حسناً فعلت شيرين الحايك بإلقائها ضوءاً أولياً على تلك الواقعة السوسيولوجية التي حدّدتها بالبورجوازية السنية في دمشق وحلب بصورة خاصة. ستحاول هذه المقالة أن توسّع مفهوم الأقلية السنية إلى حدود تضمّ كل من يرى في إسلامه السني انتماءه الأهم بالمقارنة مع هويات أخرى أقل شأناً بالنسبة له.
يقوم تعريف الهوية الطائفية للسنّة المعرّفين على النحو المذكور على أساس سلبي، بالتقابل مع «الآخر»، العلوي الحاكم من وجهة نظرهم. فبداهة التراتبيات الاجتماعية «الطبيعية» تفترض حكم الأكثرية على الأقليات، كما هي حال العرب مقابل الكُرد والسريان والتركمان والشركس وغيرهم من الأقليات الاثنية، على سبيل المثال. فإذا كان الحكم «علوياً» وفقد صفته الطارئة ليتحول إلى حكم سلالي أبدي، قلَبَ ذلك المواقع بين الجماعات الأهلية لتصبح «الطائفة السنية» في موقع الأقلية السياسية، مقابل احتلال «الطائفة العلوية» موقع الأكثرية السياسية. هذا ما كانت عليه الحال في العراق المحكوم بنظام أكثري سياسياً برغم لونه الأقلّي السنّي في المجتمع الأهلي وفقاً لهذا المعيار.
كشفت الثورة السورية الغطاء عن انقسامات حادة في الاجتماع السوري، لم تقتصر على وجهها الطائفي المللي. فإلى الأقلية العلوية انضافت أقسام مهمة من الأقليات الدينية والمذهبية الأخرى، وضمناً البورجوازية السنية الموصوفة في مقالة الحايك، لتشكل معاً الجسم الرئيسي لقاعدة النظام الاجتماعية، فيما وقفت الجماعة الكردية جانباً فنأت بنفسها عن «الصراع» إلى حين، لكنها لن تكون أبداً جزءاً من هذا الطرف أو ذاك. ويشكل موظفو الدولة والقطاع العام الاشتراكي فئة تخترق التكوينات الأهلية وترتبط حياتها بصورة مباشرة بولائها للنظام، لكن أقساماً منها –لا نعرف حجمها– انشقّت عن النظام والتحقت بالثورة.
بهذه الخريطة من الاصطفافات السياسية، عادت «الأقلية السنية» المهمّشة لتجد نفسها معزولة أكثر وأكثر أثناء الثورة. إن ما نسميه اليوم «مجتمع الثورة» يكاد يتطابق مع «طائفة» صغيرة من سنّة الأرياف وأطراف المدن المهمشة الذين يردّون تهميشهم الاجتماعي–الاقتصادي إلى تهميش سياسي–مذهبي. كان هؤلاء، في حقبة ما قبل الثورة، يهتمون كثيراً باحتلال شخصيات سنّيّة لمناصب مهمة في نظام الأسد، الأمر الذي كان هذا يلبّيه بسلاسة يُسكِت بها مشاعر التهميش والتظلم لدى «الأقلية السنية»، المهمشة سياسياً. فقد أحاط الأسَدان –الأب والابن– نفسيهما دائماً بشخصيات سنية في أرفع المناصب، كنوّاب الرئيس ورؤساء الحكومات ووزراء الدفاع والخارجية والداخلية وقادة بعض الأجهزة الأمنية. في وقت مبكّر من تولي بشار الأسد، كنا نسمع في المجتمع العلوي غمغمةَ تذمّر من احتلال شخصيات سنية لأرفع المناصب المحيطة بالدكتاتور الصغير، إضافة إلى زوجته السنّيّة.
لكن معيار احتلال تلك المناصب هو، كما نعلم، الولاء المطلق لرأس النظام، في حين تمثّل شخصيات علوية غالباً حلقة الحكم الضيقة الخفية من حوله، بعيداً عن المناصب الظاهرة. لطالما كان شخص مغمور بلا منصب رسمي كمحمد مخلوف (خال الرئيس) أهم من نائب الرئيس ورئيس الوزراء ووزير الدفاع ورئيس شعبة الأمن السياسي (محمد ديب زيتون) مجتمعين.
«الأقلية السنية» وفقاً لتحديد الحايك تخلت عن أي طموح سياسي مقابل مصالحها الاقتصادية المحفوظة من قبل النظام، وإن لم يخلُ الأمر من منازعات بسبب الطابع البلطجي لأقوياء النظام، وخاصةً في عهد الأسد الابن الذي لم يراع المواضعات التقليدية، كما رأينا في الصراع على وكالة شركة مرسيدس بين آل سنقر ورامي مخلوف.
أما الأقلية السنية الحقيقية، بمعنى التهميش السياسي–الاقتصادي، فقد كان النظام «الاشتراكي»، بقطاعه العام وسيطرة الدولة على السوق، يخفّف من وطأة مظلوميتها ومن دور العامل الطائفي في تحديد مواقفها السياسية، فكانت تجد في تمثيل السنّة في أعلى المناصب الشكلية إرضاءً لها. بالغ النظام في عهد بشار في ازدراء الطبقات الدنيا، فانتهج سياسة ليبرالية على طريقته، وتخلى عن حذر أبيه في إبراز الوجه العلوي للنظام، وأخلّ بالتوازنات التقليدية في توزيع المناصب الشكلية، فاحتلّ مسيحيّ منصب وزارة الدفاع، على سبيل المثال، للمرة الأولى في تاريخ النظام الأسدي.
إن من يعمل على تغذية الرأي العام برواية «النظام العلوي الذي يهمش السنة ويضطهدهم» هو ما سأسمّيه «الأقلية السنية» بالمعنى الثالث، وهي تعني حصراً الإسلام السياسي بوجهيه الإخواني والسلفي. فهذه التيارات السياسية تربح بتصوير الاستقطاب الاجتماعي على هذا النحو، بوصفها «ممثلة الأكثرية العددية» حسب زعمها ووهمها. للأسف كانت التدخلات الخارجية «الداعمة للثورة» تعمل لصالح تعزيز هذه الصورة، سواءً في ذلك الدور القطري أو السعودي أو التركي، من خلال التغطية الإعلامية والتمويل والتسليح والتدخل في شؤون المعارضة السورية.
لنلخّص: هناك أولاً أقلية سنّية بالمعنى الطبقي البورجوازي كما حددته شيرين الحايك؛ وهناك ثانياً أقلية سنية بالمعنى الاجتماعي–السياسي، متذبذبة في شعورها بالمظلومية؛ وهناك أخيراً أقلية سنية هي الإسلام السياسي الطامح إلى الفوز بالسلطة بوصفها ممثلة للأكثرية العددية.