شكّلت الجيوش في البلدان النامية «مؤسسة» منتظمة قوية بعد «استقلال» تلك البلدان عن الانتداب والوصاية والاستعمار المباشرين. وظهرت هذه الجيوش دائماً في هذه الدول الفتية كأقوى حزب سياسي منظّم يمارس دوره فيها مباشرة أو بشكل غير مباشر. الجيش بحكم بنيته العسكرية الصارمة «منظّم» دائماً وقادر على السيطرة على عناصره بحكم آليات الانضباط العسكري التي تبدو بديهية وتلقائية فيه في الحرب والسلم على عكس الأحزاب السياسية المدنية، وبالتالي كان الجيش قادراً  أيضاً وعلى الدوام على فرض النظام على المدنيين في أي وقت تستدعي الحاجة ذلك. قوة الجيش وسيطرته الفعلية على الدولة «النامية» هما العامل الحاسم في مركزية أو لامركزية هذه الدولة أيضاً.

جيش الدولة الرسمي في سوريا

رئيس الجمهورية العربية السورية القائد الأعلى للجيش والقوات المسلحة، الجيش النظامي، الفيالق والفرق والألوية، الحرس الجمهوري، الفرقة الرابعة، سرايا الدفاع، سرايا الصراع، الوحدات الخاصة، القوات الخاصة، مدارس أبناء وبنات الشهداء، مؤسسة الإسكان العسكري، مؤسسة تنفيذ الإنشاءات العسكرية، الأشغال العسكرية، الخدمات الطبية العسكرية، مؤسسة معامل الدفاع، الجامعيون المتطوعون في الجيش، المدنيون المتعاقدون مع الجيش، الخدمة العسكرية الإلزامية، شعب التجنيد، تعبئة الاحتياط، جيش الدفاع الوطني…

كانت سوريا رائدة بين البلدان العربية (وربما في الشرق الأوسط أيضاً) في حدوث أول انقلاب عسكري فيها (1949) تلته عدة انقلابات أدت في النهاية إلى هيمنة الجيش على الحياة السياسية ثم على المجتمع.

نمى الجيش «العربي السوري» بشكل موازٍ لنمو المجتمع السوري (وخاصة نمو هجرة الريف إلى المدينة)، حيث عكس الجيش في بنيته غلبة العناصر الريفية بعد أن كانت قياداته على الأقل مدينية، ثم طغى على قياداته العنصر الريفي العلوي الذي، عبر التنقل والترفيع والتعيين والتسريح «التنظيم والإدارة»، تحكّم لفترة طويلة بكل عناصر الجيش المختلفة والمتنوعة قومياً وطائفياً وكان الناظم هنا فقط الولاء للقيادة.

بلغ الجيش الأسدي تعداداً يتجاوز الربع مليون في كل الإحصائيات المختلفة (ترتيبه عددياً 15 حسب إحصائية 2010 http://bit.ly/1cCl9Xf ويبلغ تعداده حوالي 320,000). الجيش السوري كان جيشاً غازياً أيضاً، فقد احتل بلداً مجاوراً (لبنان) لعشرات السنين، كما استهدف هذا الجيش شعوباً عديدة أحياناً، الفلسطينيين واللبنانيين والأردنيين والعراقيين، والسوريين أيضاً: في أحداث الثمانينيات. ولا ننسى طبعاً أنه جيش قاتل أيضاً دولة إسرائيل عام 1973.

هناك متطوعون كثر ومجنّدون كثر (خدمة عسكرية إلزامية لفترة طويلة نسبياً)، وهناك احتياط، وهناك مؤسسات اقتصادية عسكرية إنتاجية كبيرة ويعمل فيها متطوعون ومدنيون متعاقدون، بالإضافة إلى متطوعين ومدنيين متعاقدين في القطاع الخدمي الكبير أيضاً للجيش. كان التطوع بالجيش كمهنة احترافية أو التطوع كمدنيين جامعيين طريقاً شائعاً للتدرج في سلك «السلطة» في سوريا.

الجيش منتشر في جميع أنحاء سوريا على المناطق الحدودية (5 دول مجاورة)، وفي الداخل أيضاً. الجيش موجود حتى في قلب المدن الكبرى وعلى أطرافها مباشرة.

ساهم نمو الجيش في نمو المدن والبلدات أيضاً. هل يمكن إغفال دور وجود الجيش قريباً من قطنا أو الضمير في دمشق، مثلاً، في تطور هذه البلدات عمرانياً وسكانياً واقتصادياً واجتماعياً؟ توجد أمثلة مشابهة في كل سوريا تقريباً.

الكثير من أفراد الجيل البعثي الثالث من الأطباء والمهندسين وخريجي الجامعات الآخرين الذين تطوعوا في الجيش هم من أبناء الجيل البعثي الثاني (جيل السلطة)، وقد ورث البعض منهم آباءهم تماماً كما ورث بشار أباه.

كل الضباط العلويين القادة المهمين لهم في قراهم فيلات وفي ساحلهم شاليهات بشكل مميز عن الجميع، ويشبهون إقطاعاً عسكرياً جديداً. حافظ الأسد ملّك بعض قادة الفرق والفيالق حتى مقرات القيادة التي كان يفترض أن يتناوب عليها القادة المتعاقبون على المناصب.

عندما تسأل السوري «ليش؟» عن أي شيء يخطر ببالك، يجيبك في سجع تهكمي «مشان الجيش». الجيش فرض نفسه على المجتمع السوري عبر عقود طويلة اجتماعياً واقتصادياً وسياسياً (ميزانية وزارة الدفاع هي الأكبر بعد ميزانية وزارة الأوقاف). الجيش في النظام الأسدي مقدس مثله مثل الدولة، وقد تستطيع أن تنتقد الدولة في بعض الأمور وبلغة معينة لا تتجاوز «هيبة الدولة» ولكن لا يمكنك انتقاد الجيش أبداً بأي مستوى كان.

الدولة السورية دولة شديدة المركزية بسبب قوة وسيطرة الجيش على البلد. وقد طبعت عقلية الجيش عقلية الإدارة الحكومية المدنية أيضاً، فأصبحت تُدار بلغة الأوامر (إحدى سمات الدولة الفاشلة). هل كان بالإمكان وضع حدود واضحة بين المجتمع العسكري والمجتمع المدني في سوريا؟ كان المجتمع العسكري قادراً على فرض التدجين على أعضائه وعائلاتهم وأقربائهم وأوساطهم بطريقة تشبه العدوى. كما ساهمت «الطلائع» و«الفتوة» في المدارس الابتدائية والإعدادية والثانوية، وكذلك التدريب العسكري الجامعي، في عسكرة مجتمع الطلاب.

حتى الأحزاب الإسلامية والقومية واليسارية الموالية والمعارضة في سوريا كانت ذات بنية تنظيمية وسياسية «عسكرية» دون سلاح، وإن كان بعض الإسلام السياسي المعترض فقط هو من حمل السلاح فعلاً.

عندما استخدم النظام الأسدي الجيش في قمع مجتمع الثورة، كان واضحاً اعتماده على قوات نخبة وتشكيلات معينة منتقاة وموثوقة يعرفها الجميع… لم يستخدم عموم الجيش «النظامي» إلا كمؤخرة بعيدة دائماً عن المواجهة المباشرة. حدثت اعتقالات واسعة «وقائية» في صفوف الجيش النظامي منذ بداية الثورة. وكان لا بد للنظام الأسدي من استخدام تعزيزات نوعية من مقاتلين «مرتزقة» من حزب الله وأشباهه في مهامه الخاصة في مناطق معينة وأزمان معينة.

بالرغم من كل الانشقاقات عن الجيش، بشكل فردي أو بشكل مجموعات صغيرة، لم تحدث انشقاقات واسعة وكبيرة. لم تحدث محاولات انقلابية أيضاً.

تجمّد وضع الجيش النظامي لصالح بعض قوات النخبة. القطاع الاقتصادي العسكري أصيب مثله مثل القطاع الاقتصادي المدني حسب موقعه من خريطة الصراع. هرب كثيرون من الخدمة العسكرية الإلزامية أو من خدمة الاحتياط، ولم يعد يدخل باب التطوع كثيرون مثلما كان من قبل (حدث فرز طائفي وقومي في هذا المجال: من يهرب ومن لا يهرب؟ من يتطوع ومن لا يتطوع؟ كما حدث هذا الفرز بين العسكريين الذين وصلوا لسنّ التقاعد: من يُسمح له بالتقاعد ومن يُحتفظ به رغماً عنه؟). اقتصاد الدولة أصبح كله اقتصاد حرب، وتحولت آليات الجيش حتى في مؤسساته الاقتصادية (وكثير من العاملين فيها) لخدمة حربه ضد مجتمع الثورة.

في مؤتمر فندق سميراميس، الذي انعقد مبكراً في الثورة، قالت إحدى المشتركات في المؤتمر على شاشة التلفزيون «أنا ابنة الجيش وأعرف ما هو الجيش ولذلك أطالب بسحب الجيش إلى ثكناته». كم شخصاً في سوريا كان يمكنه وقتها التكلم بأنه ابن الجيش أيضاً؟ السمة العسكرية هي إحدى سمات سوريا الأسدية البارزة أيضاً.

جيش سوريا الحر

كتائب خالد بن الوليد، الفاروق، القاشوش، أبو الفداء، معاذ الركاض، حمزة الخطيب، الأبابيل، الهرموش، أبو عبيدة بن الجراح، العمري، ألوية الإسلام، التوحيد، المجد، درع الشمال، جيش محمد، كتائب خطّاب والمهاجرين وأنصار الشام والطليعة المقاتلة، صقور الإسلام، حركة الفجر الإسلامية، جبهة النصرة، دولة العراق والشام الإسلامية، الميلشيات الكردية: حزب العمال الكردستاني وPYD…

كان انعدام تجربة الكفاح المسلح في الأحزاب القومية واليسارية (باستثناء بعض الأحزاب الكردية السورية التي تعود نشأتها إلى أكراد من دول الجوار) قد ترك بصمة كبيرة في تاريخ سوريا مثله مثل تجربة الإسلام الجهادي العسكرية الوحيدة للطليعة المقاتلة. تاريخ سوريا السياسي قبل العهد الأسدي كان تاريخ أحزاب وتحالفات  ومؤامرات وانقلابات (غير دموية مقارنة بدول أخرى مثل العراق) ولم يكن تاريخ ثورات شعبية. الثورة السورية هي أول ثورة شعبية بهذا الاتساع والعمق في تاريخ سوريا (حدثت هبّات وانتفاضات محلية ومناطقية في نهاية السبعينيات وفي العقد الأول من القرن الجديد).

يمكن القول بشكل عام أن ما يعرف بالجيش السوري الحر هو الأكثر غموضاً في الثورة السورية بسبب طبيعة المعلومات المتضاربة حوله والتي تعرضت لأكثر الألاعيب الإعلامية والمخابراتية للنظام الأسدي. كما أن هذا الجيش هو أكثر ما  تعرض إلى اختراق المخابرات السورية والمخابرات الإقليمية والدولية في الثورة، بنجاحات متفاوتة في المكان والزمان وبهدف إعادة السيطرة على سوريا بشكل آخر مختلف عما قبل الثورة.

بنية الجيش السوري الحر بنية شعبية مدنية غير احترافية. نسبة المنشقين من الجيش النظامي أقل من نسبة حاملي السلاح من المدنيين داخل سوريا، وهؤلاء المنشقون المحترفون غادروا سوريا بمعظمهم ويعيشون خارجها أو على حدودها.

حاملو السلاح المدنيون غير مدجّنين مثل المنشقين المحترفين من الجيش. التشكيلات العسكرية الإسلامية الجهادية المستقلة ذات بنية مختلفة أيضاً.

المجتمع السوري مجتمع عنيف، وقد اختبأ هذا العنف خلف عنف السلطة التي احتكرت ممارسة العنف زمناً طويلاً وانفجر هذا العنف في الثورة. الشعب السوري ليس واحداً، وحده السلاح هو من أظهر لنا هذا. لسنا «أمة» لها تاريخ طويل. حضارتنا حضارة مدن متعددة مختلفة (المناطقية عندنا لها أساس تاريخي بصرف النظر عن الطوائف والقوميات)، ودولتنا دولة حديثة ذات عمر قصير نسبياً.

المزاج الشعبي السوري هو مزاج عسكري نوعاً ما، ومازالت الحساسيات ضد تدخل الجيش غير ناضجة، وقد ظهر ذلك في الترحيب الكبير بانشقاق ضابط مثل مناف طلاس والبحث الدائم عن ضابط كبير في الجيش الحر يمكن الركون إليه والثقة به، والافتتان بالنشيد الوطني السوري الذي يصلح نشيداً للجيش أكثر منه نشيداً للوطن (اللافت في المزاج الشعبي السوري هو اختيار هذا النشيد الوطني في عهد الحكومات المدنية وقبل بدء تدخل الجيش في مسرح السياسة بشكل مباشر، كما لا ننسى اندفاع الشعب السوري تجاه الوحدة مع مصر والقبول بهيمنة نظام عبد الناصر الاستبدادي العسكري مقارنة بسورية ما قبل الوحدة)، ومؤخراً كان الترحيب المفاجئ بطريقة الانقلاب ضد حكومة الإخوان المسلمين في مصر.

مع تداعيات الثورة يمكن التوقع في المستقبل أن يتسلح جميع أفراد الشعب السوري (سلاح دفاعي) في الفترة الانتقالية على الأقل، مهما كانت طبيعة هذه الفترة الانتقالية، والسبب واضح ومفهوم، وستُطرح في النظام الجديد أيضاً –مهما كانت طبيعته– قضية الجيش من أساسها: هل نحن بحاجة إلى جيش كبير «قوي»؟ ألا يمكن الاكتفاء بجيش «صغير» محترف مزوّد بأسلحة متطورة وقادر على إنجاز مهمته الوحيدة في الدفاع عن البلد ضد أي عدوان خارجي؟ كيف السبيل إلى عدم الرجوع إلى هيمنة الجيش على الدولة والمجتمع في سوريا؟ ألا يمكن إبقاء السكان مدنيين مع استعدادهم لتلبية النداء إلى التعبئة بالاحتياط في الجيش عند الضرورة فقط (عدوان خارجي)؟

أنظمة الحكم المجاورة والإقليمية والدولية تبحث دائماً عن «رجل قوي» يستطيع قيادة سوريا الجديدة وتأمين مصالحها أيضاً. حتى أشخاص مثل رفعت الأسد أو مناف طلاس أو غيرهما لا يُستبعد تجريب استخدامهم في المرحلة أو المراحل الانتقالية.

تعني الدولة المدنية في سوريا ببساطة الدولة التي لا يحكمها العسكر أو رجال الدين، ولكن في سوريا الثورة غالباً ما امتزج دور رجال الدين والعسكر الجدد في الجيش الحر مما يوحي بسير سوريا باتجاه لا مدني ما لم يحدث اختراق في هذا المجال فيتم فك ارتباط رجال الدين الجدد بالعسكر الجدد على الأقل، ومن ثم سيطرة المجالس المدنية على العسكر ورجال الدين أيضاً. الدولة السورية الجديدة ستمشي غالباً بالاتجاه اللامركزي كذلك بسبب طبيعة تركيب الجيش الحر المختلفة عن طبيعة تركيب الجيش الرسمي، وهذا واضح على الأقل في المناطق الكردية الآن، حيث يتخلى النظام عن سيطرته المباشرة لصالح حلفاء له (كما هو واضح بشكل مقلوب في مناطق العلويين في الساحل السوري حيث لا يسمح النظام لغيره أن يكون شريكاً له فيها، مقارنة مع المناطق البين بين). سوريا الأسد التي عرفناها تحتضر، وسوريا الجديدة قادمة بدون شك مهما طال الزمن وبالرغم مما نشهده حالياً في الواقع من وجود ملامح سوريتين أسدية وغير أسدية، إلا أن هذا الأمر لن يدوم أيضاً، ولكن الفترة الانتقالية سيغلب عليها العسكر أيضاً على الأرجح.