في بداية الثورة السورية، وحتى نهاية عام 2011 تقريباً، كان الثائرون يرفعون العلم السوري الرسمي نفسه: شريط أفقي أحمر، وتحته شريط أبيض بنجمتين خضراوين، ثم شريط أسود في الأسفل. يوافق هذا الطور عموماً طور المظاهرات السلمية بين أنشطة السوريين الاحتجاجية، ومنطقه الضمني أن الثائرين والثورة هم سورية العامة التي طمسها النظام، وأن العلم رمز سورية العامة، المنتفضة، بينما صورة بشار وأبيه، وقد خصهما الثائرون بأشد عنفهم في مراحل الثورة الباكرة، رمزان لسورية الخاصة، المستبدة، «سورية الأسد». كان رفع العلم في مظاهرة شعبية تهتف بإسقاط النظام يقيم تطابقاً مرغوباً بين هذا العلم و«الشعب» الذي يريد، وتطابقاً آخر مرفوضاً بين الصور و«النظام» المراد إسقاطه.
بعد هذا الطور أخذ بالظهور «علم الاستقلال»، العلم الرسمي السوري بين أواخر عشرينات القرن العشرين وحتى الوحدة السورية المصرية (1958)، وهو أيضا علم «حكم الانفصال» (1958-1963)، ويبدو أنه ظل يرفع لبعض الوقت في مطلع الزمن البعثي. وهذا في أعلاه شريط أفقي أخضر، ثم شريط أبيض عليه 3 نجوم حمر، وفي الأسفل شريط أسود. وخلال عام 2012 صار هذا العلم هو رمز الثورة وعلامة على تعمق الصراع السوري، وإرادة تجاوز الصفحة البعثية من تاريخ البلد. كانت الثورة السورية طالت أمداً قياساً إلى الثورتين التونسية والمصرية، وأخذ النموذج الليبي المعتمِد على قطيعة عسكرية ورمزية مع النظام يجتذب قطاعات أوسع من سوريين تحولوا تدريجياً إلى مقاومة النظام بالسلاح.
وفي صيف 2012، أخذت تظهر بتواتر لافت راية سوداء كُتب عليها بالأبيض عبارة «لا إله إلا الله». وفي بعض أشكالها مساحة بيضاء، عليها ما يفترض أنه ختم أسود، وفي قلبها بالأبيض «محمد رسول الله». هذا الشكل الأخير هو علم «جبهة النصرة»، أو بالأحرى «راية» الجبهة حسب الكلمة المفضلة عند القوم. «جبهة النصرة» تشكلت في مطلع 2012، وأعلنت في نيسان من هذا العام ارتباطها بمنظمة القاعدة (بايعت الشيخ أيمن الظواهري فيما قد يكون صراعاً على الشرعية القاعدية، إن جاز التعبير، مع «دولة العراق والشام الإسلامية»). أما الراية السوداء التي تكتب فيه الشهادة بالأبيض فهي رمز مجموعات إسلامية سلفية التوجه عموماً، ويحصل أن ترفع هذه المجموعات راية بيضاء الأرضية وعليه الشهادة نفسها بالأسود، ويقال إن هذه هي راية الرسول وقت السلم، فيما التي أرضيتها سوداء هي رايته وقت الحرب، أما راية النُصرة فيفترض أنها ختمه.
واليوم يبدو أن الراية على اختلاف صورها طاغية في أوساط مجموعات مسلحة تقاوم النظام، وهي ترفع كثيراً في «مناطق محررة» تسنّت لي زيارتها والعيش فيها لبعض الوقت. ويشيع أيضاً أن يُبطّن الزجاج الخلفي لسيارات خاصة بالأسود و«الشهادة» مكتوبة عليه بالأبيض.
وبينما يبدو أن الراية رمز لتيار متميز واع بذاته، وتقارب أن تكون رمزاً حزبياً للتيار السلفي، تبدو في الوقت نفسه تعبيراً عن حرية دينية مكتسبة أو مستعادة بمشقة، في مواجهة نظام كان يقمع بصورة عدوانية التعبيرات العلنية عن التدين العام.
علم الثورة الأخضر يُرفع في المظاهرات التي لا تزال تجري، لكن الراية السوداء منتشرة بوفرة. في دوما مثلاً، يلحظ ناشطون توتراً بين العلم والراية، ومفهوم أن العلم يرمز للثورة ومكونها المدني و«الجيش الحر»، فيما الراية وتنويعاتها ترمز إلى تيارات سلفية صاعدة ومجموعات مسلحة محسوبة عليها، وإلى تدين عام مستعاد كما أشرنا للتو.
يرمز كل من هذه الأعلام الثلاثة إلى سورية مختلفة عن الأخرى:
سورية الأولى وعلمها الأحمر هي «الجمهورية العربية السورية»، التي ظهر العلم حين كان كيانها ذاته يتلاشى في تجربة الوحدة مع مصر، التجربة التي خرجت منها دائخة، قبل أن تقع تحت حكم البعث، ثم الحكم الأسدي، وقعة يخشى ألا تنهض منها؛
وسورية الثانية هي الثورة السورية في وجهيها المدني والمسلح، والمتطلعة نحو الاستيعاب الاجتماعي والسياسي، وربما مع أرجحية سنية عامة يُضمرها ولا يصرّح بها العلم الذي يرمز إليها اليوم؛
سورية الثالثة هي سورية الإسلامية السنية، السلفية تحديداً، وقد أخذت تظهر على نحو اقتحامي لافت للنظر بعد أكثر من عام من الثورة.
لكن هناك سورية رابعة سبق أن ألمحنا إليها، تمثلها صورة بشار الأسد، وقبله صورة أبيه حافظ (وتماثيل هذا الأخير). لا يكاد يعلم غير السوريين أنه بعد سنوات قليلة من حكم حافظ الأسد تحولت صورته إلى الرمز الفعلي والعلم الفعلي للبلد، تنتشر في كل مكان، وتُطبع على صفحات الدفاتر والكتب المدرسية وسجلات التلاميذ، وعلى قطع الخمس وعشرين ليرة المعدنية، والألف ليرة الورقية، وتُرفع فوق الرؤوس في «المسيرات الشعبية العفوية» في «المناسبات الوطنية والقومية» الكثيرة كل عام، فضلاً عن تصدّرها صفحات الصحف وشاشات التلفزيون كل يوم. وهذا تقليد تراجع قليلاً في الشهور الباكرة من وراثة بشار الأسد لأبيه، قبل أن يعود بتردد، ثم بصفاقة، مقروناً بصور أبيه وأخيه الراحل باسل وأخيه ماهر، أو بصور حسن نصر الله والرئيس الإيراني أحياناً، وحتى بصور ابنه الصغير حافظ في أحيان أخرى.
ولكون الصور علماً على «سورية الأسد»، وعلماً لها، فقد وُوجهت بأشد غضب السوريين، وكان تحطيمها والدوس عليها مجاهرة بالقطيعة مع هذه السورية الخاصة.
في سنوات حافظ وابنه، لم يكد يوجد من يعرف ألوان العلم الوطني (الأحمر) قبل ولوج مرحلة صراع الأعلام في الثورة، ولم يكن بين خواص السوريين من يرفعه في بيت أو سيارة أو مكتب.
على أن هذا العلم شهد موجتين من ردّ اعتبار انتهازي له في سنوات الابن. موجة أولى في عام 2005 إثر الانسحاب الاضطراري للقوات السورية من لبنان. كان النظام يريد خلق قضية سورية عامة ضد قطاع من اللبنانيين الثائرين على انتدابه وهيمنته في لبنان، وأطلقت وقتها حملة لرفع العلم على شرفات المنازل. انزوى بعدها العلم الأحمر لسنوات قبل أن يُرفع من جديد في «المسيرات العفوية» التي كان ينظمها النظام للموالين له في العام الأول من الثورة. ومنها مثلاً علم طوله مئات الأمتار جرى مدّه في «مسيرة شعبية» في أوتوستراد المزة منتصف عام 2011. والغرض المرجح لهذا المسلك هو توسيع قاعدة التماهي العام مع النظام: فمن يتماهون بصورة بشار هم شعب «سورية الأسد»، النواة الصلبة من الموالين، وليس عموم السوريين، فلا يُعقل أن ترفع صورته وحدها في مسيرات يُراد لها أن تكون جامعة، فيما يؤمل من رفع العلم الأحمر مخاطبة جمهور أوسع.
على أن صور بشار لم تغب قط عن تلك المسيرات، وكان رهان النظام توحيد الصورة والعلم، والقول إن سورية العامة هي «سورية الأسد»، والأسديون هم السوريون. ولقد تمثل المعادل الرمزي لهذا التوحيد في طبع صورة بشار على العلم المرفوع أو «المسطوح» في «المسيرات». وفي هذا ما يقول شيئاً عن غرائز النظام الاحتلالية العميقة، والفصل المتعذر بين «سورية الأسد» و«الجمهورية العربية السورية»، أو بين «النظام» و«الدولة».
لدينا إذن أربع سوريات بأربعة رموز:
«سورية الأسد»، ورمزها هو الصورة، وتتماهى بها على نحو خاص النواة العائلية الطائفية للنظام، ويرتبط بها طيف من منتفعين متنوعين في مراتب الجيش والحكومة وحزب البعث ودوائر المال.
و«الجمهورية العربية السورية»، ورمزها هو العلم الأحمر، ويتماهى بها جمهور سوري أوسع وعابر للطوائف من الطبقة الوسطى المدينية والمتعلمة والحديثة التكوين، ومن مثقفين وناشطين من هذه الأوساط، ومنهم من يعتبرون أنفسهم معارضين للنظام. هذا الجمهور فاقد للإرادة السياسية المستقلة، ومنحدر من شرائح غير مستقلة سياسياً، بصورة يعكسها رضوخ «الجمهورية العربية السورية» لـ«سورية الأسد».
ثم سورية الثائرة، ورمزها هو العلم الأخضر، ويبدو أنه يتماهى بها تفاضلياً جمهور عريض منحدر من مدن وبلدات متدهورة، أدنى دخلاً وتعليماً على العموم، فضلاً عن قطاع حسن التعليم ومستقل من الطبقة الوسطى، ومثقفين وناشطين سياسيين متنوعين من الأقل خضوعاً للحتميات الاجتماعية. ومن المفهوم أن الأطياف المعارضة التي تتماهى بهذا العلم هي من الأكثر جذرية في موقفها من النظام. ومنها من تحرص على إبراز عمق إسلامي لجذرية اعتراضها بأن تنقش على الشريط الأبيض من العلم الأخضر عبارة «الله أكبر».
جماعة «الخضر» هؤلاء هم الطيف السوري الأكثر تنوعاً، اجتماعياً وثقافياً وسياسياً، ولهم مكون علماني مختلف المرجعيات، يشمل مثقفين وناشطين من الأبرز في سورية، ومكون إسلامي يشمل إسلاميين ليبراليين والتيار الإخواني، وبينهم طيف فرعي واسع بدوره من المستقلين. وبالخضر يرتبط متن «الجيش الحر»، تشكيلاته الأقدم والأدنى حزبية إسلامية. يمكن القول بصفة عامة إن الخضر أرخبيل سوري بلا مركز ثقل محدد يشدّه إلى بعض، وظاهر من حال المؤسسات السياسية والعسكرية التي حاولت تمثيله أنها لا تستقر على حال، ومعرّضة لمنازعة شديدة تطال شرعيتها بالذات ومن داخل طيف الثورة الأخضر قبل غيره. ويذكّر هذا الشرط بوضع سورية قبل الحكم البعثي، والأسدي، من حيث اضطرابه وفوضاه وحيويته.
والتماهي المضاد لسورية الثائرة هذه يستهدف «سورية الأسد» بصورها وتماثيلها، وليس «الجمهورية العربية السورية» أو العلم الأحمر الذي لا تُعرف حادثة اعتداء مشهورة عليه.
وأخيراً لدينا سورية الإسلامية السنية السلفية، ورمزها هو الراية، ويتماهى بها جمهور ريفي عموماً أو «مُريّف»، ربما يتكون من شريحتين متمايزتين: مشايخ مندرجين في شبكات دينية عابرة للحدود من جهة، وجمهور مفقر ينجذب إلى بساطة العقيدة السلفية وما توفره من انضباط في أوساطها ومجموعاتها المقاتلة بخاصة من جهة ثانية. و«الآخر» المباشر للراية السوداء هو علم الثورة، وهو ما تتمايز عنه، وتُعرِّف نفسها بهذا التمايز (بخاصة المكون الحركي المنظم، السلفي الجهادي)، وإن يكن مضمراً أن العلم الأحمر والصورة الأسدية منفيان أيضاً. وهناك غير واقعة أسقطت الراية (السوداء) فيها العلم (الأخضر) وانتصبت محله، منها واقعة دوار الحلوانية في حلب في 6 حزيران 2013.
على أن التماهي شأن علائقي وديناميكي، وليس انعكاساً لهويات ثابتة. يمكن أن يتماهى بـ«سورية الأسد» قطاع من المتماهين بـ«الجمهورية العربية السورية» إن كان البديل المتصور هو «السود» من أهل الراية، أو ما ترمز له الراية من هيمنة سلفية على مستوى أنماط الحياة والحكم. وبالعكس: يمكن أن يقترب أهل «الجمهورية العربية السورية» من أهل الثورة، أي الحمر من الخضر، ويتباعدون عن أهل الصورة أو الأسديين، بقدر ما يخفّ وزن السود في أوساط أهل الثورة. وإذا تصورنا أنه سقط النظام و«سورية الأسد» في أية لحظة الآن، فإن من المرجح لأكثر الحمر أن يصيروا خضراً. وواقع الحال خلال أكثر من عامين يشير إلى اتساع مساحة الراية وارتباك العلم الأخضر أمامها تحت التأثير المستمر لعدوانية الصورة واستسلام العلم الأحمر أمامها. ونقدّر أيضاً أن من شأن كسب الصراع ضد «سورية الأسد» أن تتمايز في أوساط أهل الراية المجموعات الحركية المتصلبة (السلفية الجهادية وما يقاربها، السود الحقيقيين) عن أطياف اجتماعية نقدر أن الراية ترمز لديها إلى هوية إسلامية وتديّن عام مستعاد، قد يمكن تسميتهم بالرماديين. ما يحول دون تمايز هذين المكونين اليوم هو حرب النظام ضد البيئات الخارجة عليه. اختيار علم أبيض كُتبت عليه الشهادة بالأسود (راية كتائب أحرار الشام) مؤشر على إرادة تباعد عن «القاعدة»، ومثل ذلك يتضمنه تدوين الشهادة بالأخضر على أرضية بيضاء (راية حركة أحرار الشام).
عموماً، يبدو لنا التيار السلفي أكثر تعقيداً مما توحي الظواهر، ولا يزال انتشاره واتساع دوره غامضين بقدر كبير. هذا من الأسئلة الكبيرة للثورة السورية، ومن أسرارها الكبيرة أيضاً، ولا يكاد يكون هناك ما هو أولى بالبحث المنقب منه.
وعلى نحو عابر نميز هنا بين سلفيين جهاديين، مثل «جبهة النصرة»، وسلفيين يجاهدون مثل «لواء الإسلام» ومجموعات مشابهة. العلاقة بين السلفية والجهاد أقل جوهرية عند المجموعات الأخيرة، التي هي أيضاً سورية محلية، وإن تكن لها روابط فكرية وسياسة خارجية، فيما المجموعات السلفية الجهادية أممية إسلامية، تكويناً ومشروعاً.
يلزم القول في ختام هذه الفقرة إن التقابلات الرمزية السوسيولوجية المشار إليها للتوّ تخطيطية وتقريبية، متحركة ومرنة أيضاً، شأن كل ما هو اجتماعي، وإنه يمكن دوماً إيراد شواهد تنقض الميول العامة التي تكلمنا عليها هنا.
* * * * *
على نحو ما حولت «سورية الأسد» «الجمهورية العربية السورية» إلى قوقعة برانية، ودفعت بالصورة إلى موقع سائد والعلم إلى موقع متنحٍّ، تحاول الراية أن تشغل اليوم موقعاً مماثلاً في الحركة الاجتماعية التاريخية الواسعة الجارية منذ عامين ونيف، وتعمل على إزاحة علم الثورة إلى موقع ثانوي، وإلى أن تشغل هي موقع السيادة.
كان رفع الثائرين علم «الجمهورية العربية السورية» في عام 2011 نفياً للصورة الأسدية، قبل أن تنفي سورية الثائرة (العلم الأخضر) «الجمهورية العربية السورية» و«سورية الأسد» معاً، في مؤشر على تجذر وتصلب في أوساط الثورة. وهو ما ارتبط حينها بظواهر اجتماعية وسياسية مهمة:
منها ما يعادل خروجاً تاماً لـ«التيار المدني»، أي لطيف متنوع من مثقفي وناشطي الطبقة الوسطى الأفضل تعليماً من المشاركة المباشرة في الثورة، هجرةً أو نزوحاً خارج البلد في الغالب، أو ولاءً لتشكيلات هي الأقرب إلى النظام من المعارضة (يتماهون بالعلم الأحمر)، فضلاً عن اعتقال واستشهاد العديد من المبادرين والناشطين الميدانيين المدنيين؛
ومنها صعود المقاومة المسلحة الحادّ بدءاً من خريف 2011، وأكثر المقاتلين من شرائح دُنيا اجتماعياً وتعليمياً؛
ومنها دخول جهات «داعمة» متنوعة على خط الثورة، خليجية أساساً، تجمع بين التدين السلفي والمال الوفير، وهي جهات غير مستقلة في دول غير مستقلة بدورها؛
وكل ذلك على خلفية توسّع «سورية الأسد» في الحرب ضد سورية الثائرة، واشتداد الصراع السوري، والطريق المسدود الذي بلغته الاحتجاجات السلمية بعد احتلال النظام لكل من حماه ودير الزور في آب 2011.
ليس واضحاً مَن وكيف وأين رفع علم الاستقلال لأول مرة (ربما في مؤتمر أنطاليا في مطلع حزيران 2011). لكن حلوله التدريجي محل العلم الأحمر يستجيب لواقعة تجذر الثورة الاجتماعي والنفسي من جهة، وللعودة إلى رموز مرحلة تاريخية أسبق –ما هو شائع في الثورات– من جهة ثانية، فضلاً عن الإحالة إلى صورة لسورية أكثر تعدداً وحرية وحيوية سياسية دون ريب.
أما الراية الإسلامية المفترضة فتتقابل مع صور الأسديين وحلفائهم، وهذه طائفية الدلالة في العمق، وإن كانت تتفادى التصريح بذلك خلافاً لراية للسلفيين. وللراية البنية الاستبعادية ذاتها التي للصورة، وهي تستبعد علم الثورة الجامع أول ما تستبعد، وتنشق عليها أول ما تنشق.
وفي الحالين نحن هنا حيال سورية خاصة، تفرض نفسها على سورية أكثر عمومية: «سورية الأسد» على «الجمهورية العربية السورية»، وسورية السلفية على سورية الثائرة ضد الطغيان.
ولا شيء يكشف عن هذه البنية الاستبعادية والتسلطية أكثر من واقعة أنه جرى في العديد من المناطق تحوير الشعارات الأسدية وتحويلها إلى شعارات إسلامية. من ذلك مثلاً الهتاف الذي صار يُسمع في مطلع العام الماضي: قائدنا للأبد/ سيدنا محمد! وهو تحوير فقير لشعار أسدي انتشر بعد مذبحة حماه 1982، يقول: قائدنا إلى الأبد/ الأمين حافظ الأسد! ومنها ما تسنى لي رؤيته على الجدران في غير موقع في الغوطة الشرقية من «إصلاح» عبارة: الأسد أو لا أحد! إلى: الأسلام أو لا أحد! حتى أنه لم يجر وضع الهمزة تحت الألف، وجرى الاكتفاء بمدّ سِنّ حرف الدال لتصبح لاماً، وأُلحقت بها ألف ممدودة وميم؛ أو: الأسد أو نحرق البلد! إلى: الأسلام أو نحرق البلد! أو: جنود الأسد مروا من هنا! إلى: جنود الأسلام مروا من هنا! أو: عاش الأسد! إلى: عاش الأسلام! أو الأسد للأبد! إلى: الأسلام للأبد!… وكلها رأيتها شخصياً. وتسنّى لي أيضاً أن أرى شريطاً مصوراً لقائد تشكيل عسكري سلفي يقول فيه بين أشياء أخرى: الإسلام أو لا أحد!
هذا لا يدل على مخيلة مُجدبة فقط، بل على تلهّف على السلطة المطلقة، واختصار الثورة إلى إحلال «الأسلام» محل الأسد، أي بعضا أقلياً من سورية محل بعض أقلي. «الأسلام» الذي يتشوق هذا التيار إلى إحلاله محل الأسد هو في الواقع حكم تيار إسلامي بعينه، هو جزء من الإسلاميين، الذين هم جزء من الإسلام السني، الذي هو جزء (كبير) من السوريين.
التطرف ينبع من هنا، من تطلع طرف اجتماعي واحد إلى إشغال موقع الأطراف كلها. الأسديون طرف واحد صغير، يفرض نفسه بالقوة موقع الكل؛ و«الأسلاميون» طرف واحد صغير بدوره، يتطلع إلى أن يشغل موقع الكل. «الأسلاميون» هو المصطلح الذي نراه مناسبا لتسمية هذا التيار، تمييزاً له عن إسلاميين آخرين متنوعين من جهة، وربطاً لهذا التيار بالبنية السياسية والفكرية الأسدية، المتطرفة والطائفية، من جهة أخرى. ومما يقرب بين البُنيتين أيضاً فكرة ملصق رأيته على بعض الجدران يقول: «أمة واحدة راية واحدة دولة واحدة»، وفي أعلاه صورة الراية السوداء وعليها الشهادة بالأبيض. وهو يذكر بالشعار البعثي «أمة عربية واحدة»، وتأكيد الملصق على وحدانية الراية ينفي علم الاستقلال أولاً.
معلوم أن قيادات الجهتين المتطرفتين، الأسدية والأسلامية، مرتبطتان بجهات أجنبية، الأسديون هم جزء من المحور الإقليمي الطائفي الذي تقوده إيران، ويندرج فيه حزب الله اللبناني ومجموعات شيعية عراقية ويمنية وغيرها؛ و«الأسلاميون» مرتبطون بمحور سعودي خليجي (غير مستقل وفاقد للمشروع الخاص والقوة الخاصة، خلافاً للمشروع الإيراني الشيعي).
وفي الحالين نحن حيال قوى طغيان متطرفة من جهة، وطائفية من جهة ثانية، وتابعة وغير وطنية في كل حال…
على أن التناظر البنيوي ليس برهاناً على مسؤولية متساوية، ولا يصلح بحد ذاته دليلاً لسياسة صحيحة، وإن يكن مؤشراً فكرياً وأخلاقياً بالغ الأهمية. لدينا معتدٍ ومعتدىً عليه، طرف فاعل وطرف في موقع رد الفعل، طرف أقوى وآخر أضعف، وإقامة مساواة بينهما هي في الواقع مساندة للقوي المبادر بالعدوان. لكن، في الوقت نفسه، لدينا طرف معتدى عليه يتصرف على نحو تسلطي واستبعادي وأناني، ويسهم في إضعاف الطيف الاجتماعي الثائر الذي انبثق منه، الطيف الذي يقاوم بمشقة معتدياً أقوى منه. وهذا الطرف، قيادته تحديداً، يتحمل المسؤولية السياسية والأخلاقية عن غير قليل من مصاعب داخلية وخارجية تواجه الثورة السورية اليوم.
على أن من النقاط المهمة في هذا الصدد درجة السيولة العالية في أوساط «الأسلاميين» ذاتهم (والثورة ككل)، وأن مقاتلين كثيرين يتركون تشكيلاً عسكرياً سلفياً باتجاه تشكيل «عادي» –أو العكس– في حركة لا تتوقف، وأن من المحتمل أن يبرح كثير من «الأسلاميين» موقعهم الراهن باتجاه مواقع أكثر وسطيةً واعتدالاً عند سقوط النظام. هذا على كل حال ما يقوله كثير من الناس في الغوطة الشرقية.
وعدا أن هذه السيولة الاجتماعية تتعارض مع ما يعرضه المعسكر الطائفي، الأسدي الإقليمي، من تماسك وصلابة في التصميم والهدف والعمل المشترك، فإن سياسات اجتماعية تخاطب حاجات القطاعات الأفقر والأشد تهميشاً والأدنى تعليماً، على مستوى فرص العيش والعمل وأنسنة بيئات الحياة، من شأنها أن تُشرك هذه القطاعات في الحياة الوطنية، فتقوي ارتباطها الوطني العام. التيار السلفي المستجد، «الأسلامي»، يستمد قوته من الهامشية الواسعة التي أصابت بلدات ومدناً وأحياء متدهورة في ربع القرن الأخير في سورية. إنه ضرب من التدين غير النظامي، إن جاز التعبير، ينتشر في بيئات تراجع تنظيمُها واشتراكها في الحياة الوطنية العامة، وتشعر بالغربة والحرمان في بلدها. الراية السوداء، وقد كتب عليها بالأبيض كلام مقدس، تُوافق تصور العالم المبسط لجمهور محروم وغاضب اجتماعياً، ولا يجد معنىً إيجابياً ينسبه إلى حياته في بلد ومجتمع سوريين، بينما يجد في «الإسلام» وطناً بديلاً يعيش فيه. ويميل هذا الجمهور إلى تصور الأمور بين أبيض أو أسود. تصور العالم هذا مناسب لتطلعات قادة دينيين وسياسيين ديماغوجيين ومتعطشين إلى السلطة بلا شك، لكنه وثيق الصلة بأوضاع شرائح اجتماعية مندحرة ومتروكة على هوامش المجتمع.
* * * * * *
يفيد هذا المقترب الاجتماعي الرمزي في تصور مخرج مناسب من الصراع السوري، الذي يتجاوز اليوم مخاطر تمزق المجتمع إلى انهيار شامل للمجتمع والدولة والكيان الوطني.
فإذا كان صحيحاً أن التطرف يغذي التطرف، فإن الحد من نمو التيارات المتطرفة في الثورة يقتضي التخلص من التطرف الأسدي، من «سورية الأسد»، وبالطبع من الأسد نفسه. خيانة بشار الأسد (وسورية الأسد ككل) ثابتة. لقد رهن وطنَ السوريين لقوة أجنبية طامحة، لا تعطف عليهم، ولها دور تمزيقي عربياً، هذا من جهة؛ ومزّق السوريين طائفياً وميز بينهم بقدر فاحش، وقتل نحو 100 ألف منهم، و«عزم» أجانب ومرتزقة طائفيين على مشاركته في قتل محكوميه الثائرين، من جهة ثانية. فلا هو صان استقلال البلد، ولا هو كان أميناً على وحدة السوريين.
مزيد من الأسد يعني بلا ريب مزيداً من «الأسلامية»، ومزيداً من العدمية المقاتلة من شاكلة «جبهة النصرة»، ومزيداً من إضعاف الوجاهة السياسية والأخلاقية للاعتراض عليهما.
ومن شأن التخلص من الأسد و«دولتـ»ـه وصوره أن يثير تفاعلات معتدلة داخل المجتمع السوري، ويضع القوى الاجتماعية والوطنية التي تتماهى بالعلم الأخضر في وضع أفضل لكسب المواجهة مع متطرفين يتماهون بالراية السوداء، ومخاطبة قطاعات وطنية من الجمهور الذي يتماهى بعلم الجمهورية العربية السورية الأحمر، على ما سبق القول. أعني بالصفة الوطنية هنا الارتباط بالإطار السوري، اجتماعياً وسياسياً وثقافياً واقتصادياً، وتغليب التفاعلات الداخلية السورية على أي تفاعلات أخرى مع أية جهات خارجية، وأولوية الالتزامات السورية على أية التزامات أخرى، تعلو عليها أو تتدنى عنها.
اليوم، كل شيء يقوّي جماعة الراية أو «الأسلاميين»، ويضع المعتدلين وعموم الوطنيين السوريين في وضع أضعف، بخاصة فاشية النظام وحلفائه، وشعور عموم الخضر بأنهم متروكون لمصيرهم، ليس بعد أن استخدم النظام الطيارات والصواريخ بعيدة المدى ضدهم، بل وبعدما استخدم السلاح الكيميائي أيضاً، وبعد تحويل الصراع السوري إلى حرب إقليمية طائفية على التراب السوري.
هذا المقترب الاجتماعي الرمزي يزكّي أيضاً رؤية سياسية عامة من طرف الثورة تخاطب قطاعات من مجتمع سورية البعثية، ترتبط بأنماط حياة وأوضاع اجتماعية «حديثة»، ويتعين الحفاظ عليها لأنها مساحة تلاقٍ عامة في المجتمع السوري، مساحة تكونت تاريخياً مع تكون سورية المعاصرة ورافقت تاريخها الوجيز منذ مطلعه. أعني تحديداً الحريات الاجتماعية الخاصة بالطعام والشراب والزيّ واختلاط الجنسين في الفضاءات العامة وشبه العامة، مما لا حياة تعاش في أي بلد اليوم دونها. هذا فوق أنه ليس من المتصور أن تكون الحريات السياسية بخير حين تكون الحريات الاجتماعية مهددة.
ومن شأن هذه الرؤية أن تؤسس لطيّ صفحة الحكم البعثي والأسدي مع الإبقاء على مضامين اجتماعية ارتبطت بـ«الجمهورية العربية السورية». نفكر تحديداً بأربع مستويات:
(1) إدخال قطاعات من السوريين المهمشين في الحياة العامة، وهو ما لم يقتصر على عموم العلويين، بل شمل سكان الأرياف السورية عموماً، وما يشكل اليوم سنداً للاحتجاج على النظام الإقطاعي الجديد، الأسدي، وإعادة إدماج الأرياف وأشباه المدن المهمشة في الحياة السورية؛
(2) ثم وظائف اجتماعية متسعة للدولة في مجالات التعليم والطبابة والمرافق الكبرى والموارد الوطنية الأساسية، ما سيكون مُلحاً بصورة مضاعفة في المستقبل القريب والمتوسط؛
(3) ثم «الحريات الاجتماعية» المرشحة لأن تكون حجر الزاوية في مفهوم الحرية في سورية، وهي حجر الزاوية دوما في أي مفهوم للحرية في بلدان إسلامية؛
(4) وأخيراً الرابطة العربية.
نظام بشار قارب القضاء على وظائف الدولة الاجتماعية، وسرّعت سياسته الاقتصادية من تهميش الأرياف وتدهورها، وألحق سورية بإيران ومشروعها الامبراطوري. وكان نظام الأب قضى على الجمهورية بتوريث الحكم، وجعل من سورية العامة مركز سلطة شخصية وعائلية وطائفية. وقبلهما كان الحكم البعثي، ومع صعود الفكرة القومية العربية في خمسينات القرن العشرين وستيناته، قد استبعد الكرد دون أن يحل أي مشكلة عربية، وخلّف لنا مشكلة وطنية كبرى سترافقنا طوال سنوات أو عقود قادمة.
ومثلما أزهقت الصيغة القومية للعروبة (العروبة المطلقة) روح الفكرة العربية، فإن الحداثية هي التركيب الاجتماعي الإيديولوجي الذي يزهق روح الحريات الاجتماعية ويربطها بالطغيان وتهميش الأكثرية الاجتماعية، فيجعلها في المحصلة موضع منازعة اجتماعية بدل أن تكون مساحة عامة مشتركة. من هذا الباب فإن الدفاع الذي لا غمغمة فيه عن الحريات الاجتماعية ينبغي أن يقترن بكفاح صلب من أجل إنهاء هامشية وخارجية قطاعات متسعة من المجتمع السوري.
«الجمهورية العربية السورية» صفحة من تاريخ البلد، وطبقة من طبقات تكوين سورية والسوريين، وإذا كان يتحتم طيّها سياسياً، بعثياً وأسدياً، فلا بدّ من صون ما هو وطني وعامّ فيها، المستويات الأربعة المشار إليها للتو، بعد فكّها عن التركيبات الإيديولوجية والسياسية الخاصة التي أدرجت فيها.
وهذا يتعدى مصالح وأنماط الشرائح والجماعات التي تماهت بهذه الجمهورية أكثر من غيرها إلى صون بُعد من أبعاد شخصية كل سوري، أيا يكن منبته الثقافي وشريحته الاجتماعية. غير ذلك عدمية تاريخية خطيرة.
سورية الجديدة يمكنها وينبغي أن تكون نتاج تسوية تاريخية بين العلمين، الأخضر والأحمر، بما يتيح لها استبعاد الصورة، وتحريض تفاعلات أكثر وطنية واعتدالاً وسط أهل الراية باتجاه عزل السلفية العدمية.
وأول التسوية التاريخية، والمدخل إلى أوضاع مناسبة من أجل سِلْم سورية عامة، هو التخلص من النظام الأسدي، الذي لم يكن أميناً على سورية وخانها لمصلحة الأجنبي ولمصلحة السلالة الأسدية.