تعيش الساحة السوريّة تزايداً في تعبيرات الاستياء السياسي والإعلامي من سلوك تنظيم «دولة العراق والشام الإسلاميّة» في المناطق المحررة الواقعة تحت سيطرته، وذلك بسبب تجاوزاته بحقّ أهل هذه المناطق، مثل احتجاز أعضاء المجلس المحلّي لمدينة تل أبيض في محافظة الرقة، أو اعتقال ناشط إعلامي حلبي ذهب للاعتراض على إغلاق معبر كراج الحجز في بستان القصر ثم وجد في مقرّ الهيئة الشرعية اتهاماً له بالرّدة؛ يُعزى الأمر كذلك للتنافس المتصاعد مع كتائب من الجيش الحر، والذي تجلّى في اتهام «الدولة» باغتيال كمال حمّامي، عضو المجلس القيادي الأعلى للجيش السوري الحر. تزامناً مع هذا الاستياء المتصاعد في الرأي العام، شهدت الفترة السابقة أيضاً تدفقاً ملفتاً للتصريحات السياسية المندّدة بسلوك «دولة العراق والشام الإسلاميّة» بعد طول تجاهل، أكان ذلك من قبل جهات في الائتلاف الوطني، بما فيه جماعة الإخوان المسلمين، أو من قبل رئاسة أركان الجيش السوري الحر.

مجدداً، وكما حدث حين أدرجت الإدارة الأمريكية «جبهة النصرة» في قائمة المنظمات الإرهابيّة، نجد أن إيقاع التعبير السياسي مفروض من أجندات واحتياجات الخارج لا من مشكلات الداخل. في كلا الحالتين، الصمت عن مسألة التنظيمات الإسلامية المتشددة ثم الإدانات المتكررة الأخيرة، لم تكن المعارضة السوريّة إلا مجبرةً بوقائع حدثٍ سياسي خارجي. وعلى عكس الإدانة والرفض الذي أطلقته شخصيات المعارضة حين نالت «النصرة» وسم الإرهاب، في مشهد امتعاض من التقاعس الأمريكي في دعم الثورة أكثر من كونه نتاج قراءة سياسيّة متأنيّة للحدث، تأتي تصريحات سياسيّة إيجابيّة مع التوجّه الغربي المتوجس من خطر «المتشددين» وكأنها إيفاء لفاتورة سياسيّة مُقابل دعم غربي، عسكري وسياسي، موعود، ﻻ ندري إن كان سيأتي يوماً أم ﻻ. ثمة خفّة ﻻ تُحتمل في استعادة نظرية المؤامرة والشكّ بالمخابرات السورية وتحميلها –باعتبارها ذات الخبرة المديدة في الساحة العراقية– مسؤولية الجهاديين، نظرية المؤامرة تلك تسوقها اليوم نفس الجهات التي دافعت عن أصالة انتماء «جبهة النصرة» للسياق الثوريّ السوري قبل شهور، في مزيج بائس من انتهازيّة سياسيّة ونزعات إيديولوجيّة ضيّقة، مما حال ويحول دون مقاربة موضوعيّة وشاملة، فكرياً وسياسياً، لمسألة هذه الجماعات: من أين أتت؟ ما نسبة «سوريّتها» مقارنةً بالمكوّن الأجنبي المنخرط بها؟ ما هو أسلوب عملها؟ كيف بنت شعبيتها؟ كيف تتموّل؟ كيف تتسلّح؟ أين تبدأ كينونتها كنتاج طبيعي للحاجة لنواة تشدد إيديولوجي وعملياتي ضد عنف إبادي منفلت شنّه النظام ضد الرّيف المفقَر والهامش المديني، وأين تنتهي؟ أين تبدأ اليد المخابراتيّة في هذه الجماعات وأين تنتهي؟

يبدو أن الصدام مع «دولة العراق والشام الإسلاميّة» قادم ﻻ محالة، لا سيما وأن المُطالبات الدوليّة به في تسارع، ولا يبدو أن «الدولة» تخشاه، على الأقل لا تخشاه بما يكفي لتنحو بسلوكها وموقفها باتجاهات أكثر سياسيّة، لكن مع من ستكون هذه المعركة بالضبط؟ دعونا نترك جانباً الهزل حول استقطاب بين «جيش حر» ليبرالي-علماني وجماعات إسلاميّة متشددة، على نحو ما يراه شطر من الصحافة الغربيّة. يجوز التفكير في أن المرشّح للتصدّي لـ«الدولة» هو شطر الجيش الحر التابع لرئاسة الأركان، وهي الجهة التي يُفترض أنّها تحتكر الدعم الاقتصادي والعسكري الموعود، لكن هل يكفي هذا كجواب؟ ما هو حجم هذه القوّة العسكريّة؟ وما هي قدراتها في مواجهة «الدولة»؟ وما موقف «الكتائب الإسلاميّة» الأخرى مثل «أحرار الشام»، ولا سيما أنها تسيطر على شطر واسع جداً من المناطق المحرّرة وتتعاون مع «الدولة» في إدارة شؤون هذه المناطق، خصوصاً في إنشاء هيئاتها الشرعيّة؟ ما هي المُقاربة السياسيّة المرافقة لمعركة كهذه؟ هل هناك تقدير لحجم هذه المعركة المفترضة ودوامها ونتائجها؟ وما هي الحسابات بخصوص مكان النظام في هذه المعادلة؟ هل هناك وضوح رؤية بخصوص أيّة توجهات غربيّة نحو خلق قضيّة مشتركة مع النظام بوصفه –بالمقارنة مع البعبع الجهادي– «أهون الشّرين» بالنسبة للغرب، وبالتالي التحصّن من تلك التوجهات؟

دولة العراق والشام الإسلامية مشروع خطير لإرساء نمط استبدادي منفلت العنف وشديد السلطوية على كل المساحات العامّة والخاصة في حياة البشر. وﻻ داعي لأن يكون المرء «مدنياً» أو «علمانياً» كي يكون مُناهضاً لهذا الضرب من التسلّط، أكان باسم الدين كما في هذه الحالة أو بأسماء وحجج أخرى. وليست حيويّة الحراك في بعض المناطق المحرّرة، كالرّقة وسراقب، ضد هذا الضرب السلطوي بوصفة استبداداً ثقيلاً سوى دليل على عطالة المُقاربات العلمانويّة والحداثوية، المتعالية في طروحاتها على ضحايا هذا الاستبداد السلطوي. تلك المقاربات التي لا تأخذ أهل المناطق المحرّرة وهواجسهم وتفضيلاتهم بخصوص «الدولة» وغيرها من الجماعات الجهاديّة، بل تتجاهلهم بتعالٍ مخيف، هي أيضاً مشروع استبدادي باسم الحداثة والعلمانيّة.

عامِل أهالي المناطق المحررة، بديناميكياتهم ومفرداتهم النابعة من احتياجاتهم وظروفهم الموضوعيّة، هو الفارق الجوهري والأهم بين مقاربة موضوعيّة لمشكلة خطيرة وبين استنساخات سوريّة لعقليّة «الحرب على الإرهاب» الأمريكيّة كارثية النتائج، بين تعاضد واسع الطيف ضد مشاريع استبداديّة دينية وغير دينية تحفظ كرامة وحقوق وحرّيات كل السورييّن، وبين الطائرات بلا طيّار التي تحصد ضحايا مدنيين أضعاف ما تقتل من «إرهابيين».

إن مُحاربة «الإرهاب الإسلامي» إن انتصرت لا تؤدي بالضرورة إلى بدائل أفضل، وهذا ما يشاهَد بوضوح في العراق وأفغانستان، حيث ليس في مآل الصحوات العراقيّة أو إدارة كرزاي الأفغانية ما يُشجّع على تكرارها في سوريا. الأسئلة كثيرة في واقع مُعقّد، لكن الحصول على إجاباتها هو الطريق الوحيد، وهو طريقٌ طويل ومتعرّج.