المواطنة أن يتساوى المواطنون في الحقوق والواجبات، والمؤمن بالمواطنة هو المؤمن بهذا التساوي، هكذا ببساطة هي المسألة، ولأنها بهذه البساطة يقول الجميع بالبساطة ذاتها أنهم يؤمنون بها، حتى أولئك الإسلاميون الذين لا يكفون عن القول بأن «الحاكمية لله»، وحتى أولئك اليساريون الذين لا يترددون في تبرير انتهاك حقوق الأفراد في سبيل «الجنة الجمعية» التي يطمحون إليها، كل هؤلاء يتحدثون عن المواطنة، وعند المفترق، مفترق العنف الأول يسقط الجميع في الامتحان، امتحان المواطنة «البسيط».

المواطنة هي روح العقد الوطني المؤسس، وهي التي تجعل من دولةٍ ما وطناً، وأما غيابها فإنه يجعل من الدولة «دولة فحسب»، وإذا كان حق الحياة وحرمة الدم المترتبة عليه حقاً إنسانياً راسخاً في شرعة حقوق الإنسان، وفي جميع الشرائع التي عرفتها البشرية، وإذا كان حقاً لا يجادل فيه أحد بوصفه الأحق الأول الأصيل الذي تؤسس على حفظه جميع الحقوق الأخرى، فإن لحقّ الحياة وحرمة الدم شأناً خاصاً عندما يتعلق الأمر بالدولة الوطنية والمواطنة، ذلك أن انتهاكه أو لنقل تبرير انتهاكه في سياق سياسي وتاريخي معين يمكن أن يودي بالعقد الاجتماعي للدولة الوطنية، بل قد يودي بالدولة الوطنية نفسها.

يقع على عاتق السلطات في الدولة الوطنية صيانة التساوي في الحقوق والواجبات بين المواطنين، وهي إذا كانت تستمد شرعيتها من المواطنين، فإن هذا يعني في العمق أنها تستمد شرعيتها من اعتقاد غالبية المواطنين بأنها الأقدر على صيانة حقوقهم. ويمكن القول هنا إن «صيانة المواطنة» هي مصدر شرعية السلطات في الدولة الوطنية في نهاية المطاف، فكيف إذا تعلق الأمر بصيانة الحق في الحياة!؟ إذاً فعندما ينتهك مواطن أو جماعة مواطنين حق الحياة الذي يتمتع به مواطنون آخرون فإن واجب المحاسبة والمعاقبة يقع على عاتق السلطات الوطنية، وعندما تغطي السلطات هذا الانتهاك، سواء بالتبرير العلني أو حتى بعدم المحاسبة الجدية، فإنها تفقد شرعيتها دون أدنى شك، ويصبح أولئك المهددون بالانتهاك في حِلّ من العقد الوطني في مواجهة أولئك الذين ينتهكون حقهم في الحياة، سواء كانوا في جهاز الدولة الرسمي أم خارجه، وسواء شاركت السلطات في الانتهاك أم اكتفت بتغطيته والتستر عليه.

هكذا اكتسب الجيش السوري الحر شرعيته، اكتسبها عندما قامت السلطة –أو أجنحة فيها– بأعمال قتل عشوائي لقطاعات من المواطنين، وأسقطت حرمة الدم، اكتسبها عندما قامت أجهزة الأمن بأعمال القتل هذه بتغطية أجهزة الدولة الرسمية كلها دون استثناء، بل وبتغطية من قطاعات واسعة من المواطنين. هكذا انتفى فعلياً مبرر حرمة الدم لدى أولئك الذين استبيحت دماؤهم في وضح النهار، وهكذا انفتح المجتمع السوري على صراع دموي عنيف يقوض الوطن السوري ومبررات وجوده يوماً بعد يوم.

لا يتعلق الأمر هنا بتبرير العنف المضادّ من حيث هو عنف ربما يكون قد اتخذ أحياناً أشكالاً عشوائية استباحت دماء «مواطنين» آخرين بدورها، بل يتعلق الأمر بتفسير ما آلت إليه الأمور في سورية، وما يمكن أن تؤول إليه في بلاد أخرى إذا ما استمر هذا التجاهل لخطورة استباحة الدم، والأهم لخطورة التبرير الأرعن لهذه الاستباحة.

ولا يتعلق الأمر أيضاً بالقيم الإنسانية الرافضة للقتل، فمن نافل القول أن القتل فعل غير إنساني، لكنني أتحدث هنا عن خطورة القتل وتبريره على المشاريع السياسية، فكما هدم النظام السوري وأنصاره العقد الوطني السوري بتبرير الاستباحة الحمقاء لحق الحياة لدى المعارضين والثوار، يهدم الخطاب الآخر الذي يبرر استباحة دماء الموالين للنظام شيئاً فشيئاً إمكانية إعادة صياغة عقد وطني سوري جديد.

تتمحور المسألة كلها حول تبرير القتل العشوائي وإزهاق أرواح الخصوم السياسيين، ولعل ما يجب لفت النظر إليه هنا خطورة الخطاب التبريري الذي أطل برأسه فيما يخص قمع الإخوان المسلمين وأنصارهم في مصر بعد الثلاثين من يونيو حزيران، فعلى الرغم من الخطاب الإخواني الإقصائي الذي تفوح منه رائحة الفاشية، فإن تبرير إطلاق النار على جموع المناصرين للإخوان المسلمين خروج فاضح على أسس مبدأ المواطنة، فأولئك المحتشدون مواطنون يقع على عاتق السلطات حماية حقهم المطلق والمقدس في الحياة، ومن يستبيح هذا الحق أو يبرر استباحته يُخرجهم من دائرة المواطنين، ويُخرج نفسه في الوقت نفسه من دائرة المواطنين بالنسبة لهم، ليصبح واقعياً هدفاً «مشروعاً» لعنف مستقبلي مضادّ.

الوطن ليس ذاك الذي يكتبون عنه القصائد، الوطن هو مكان يتوافق المواطنون فيه على صيغة تصون حقوقهم جميعاً وعلى رأسها حق الحياة، وبغير هذا يفقد مبررات وجوده واستمراره، لا يفقد المبررات فحسب بل يمكن أن يفقد الإمكانية نفسها، إمكانية البقاء والبناء والتقدم، ولعل التعبير الأبرز عن احترام النخب والمثقفين وعموم المواطنين لحق الحياة هو موقفهم من حشود المتظاهرين، أياً كان هؤلاء المتظاهرون، وموقفهم من الحاضنة الشعبية لموقف سياسي ما، أياً كان هذا الموقف السياسي. إن من يبرر القتل العشوائي للجموع لا يحق له أن يتحدث عن وطن أو مواطنة، ولا يحق له أن يطالب أفراد هذه الجموع بالقيام بأي «واجب وطني»، وفي المقدمة فإنه يفقد حقه في مطالبتهم باحترام حقوقه هو نفسه كمواطن.