو ليس مضطراً لأن يتحمل فقط كي لا يحرج النخب المعادية للإمبريالية التي ترى في نظام الأسد عنصر ممانعة أو مقاومة.

دعنا ننتقل إلى محور آخر يثير الكثير من اللغط هذه الأيام. يبدو لي أننا نشهد اليوم في سوريا نوعاً من «إعادة اكتشاف» الهويات الأهلية المكوّنة للمجتمع السوري، الطائفية منها أو الإثنية، والتي عمل الفكر القومي وحكم الحزب الواحد على طمسها أو التصرف على أساس أنها آيلة حكماً إلى الزوال. هل تعتقد أن التحول الديمقراطي في بلد تعددي مثل سوريا يفترض حكماً إعادة الاعتبار للهويات تلك، وصولاً ربما إلى تأسيس نظام شبيه بالصيغة اللبنانية أو العراقية القائمتين على المحاصصة؟ ما هو الموقف «الأفضل» بالمعنى السياسي والأخلاقي برأيك للمثقف الديمقراطي تجاه الهويات الاهلية؟ وهل من الواقعي التعويل على مشروع الدولة الوطنية المدنية بعد كل ما جرى ويجري الآن؟

هنا في الحقيقة نلامس واحدة من أكثر المواضيع دقةً وجوهريةً في الصراع الدائر في المشرق حالياً. باختصار، التجربة التاريخية لأنظمة «المكونات»، القائمة في لبنان والعراق، أثبتت أنها تعتمد بشكل بنيوي على الرعاية الخارجية، أي نوع من أنواع الإشراف الأجنبي الضامن. لبنان نشأ عام ١٩٤٣ بتوافق غربي–عربي، أو –بشكل أكثر تحديداً– نتيجة تفاهم بين بريطانيا وحلفائها العرب في المنطقة. عام ١٩٥٨، تجدّد التوافق هذا بين النظام الناصري والولايات المتحدة الأمريكية. أما اتفاق الطائف فكان أيضاً نتيجة توافق سوري–سعودي–أمريكي. في العراق أيضاً هناك نوع من أنواع التوافق الضمني بين إيران والولايات المتحدة أتاح انسحاب القوات الامريكية في عام ٢٠١٠ واعترافاً بنفوذ ايران ضمن إطار فيدرالي فضفاض.

هذا التوافق هشّ، وهو غائب في لبنان منذ ٢٠٠٥، بعد انسحاب الجيش السوري وتعذّر توافق إيراني–سعودي. في سوريا اليوم، لا يبدو أن توافقاً إقليمياً أو دولياً من هذا القبيل ممكن، أقله في المدى المنظور. السعودية وإيران تكادان تكونان في صراع مفتوح اليوم، والغرب كذلك لا يبدو مستعداً للسماح لإيران بالسيطرة على سوريا. الأزمة اليوم هي أنه لا لغة مشتركة بين مكونات المجتمع، ولا توافق اقليمي يدفعها إلى العمل سوياً.

دعني أطلب منك هنا أن نعود خطوة إلى الوراء، قبل الوصول إلى الواقع السياسي الحالي. على الصعيد المعياري أو القيمي، هل أنت مع ضرورة الاعتراف بوجود جماعات أهلية، ومع الحديث عن «عقل جماعي» يعبّر عن مكون دون آخر؟ إثر مقالة لك عن الحالة العلوية في سوريا، مثلاً، تلقّيت بعض النقد من هذا الباب تحديداً، باب عدم جواز التعميم عن طائفة أو مجموعة بعينها.

الموضوع دقيق. بلا شك، لا تملك الجماعات الأهلية عقولاً أو «شخصيات» ثابتة أو متجانسة. تلك خرافة استشراقية. ولكن، في الوقت عينه، تلك المجموعات موجودة ويُعاد إنتاجها لأسباب موضوعية تتعلق بنمط من أنماط العولمة السياسية والاقتصادية التي ارتبط المشرق من خلالها بالغرب والعالم، أكثر بكثير من الخلافات المذهبية أو الرغبة في حماية المقامات. لا يوجد عقل جماعي إذاً، لكن ضمن كل مجموعة هناك نخب ثقافية تدّعي الدفاع عن مصالح هذه المجموعات، وتلك النخب تبدو مرشحة للبقاء والبروز ضمن التركيبة الإقليمية والدولية الحالية.

نحن في الحقيقة لا نزال نعاني من الرضّة الاجتماعية والفكرية التي أحدثها انهيار المشاريع القومية واليسارية في المنطقة. العودة الحالية إلى الهويات الأهلية ليست عبارة عن حنين طفولي إلى الماضي. هي إعادة اختراع لتلك الهويات برعاية سياسية واقتصادية إقليمية واضحة. المجتمع النقيض الذي تحدث عنه غرامشي ماثل اليوم أمام أعيننا في لبنان، له مدارس ومستشفيات ونظام أمن وطرق مواصلات، وبمعزل عن باقي المجتمعات. إلى اي مدى يتحكم المجتمع النقيض هذا بالطائفة ككل؟ يختلف ذلك من حالة إلى أخرى، لكنه موجود، ولذلك فنحن لا نستطيع تجاهله، ولا يجب بنفس الوقت أن تُختصر به أي مجموعة اهلية.

في ظل وجود هذه الواقع، وبما أن الاستبداد العادل أو مشروع الدولة الأتاتوركية أو البونابرتية بات خلفنا، أقله عند الحديث عن المعسكر الديمقراطي من المثقفين، ما هو الحل؟ ما الذي يجب علينا فعله تجاه مجموعات أهلية موجودة ولا يجب قمعها، لكنها أيضا بالشكل السياسي التحاصصي التي تقتضيه تستجلب نوعاً من الرعاية الأجنبية وعدم الاستقرار الموسمي؟

في لبنان نحن أمام أزمة. جزء من المشكلة أنه، باستثناء النخب العلمانية، لا يبدو أن التناحر الطائفي يشكل مشكلة لمعظم أبناء الشعب. النظام السياسي الحالي لا يعمل، لكنه يؤمّن بنفس الوقت منفذاً لجميع الطوائف لكي تتقاسم مقدرات الدولة والمجتمع، وهذا بدوره يرسّخ التقسيم الطائفي في البلد. نحن في نظام أزمة، لكن عوارض الأزمة تعيد إنتاج أسبابها وتُدخلنا في حلقة مفرغة. في الحقيقة ليست حلقة مفرغة تماماً وإنما حلقة حلزونية متجهة نحو الأسفل باستمرار.

في سوريا، هناك دماء يومية تجعل أي حديث عن حل أو تصور أصعب، وكل يوم تتبلور أكثر القوى غير المعنية ببقاء سوريا كما كانت. باعتقادي، يجب أن نقبل أن الحل سيكون بعيداً عن شكل الدولة المركزية الذي ساد حتى الآن. ستكون هناك درجة عالية من اللامركزية، وصولاً إلى الفيدرالية. هناك مناطق لها خصوصية، وغداً، أعتقد عندما تبدأ النقاشات، لن يتنازل أحد عن حصته في القرار السياسي. الحساسيات هنا ليست محصورة بالطوائف والقوميات، وإنما أيضا الفروق المناطقية بين منطقة مثل درعا وما قدمته من تضحيات –على سبيل المثال– وبين العاصمة دمشق من جهة أخرى. الانقسام الطائفي والمناطقي لا يمكن إلا أن يكون حاضراً في صيغة الحل القادم في سوريا.

على المثقف الديمقراطي أولاً أن يتخلى عن الأوهام. نموذج المواطنة على النمط الفرنسي أو الأنجلوسكسوني ليس ممكناً بعد كل ما جرى، وبعد كل الأحقاد التي نمت وترسخت خلال السنتين الماضيتين. الحل يقتضي عدم الاختباء خلف الإصبع. المشاكل بين المجموعات موجودة ولا تبدو في طور الانحسار، بل على العكس. لذا عندما تسنح الفرصة للسوريين للبدء ببناء دولتهم المستقبلية، سيكون عليهم أن يروا أن أي محاولة للهيمنة من طرف أو آخر هي تحضير لجولة صراع أو عنف أخرى، وأن هذه الهيمنة لا تعبر عن نفسها بشكل طائفي فقط وإنما عن طريق أيديولوجيات عابرة للطوائف أيضاً. فلنقرّ أن هناك مجموعات لا تريد التعبير عن نفسها إلا من الباب القومي، كالأكراد مثلاً، وأن هناك تمايزات قديمة وجديدة لا يمكن قمعها. بالرغم من كراهة الكلمة، لا بد من نوع من المحاصصة. هذا ممرّ إجباري يجب أن تمرّ به سوريا.

ليس من الحتمي أن تكون التجربة السورية إعادة إنتاج للتجارب اللبنانية والعراقية الفاشلة. لبنان والعراق غير مستقرَين بسبب اعتماد نظاميهما السياسيين أو مكوناتهما على توافق ورعاية إقليمية. تجارب التحاصص السياسي قد تستجلب رعاية أجنبية كشرط لوجودها في البداية، لكنها لا تنجح إلا إذا أسست لتوافق حقيقي بين أبناء الشعب أنفسهم والتزامهم بعقد اجتماعي يضمنوه هم لا الرعاة الإقليميون. بهذا المعنى، الخارج قد يكون شرط وجود نظام مثل النظام اللبناني أو العراقي، لكن الاستقلال الحقيقي هو الضامن لنجاح نظام كهذا على المدى البعيد. عندها، نستطيع الحديث عن نماذج فيدرالية متقدمة وشبيهة بالحالة السويسرية أو الألمانية أو غيرها.

ماذا عن اللحظة الراهنة في سوريا؟ هل بتنا جزءاً من صراع سنّي شيعي قد يمتد لعقود، أم أن هناك أملاً للخروج من هذه الدوامة؟ وماذا عن حقيقة أن الامبراطورية الإيرانية التي تحدثت مرة عن عدم توافر شروط موضوعية لها تبدو أكثر قوة وأكثر هيمنة اليوم من خلال الصراع في سوريا؟

علينا أن نتخلى عن وهم الثورات السريعة والنظيفة. في مصر سقط حسني مبارك خلال ثمانية عشر يوماً، لكن المخاض الثوري لا يزال مستمراً حتى اليوم. الثورات تنطوي دائماً على حرب أهلية، والأمثلة الفرنسية والبلشفية وحتى الإيرانية حاضرة، هناك دوماً نوع من الحرب الأهلية وانكشاف على تدخل خارجي. الحل السياسي حتى الآن غير متوافر، فبشار الأسد لا يعترف بالمعارضة أصلاً.

الوضع في سوريا إذاً مرشح للاستمرار والتعرض لمزيد من التعقيد، المزيد من الدماء والتمدد الإيراني والضخّ الخليجي للمال والسلاح/ والمزيد من «الأمراض الثورية الطفولية» من انقسامات وصراعات داخلية ضمن صفوف الثوار. لكني مصرّ أيضاً على أن المشروع الإمبراطوري الإيراني غير قادر على النهوض، لأنه لا يقوم على قاعدة اقتصادية صلبة أو على نموذج فكري أو سياسي مقبول لدى المحيط، باستثناء الشيعة العرب. إيران اليوم ضعيفة، ولا أعتقد أنها تريد أن تدفع باتجاه دولة علوية تصبح عالة اقتصادية عليها. وإيران لا تستطيع أن تحمل لبنانَين.

بالانتقال إلى محور آخر،  كيف ينظر حسام عيتاني للتحدي التي تطرحه الحركات الإسلامية تجاه عملية الانتقال نحو الديمقراطية في العالم العربي؟ ولا سيما أنه بالنسبة للكثير من النخب الثقافية غير الإسلامية لا يزال تحدي التنوير والتحديث قائماً، ولا يزال مدخل فهم العلاقة مع الإسلام السياسي يمرّ عبر الاعتقاد بأولوية الإصلاح الديني. أين يقف حسام عيتاني تجاه هذا الجدل؟

أعتقد أولاً أن علينا الإقرار بأنه ما من إسلام واحد، بل إسلامات متعددة. هناك إسلام محمد عبده وإسلام رشيد رضا، مثلاً، وهناك أيضاً علاقة شائكة بين الإسلام الحركي الصاعد مع حسن البنا، من جهة، وإسلام المؤسسات الدينية كالأزهر وغيرها، من جهة أخرى. اليوم إن نظرنا إلى حركة الإخوان المسلمين في مصر، وجدنا أن معظم أقطابها ليسوا من رجال الدين، بل من خريجي الجامعات وأصحاب الشهادات العلمية، ممن علينا أن نعرف جذورهم الاجتماعية قبل ––أو بالتوازي مع– فكرهم الإسلامي، لنفهم من هم وماذا يريدون. بالمقابل، اعترض الأزهر تاريخياً على حركات إسلامية من هذا القبيل، ليس فقط من داعي الإفتاء بما يتوافق مع ولي الامر وإنما من باب التحفظ المبدئي على توظيف الإسلام في حركة سياسية بهذه الطريقة.

الإسلام السياسي اليوم يعبّر عن أزمة المجتمعات العربية، وتحديداً البرجوازيات الصغيرة فيها، أكثر مما يعبّر عن عودة الهويات أو عن فكر ديني بحت، وعلينا أن نتذكر أن الاسلام السياسي هذا لا يتجاوز عمره المئة سنة.

لكن ألا يوجد، بعيداً عن هذه التمايزات، جوهر قارّ في الدين الاسلامي قد يكون بحاجة إلى تحديث، أو إعادة نظر، ليتلاءم مع متطلبات الحياة الحديثة؟ أم أن على المثقف الديمقراطي أن يعتبر أن نظرة ثقافية كهذه باتت خلفنا أيضاً أو أنها باتت أقل أهمية من الديناميكيات السياسية المُعاشة؟

لا. علينا الاهتمام بالإسلام السياسي كما بالدين كدين، لأن الأخير يُستخدم اليوم كفتاوى ضد المثقفين وغير المثقفين في المجتمع. لكن بنفس الوقت، علينا أن نشدد على فصل أو كسر الارتباط الذي يؤكد عليه الإسلام السياسي بينه كأيديولوجيا وبين الفقه والشريعة والممارسة الدينية بشكل عام. الإسلام السياسي هو نتيجة أزمة حضارية وسياسية أولاً وأخيراً.

أن نقول إن الاسلام ليس متناقضاً مع الديمقراطية لأنه متعدد ومتنوع لا يعني ألا نكون واعين للعداء للديمقراطية عند بعض حركات الإسلام السياسي، مثل القاعدة أو جبهة النصرة أو غيرها. في وجه هؤلاء علينا أن نطرح سؤال نصر حامد أبو زيد نفسه: من أعطى حق التأويل لتلك الحركات؟ علينا أن نشكك بشرعية التفسيرات وبمصادرها، والتأكيد أن التأويل يفترض دائماً الاختلاف ويفترض نوعاً من التعددية. التأويل في الحقيقة عملية صراعية سياسية، ولذلك فإنه ما من طرف يحق له احتكار الحقيقة باسم النص الديني.

مع بروز الحركات الاسلامية في جميع دول الربيع العربي، هل باستطاعتنا اليوم أن نقول ان الربيع العربي في الواقع نقل الصراع على المعنى الحقيقي للإسلام من الحيز الثقافي إلى السياسي؟

بلا شك. الصراع على النصّ وعلى المعنى هو بالحقيقة صراع على الفضاء العام وعلى الشرعية وعلى كيفية تطور المجتمعات. لكنه لا بد أيضاً أن يتناول الجانب الفقهي والفكري بسبب مضمون التشريعات المطروحة. هذه عملية تاريخية متعددة الجوانب يجب أن تأخذ مجراها.

النقطة الأهم هي أنه ما من وصفة سحرية، وفي حال كانت الانتخابات ستأتي بالإسلاميين فعلينا أن نخوض هذه التجربة والتعويل على الحرية وعلى الصراع السياسي لكي يفتح لنا مخارج جديدة ومعطيات جديدة تزيل السحر عن الأحزاب الإسلامية وتضعهم في مواجهة التحديات السياسية والاقتصادية اليومية (وهذا ما جرى في مصر مع محمد مرسي) .

أنا لست متخوفاً. الربيع العربي يعني بالأساس أنه ما من حركة سياسية قادرة على استغباء الجماهير، وأن عملية الرقابة اليومية على الأداء السياسي مستمرة. المرحلة السابقة انتهت ولن تعود، والمرحلة القادمة ستكون مرحلة انتقالية لا أكثر. لا أعول على عصر ذهبي جديد، وإنما على ما عناه الربيع العربي من استئناف التاريخ وإعادة تحريك المجتمع.