أسوة بتصنيفات المنظمات الثقافية العالمية لإرث الحضارات والثقافات، من نمط «الإرث اللامادي»، علينا أن نعترف أن «حرق البلد» أخد مناحي لامادية عديدة، تتجاوز العمران بمعناه الأخص لتطال النسج الاجتماعية والعائلية والمجتمعية والاقتصادية. ولكن من بين المناحي اللامادية الأخطر للحريق الممتد والمستمر هناك حريق صامت، يطاول بثبات ورويداً رويداً كامل مساحة «البلد»، هو حرق الإرادة والقرار والرؤية لعموم السوريين ولكن بالأخص سوريي المناطق الثائرة التي كانت الحامل الأول والأغنى في بداية الثورة. سياسة التدمير والإفقار والتجويع والحصار الممنهجة على مدار سنتين وفوضى مآلات الثورة وبروز القوى المتشددة التي أصبحت تلّوح بفاشية جديدة خطيرة، كل ذلك أخذ يُبرز نمطاً جديداً في مزاج وسلوكيات الجموع المتعبة والمفككة الرازحة تحت الحصار، أو المهجّرة التي فقدت كل نقاط علام حياتها، هو نمط السلوك اللحظي وسد الحاجة الآنية المباشرة.

مع تعاظم كل أنواع الألم والحرمان، تصبح موازنة الأذيّات الكبرى القادمة المحتملة مع الحرمان الآني اللحظي صعبة للغاية، ويصبح كل فعل من أفعال استشراف المصائب القادمة غير ممكن.

لا أسوق ما سبق من رصد متوجّس لمزاج الناس إلا لأمر محدّد، مثير بدوره لتوجّس أكبر وأكبر، هو إعادة الإعمار.

من وجهة نظر السوري غير المطلّع بدقة على ما يدور في كواليس لعب القوى التي تمثله أو لا تمثله، هناك نوعان من الأخبار تتوارد لمسامعه عن موضوع إعادة الإعمار، في منحيَين مختلفين، ولكن يشتركان بسِمة واحدة: النوعان يتسلّلان دون ضجيج عالٍ، على كل لا يعادل ضجيجهما الإعلامي ضجيج القتل والسلاح. من جهة هناك الإعلانات الرسمية للنظام وحكومته، إعلانات عن إقرار رئيس الوزراء وائل الحلقي خطط إعادة الإعمار في جميع المحافظات:

«وفق مخططات تنظيمية متطورة وتأكيده أن الحكومة ستنجز خطة إعادة الإعمار في جميع المحافظات وفق مخططات تنظيمية متطورة تشمل كل الشروط العمرانية والبيئية ووفق ضابطة بناء تتناسب مع الظروف البيئية والجغرافية والعمرانية لكل منطقة، وتأكيده على  ضرورة البدء بإعادة تأهيل وإعمار المناطق التي خربتها المجموعات الإرهابية المسلحة وفق دراسات تنظيمية وتخطيطية حديثة والتعويض على المواطنين المتضررين جرّاء هذه الأعمال الإرهابية وتأهيل شبكات الصرف الصحي ومياه الشرب وتقديم المزيد من الدعم للبلديات»

يبقى أن أكثر «المواطنين المتضررين» وخاصة المحاصرين والمهجّرين والفارّين لم تصلهم نوايا رئيس الحكومة وحكومته، نظراً لانقطاع كافة أشكال الاتصال في مناطقهم وانقطاع الكهرباء المستمرّ الذي يحرمهم من متابعة رئيس وزرائهم على التلفاز. ناهيك عن أن أعمال إعادة البناء ستأخذ وقتاً قبل الوصول إلى مناطقهم لأنها ستبدأ في محافظتي طرطوس والسويداء، ودائماً وفقاً لرئيس الوزراء.

أخبار أخرى، أكثر خفراً هذه المرة، تسري بين قلة من المطلعين، عن رؤى مسؤولي هيئة تخطيط الدولة التنموية الإصلاحية والتي تقضي بتشجيع المشاريع الإنتاجية الصغيرة في المناطق الآمنة. نعم الآمنة. أما الإشاعات التي يتداولها عموم الناس كحقيقة مؤكدة فهي أن الحكومة أبرمت اتفاقيات وعقود إعادة إعمار مع شركات إيرانية وروسية.

من الجهة المقابلة، جهة المعارضة السياسية الممثلة لإرادة الشعب الثائر، وصلت لأسماع المواطن عن إعادة الإعمار نتف، من قبيل: وعود أصدقاء الشعب السوري بمخصصات لإعادة الإعمار، لقاء الإمارات عن إعادة الإعمار، ورقة طريق «اليوم التالي» (داي آفتر) والتي أنجزها أعضاء في الائتلاف والمجلس الوطني وأفراد آخرون مستقلون، وضعوا فيها تصورهم، بالتعاون مع بعض الهيئات الأميركية، عن آليات ومبادئ الانتقال إلى اليوم السوري التالي (أم التالي السوري؟ أي صفة ينبغي أن تلتصق أولاً بـ«اليوم»؟) بدءاً من إعادة تأهيل القانون والدستور والمرافق والخدمات الأمية وصولاً إلى صياغة السياسات المجتمعية والاقتصادية الجديدة. الوثيقة تتضمن فضائل عظيمة مثل «التشاركية في القرار»، «مبدأ الشفافية في صنع القرار»، «توصية سبر حاجات المجتمع والمواطن حتى قبل سقوط النظام». العائق الوحيد أن ذلك المواطن العنيد غير مقتنع بالتشاركية، أو أنه أصمّ لا يسمع التعليمات بخصوص مشاركته في صنع القرار، رغم الشفافية، وفوق ذلك متعفّف زاهد لا يجهر بحاجاته، مع أن صانعي القرار الذي يمثلونه يريدون وبشدة سبر حاجاته.

في حين كان بعض الحالمين مع بداية الثورة يشهرون بأحلامهم، التي تتجاوز الدولة المدنية العلمانية التعددية إلى ديمقراطية طليعية مباشرة تفوق الديمقراطية التمثيلية الأولوية، باتوا الآن يلاحقون الحلول الحياتية البديلة الإسعافية، غير مكترثين بما يدور في الخفاء عن إعادة الإعمار. في حين كان أهالي المناطق الثائرة يصوغون مطالبهم  ومبرراتهم للانتفاض ضد السلطة القائمة تحت عناوين لها علاقة بـ«بيع البلد» وبـ«نهب الأراضي» و«تدمير بنية النسيج المحلي الانتاجية/الاقتصادية» وبالتالي إحداث طفرات اجتماعية مدمرة، وفي حين كانوا يرْون بسخط كيف كان رامي مخلوف يستولي على أراضيهم مقابل أثمان زهيدة ويبيعها للمتمولين الأجانب بأسعار خيالية، أضحوا اليوم وكأنهم مستعدون لقبول المولات التجارية والأبراج العالية (مرتع القناصين في حربنا السورية) وتهديم بناهم الإنتاجية والعمرانية التقليدية المحلية مقابل أمل سخيف ببعضٍ من حياة كريمة. أضحى أهل البلد يتقاسمون حدساً جمعياً بأن الرهان وراء تدمير البلد كان إعادة الإعمار لصالح حيتان السوق، والدليل أن أكثر المناطق المتضررة هي المناطق العشوائية وغير المرخصة، هم يسلّمون بذلك في حتمية سورية، مفادها أننا عاجزون عن مواجهة الرهانات الكبيرة الإقليمية والعالمية، هذا قدرنا منذ بدء التاريخ.

إعادة الإعمار ليست مسألة اقتصادية صرفة، هذا معروف. وخطر مشاريع إعادة الإعمار لا ينحصر بالخضوع لأجندات خارجية ولضغوط البنوك الدولية ولتغييب الحقوق الاقتصادية الاجتماعية مقابل الحصول على الحريات العامة… إعادة الإعمار دون تشاركية مطلقة تُسبَر فيها آمال ورغبات وحاجات السوريين هي ببساطة خيانة لمن سقطوا حتى الآن في سبيل كرامة السوريين.