كل يوم سبت، يجتمع عدد من النساء في بلدة سَلَميّة، غرب سورية، لمناقشة أحداث الأسبوع المنصرم في البلاد وما يتعلق تحديداً بالانتفاضة الشعبية ضد حكم الرئيس بشار الأسد. تقوم المجموعة بتحرير بيان سياسي يعبّر عن مواقفها، يطبعونه ويوزّعونه في شوارع المدينة، ويقومون بنشره على صفحات الإنترنت ليراه العالم.
في إحدى اعتصاماتهم الشهر الماضي، كانت فرح واحدة من عشر نساء ممن قرأنا بياناً يعبر عن تضامنهنّ مع المعتقلات السياسيات في سجن عدرا، فالسجينات كنّ قد أعلنّ مؤخراً عن بدئهم بإضراب مفتوح عن الطعام حتى الحصول على محاكمات عادلة. في الأسبوع السابق، طالبت معتصمات السلمية بدولة مدنية ديمقراطية.
تقيم فرح –أخفينا اسمها الكامل لضرورات أمنية– في دمشق، لكنها تعود إلى مدينتها سلمية كل يوم خميس. الجمعة بعد الظهر تعتصم مع حوالي خمسين معارضاً في مظاهرة أسبوعية مناهضة لنظام بشار الأسد. أما أيام السبت فتجتمع مع المعارضة النسائية قبل أن تعود إلى بيتها في العاصمة.
حراك نساء السلمية فريد، على حدّ قول فرح، لأن الاعتصامات والمظاهرات وغيرها من أشكال النضال السلمي لم تتوقف بالرغم من سيطرة النظام الصارمة على المدينة. وحتى عندما تراجع الحراك الثوري هناك بشكل عام، بقيت النساء مصرّات على الخروج وإثارة حماسة الشباب ليشاركوهم.
حاول مؤيدو النظام الحالي تصوير الثورة منذ بدايتها بصورة طائفية، كصراع سني شيعي، لكن أهالي سلمية، المنتمين بغالبيتهم إلى الطائفة الإسماعلية، يدحضون تلك المزاعم. فالإسماعيلية مذهب شيعي، لكن أبناء الطائفة انخرطوا في حركة الاحتجاج الشعبية بعد مرور عشرة أيام فقط على اندلاعها في منتصف آذار ٢٠١١. وبالرغم من أن المدينة نادراً ما تحصل على تغطية إعلامية ضمن أخبار الأحداث السورية الكثيفة، فإن أبناءها لم يتوقفوا عن التظاهر وتأييد الثورة.
شاركت نساء سلمية في الحراك منذ بدايته أيضاً. فرح، التي تبلغ من العمر اثنين وعشرين عاماً، كانت واحدة من خمس نساء شاركن في اعتصام الخامس والعشرين من آذار عام ٢٠١١. المظاهرات كبرت أسبوعاً بعد أسبوع، ومع الزمن باتت النساء تعرفن بعضهنّ جيداً. بعد ثلاثة أشهر من بدء الثورة، بدأن بالاجتماع بشكل مستقلّ وأسّسن هيئة نسائية قُمن من خلالها بتنظيم عدة نشاطات مناهضة للنظام.
عندما بدأ اللاجئون بالتوافد على سلمية من مدينتي حمص وحماه، قامت النساء بتنظيم حملات الإغاثة، بما فيها تأمين السكن والسلل الغذائية للوافدين الجديد. قاموا أيضاً بالتواصل مع الكثير من الناشطات في مختلف المناطق، لكنهم فشلوا في تأسيس تجمع وطني شامل للنساء السوريات. بحسب فرح، تزايد العنف في البلاد والنزوح القسري لعدد كبير من الناس كانا من أسباب الفشل، فقد أصبح التنسيق بين المناطق بالغ الصعوبة.
تعتقد فرح أن نساء سلمية لعبنا دوراً قيادياً على صعيد الحراك النسائي في الثورة السورية. فقد كنّ أول النساء المشاركات في المظاهرات، وأول من أسس هيئة نسائية ثورية. نشاطاتهم استمرت طيلة الأشهر الثمانية والعشرين الماضية، بقيت فرح ناشطة في دمشق وسلمية بنفس الوقت. التمريض حسب قولها هو المجال الوحيد الذي لا تزال نساء سلمية مقصّرات تجاهه، فالنساء في باقي المناطق تحولنا في كثير من الأحيان إلى ممرضات لمعالجة الجرحى والمصابين. أما في سلمية فلا يوجد ممرضات حتى الآن. لسنا بحاجة إلى التمريض في الوقت الحالي، تقول فرح، فالمدينة لا تزال بأمان.
إصرار فرح على أمان مدينة سلمية قد يبدو مفاجئاً، فالجانب المسلح للثورة السورية طغى على بدايتها السِلمية. في آذار عام ٢٠١٢، سجّل المركز السوري لإحصاءات الثورة أكثر من ٧٠٠ مظاهرة أيام الجمعة. أما في الصيف الحالي، فقد تناقص هذا الرقم إلى ما دون المئة مظاهرة. حسب الأمم المتحدة، بلغ عدد ضحايا الصراع في سوريا مئة ألف. هناك أكثر من أربعة ملايين نازح داخل البلاد، بما فيهم اللاجئون في سلمية. كما أن أجزاء كثيرة من البلاد باتت أشبه بكومات الركام. كل هذه العوامل أدت إلى تراجع النضال المدني، لكن سلمية لم تستسلم. وفي مظاهراتها الأسبوعية، باتت النساء تشكل ما يقارب نصف عدد المتظاهرين.
«النساء كانوا من أبقى شعلة الاحتجاج متوقدة بعدما بدأت قوى الأمن بحملتها القمعية»، يقول أبو خالد، أحد نشطاء سلمية والبالغ من العمر ستة وعشرين عاماً. «كنا نراهم يخرجون للتظاهر، فنتحمس لمشاركتهم».
تعترف فرح أن أمان سلمية النسبي بالمقارنة مع المدن السورية الأخرى ساعد على الحفاظ على مقاومتها المدنية. فالمدينة حتى الآن لم تتعرض لهجوم عنيف من قبل قوى النظام، لأنها بالنسبة له لا تؤوي المقاومة المسلحة. عُرف عن قوى الأسد أنها تستهدف المناطق المدنية الحاضنة للمقاتلين بالقصف العنيف، ولكن في حين حمل الكثير من رجال سلمية السلاح، فقد شاركوا كتائب تنشط خارج المدينة وذلك كي يحموها قدر الإمكان من الدمار الذي حلّ بالقرى المجاورة.
بالرغم من ذلك لم يخلُ الحراك النسائي في سلمية من المشاكل. تتذكر فرح حادثة معينة حصلت بعد حوالي سنة بعد انطلاق الثورة. «كنا واقفين في الساحة الرئيسية، ونرفع اللافتات المطالبة بالحرية للمعتقلات السياسيات عندما قدم مدير الناحية وصفع احدى الفتيات»… قامت الأخيرة بصفعه بالمقابل، فهجم الشبيحة علينا وهاجمناهم نحن أيضاً بدورنا.
مع ازدياد التوتر الأمني في المدينة، حسب أبو خالد، بدأ الرجال يشعرون بالخوف على النساء وطلبوا منهم التوقف عن الخروج إلى الشارع. لا يزال أبو خالد يؤيد مشاركة النساء في المظاهرات بشكل عام، وإن كان لا يخفي قلقه على أهله من مغادرة البلاد ومن مخاطر العودة. حضور النساء المتعلمات والعلمانيات الساعيات نحو مجتمع مدني ثمين جداً، حسب تعبيره. سلمية هي إحدى المناطق القليلة التي لا تزال النساء تشارك في المظاهرات فيها وفي العمل الميداني بشكل عام.
معلمة أبو خالد السابقة في المدرسة الثانوية هي اليوم إحدى تلك النساء المتعلمات. اسمها الحركي أورنينا، وهي تعتقد أن نساء سلمية هنّ في طليعة المعارضة النسائية في البلاد، بسبب نسبة التعليم العالية بينهم وكونهم بالأساس عناصر فاعلين في مجتمعهم.
«حاول الكثيرون ثنيي عن المشاركة في الثورة خوفاً عليّ من الاعتقال… الجميع يعرف ما يحصل للمعتقلات»، تقول أورنينا، «ولكني أصرّ أنني سأبقى حرة بالرغم من كل شيء… قامت قوى الأمن بضربي، لكنهم لن يتمكنوا من إسكاتي».
ابنة أورنينا تعرضت مرة للاعتقال من قبل قوى النظام، كما أن والدة فرح، البالغة من العمر ثلاثة وستين عاماً، دخلت السجن أيضاً في شهر آذار الماضي بسبب قيادتها لإحدى المظاهرات، وبقيت محتجزة لمدة أسبوع تعرضت خلاله للتعنيف. تفتخر فرح أنها تنحدر من عائلة سياسية؛ والدها كان معتقلاً سياسياً في عهد حافظ الأسد لمرتين، واعتُقل أكثر من اثنتي عشرة مرة خلال الثورة، وهو مستمر في تشجيع زوجته على المشاركة في المظاهرات.
لكن فرح لا تنكر أن الخوف من انتقام السلطات أثّر على حركة النساء. «اجتماعاتنا في المنزل ليست بديلاً عن المظاهرات في الشارع، لكنها بلا شك أقل خطراً»، تقول وهي تصفّ الاجتماعات التي تعقدها نساء سلمية، حيث يصورون أنفسهنّ أثناء قراءة البيان الأسبوعي وهن يحملن اللافتات. «بدأنا بالاجتماع في المنازل بسبب الخوف من الاعتقال. قبضتُهم محكمة على المدينة والاجتماعات الآن هي وسيلة للنساء للاستمرار في نضالهنّ المدني».
نساء سلمية شعروا بتأثير نشاطهنّ على حياتهنّ الشخصية وعلاقاتهنّ أيضاً. الكثير من أصدقاء وزملاء أورنينا يقفون مع النظام. «البعص يحترمون رأيي ويتركونني وشأني، لكن البعض الآخر يحاول تثبيط عزيمتي أو مهاجمتي. البعض يستخدم الألفاظ النابية عند الحديث عن المعارضة، وآخرون يقولون إنهم ينتظرون موتي على يد الشبيحة»… بالرغم من كل ذلك، «سوف أستمر في الثورة. إما النصر أو الموت».