الجدليّة المُطوَّلة حول الروافع التاريخية للتحولات المجتمعية الكبرى كائنةٌ ولا ريب في عمق الصراع الذي نشهده راهناً في عالمنا العربي. تسمية «العالم العربي» بهذا المعنى تبدو واقعيةً بحكم «سطوة» اللغة العربية وما تخلقه من فضاء معرفي يغلّفنا جميعاً، لكنّها واقعيةٌ إلى سويةٍ «دون مطلقة»، بحكم أنّ الحياة موجودةٌ أيضاً خارج الفضاء المعرفي «العالِم» الذي تصنعه اللغة كنظيرٍ موازٍ للحياة، ويجبّ الأصل الحياتي المُعاش في أحيان عدة. في هذه الثنائية، مع ما تكتنفه من تناقضاتٍ صغرى بين اللغة والحياة أو بين المعرفة والواقع، ثمّة تلقيمٌ راجعٌ (feedback) ضروري، الأمر يتم بطريقةٍ «طبيعية» في التجمعات البشرية «الطبيعية»، أما حين يحضر الفرض من ناحية أخرى، والفرض هنا يذهب في الاتجاهين (فرض ثبات المعرفة على تغير الحياة، أو فرض ثبات الحياة على تغير المعرفة)، حينها تتراكم بفعل الزمن التناقضات الصغرى، الطبيعية، والمحتملة بحيث تغدو كبرى، غير طبيعية، وعصيّة لهذا على الاحتمال.

الروافع التاريخية للتحولات المجتمعية الكبرى محكومةٌ إذن بالحالة الطبيعية، أو السعي إليها على الأقل، والحالة الطبيعية في هذا السياق محكومةٌ بالتماهي –دونَ المطلق أيضاً– بين الحياة كمُنتَجٍ لواقع الناس، وخاصة المهمّشين منهم، وبين المعرفة كمُنتَجٍ تبدو لغة النُخب الفاعل الأكبر فيه، وإن كان لا يخضع لها كليّةً، بحكم المُدخلات المعرفية القادمة من الخارج. النُخب الإنسانية بهذا المعنى ليست واحدة، ولا تقع بطبيعة الحال في زمنٍ واحد، كذلك يبدو التفاعل المعرفي المتبادل بين النُخب الداخلية «العربية» هُنا وتلك الخارجية «الغربية» أقرب إلى التجاذب الفيزيائي بين التفاحة والأرض، ثمّة فرقٌ في الكتلة المعرفية هنا، هذه حقيقة مهما شابها من حِرانٍ غير مبرّر.

ولكن، هل بوسع الحياة أن تتخلى عن المعرفة؟ والسؤال هنا يخصّ الحياة العربية، التي لا تعدو كونها حياةً في النهاية، الناس هي الناس، والمهمّشون هم المهمّشون، الحاجات أيضاً هي الحاجات، وكل هذه تقع في زمنٍ إنسانيٍ واحد، والناس بهذا غير معنيةٍ بالتحولات المجتمعية الكبرى، ليس بقدر ما هي معنيةٌ بكفّ عوزها إلى الحاجات على أي حال. تتماهى المعرفة هنا مع الحياة على نحوٍ مطلق، إلى حد أنّها تنتفي إذ هي حياةٌ فقط؛ إخضاع المعرفة للحياة على هذا النحو الفجّ لا يخص مهمّشينا فحسب، أو حتى حياتنا، وإنّما هذه حال الناس دائماً. الفرق يكمن في النُخب بوصفها نتاجاً أولاً للمعرفة، ومُنتِجاً ثانياً لها. هذا، وبقدر ما قد يبدو عليه القول من تعالٍ، فالنُخب هنا في «عالمنا العربي»، وهناك في «الغرب»، تُنتج المعرفة، أما الناس فتعيشها هنا وهناك حياةً وحسب.

الفصل بين الناس والنُخب حقيقي بقدر ما هو الفرق بين الحياة والمعرفة حقيقي، أو حتى بين اللغة والواقع، لأنّ الحياة ووعيها الأول واحدان لدى جميع البشر. مرةً أخرى، الناس هي الناس، لكنّ النُخب مختلفة، وتختلف المعرفة بالتالي، أو الزمن الذي تقع فيه على الأقل. الأمر والحال هذه أنّ المعضلة التاريخية التي لطالما عانى منها عالمنا العربي، أو فضاؤنا المعرفي الذي صاغته لنا لغتنا العربية، كانت كامنةً دائماً في النُخب ومعرفتها المتخلفة عن سواها من النُخب في الغرب، ولم تكن يوماً في الناس، لا بل أنّ الناس وحيواتهم المحكومة بالحاجات كانت دائماً أوسع وأكثر تطوراً من مدارك النُخب على إنتاج معرفةٍ قادرةٍ على القيام بأعبائها.

روافع التحول الاجتماعي بهذا المعنى هي حاجات الناس التي تفرضها الحياة، وهي المعرفة التي تجترحها النُخب لإيفائها. الحياة تفرض الحاجة إلى التغيير على المعرفة، والمعرفة تفرض نمط التغيير على الناس، وحيواتهم بطبيعة الحال. الشق الأول من المعادلة (الحياة وما تفرضه من حاجات) هو فرضٌ طبيعي، وهو واحدٌ لدى جميع البشر، أما الشق الثاني (المتعلق بالنُخب والمعرفة بوصفها حلاً للحاجة) فهو مصطنع، ويخضع بالتالي لمدارك العقل، ممكناته ومنغلقاته. النجاح أو الفشل هنا لا يخص الحياة وإنما المعرفة، لا يخص الناس وإنما النُخب، ولأنّها تتحمل المسؤولية وليس الناس، فالنخب هي رافعة التغيير، ورافعة التحولات المجتمعية الكبرى، ذلك أن الحاجات كما الحياة: كانت دائماً موجودة. يتحرك التاريخ إذن بفعل الحياة، ويسير حيث تأخذه المعرفة، وهنا تأتي الأدوار التاريخية للنخب من خلال تخليق «معرفة جديدة» للمنغلقات التي تنشأ عن تراكم التناقض بين الحياة و«المعرفة القديمة».

ولكن ماذا يحدث عندما تعجز النخب عن إنتاج معرفةٍ جديدة؟ الأمر واضحٌ في سوريا على نحوٍ بيّن، إذ عدا عن خراقة المعرفة القديمة التي أنتجتها النخب الوطنية السورية على مدى عقود، وذلك الصوغ المتفجّر لوطنيةٍ فصاميةٍ تحمل في صُلبها عوامل تفككها الأكيد، فقد أُضيفت إلى هذا الخطاب المعرفي ثوابت تجعل صدامه محتوماً مع حياة الناس وحاجاتهم… إنّها القطيعة بين المعرفة والحياة حين لا تنتج معرفةً جديدة… ترى ما الذي يحدث؟

حسناً، فلنتأمل معاً في ثوابت المعرفة التي صاغتها النخب السورية عشية التفجّر المتأرجح الذي حدث… لاءات ثلاث: لا للطائفية، لا للعنف، ولا للتدخل الأجنبي.

خرج الناس في سوريا ببواعث الحاجة، الحياة التي غدت عصيّة على التحمل في سياق التناقض المتراكم مع معرفة النُخب، الحياة كانت واضحةً في تحديدها القاطع للعدو… العدو هو النظام الذي سرق وقتل ونكّل، هذه لم تكن حقيقةً فرضتها المعرفة على الحياة، هذه كانت مُنتجاً حياتياً وحسب، واقعاً مُعاشاً بكل بساطة. العداء للغرب، على النقيض، كان معرفةً فرضتها النخب السورية على الحياة السورية، وكذلك وحدة التراب السوري، أو حتى الانغلاق على تعريفٍ مشرقيٍ للذات، يجعل الطاغية جزءاً داخلياً منها، ويجعل الغرب وحتى إسرائيل كياناً خارجياً عنها، الناس هي الناس، هنا، في الغرب، في إسرائيل، في تركيا… كلنا بشر، هذه حقيقة الحياة. والقاتل هو القاتل… هذه حقيقةٌ حياتيةٌ أخرى. السؤال هنا: من قتل الناس؟

وإزاء توق الناس إلى الحياة، كان لدى النخب السورية معرفتها القديمة، وهذه بدل أن تتغير بحيث تتوافق والحاجة، أُريد لحياة الناس وحاجاتهم أن تتغير لتتوافق مع معرفة النخب. هكذا، يُقتل الناس ولا يُطلب التدخل الأجنبي، ثم يُقتَلون أكثر ولا يُطلب التدخل الأجنبي، حتى تبلغ الأمور سويةً لا تعود الحياة فيها قادرةً على تحمل المعرفة. تصبح الوطنية هنا قاتلةً، ويغدو خطابها «العالِم» منفصماً عن الواقع على نحوٍ يثير الغثيان. مرةً أخرى: من هو العدو؟

كان بوسع النُخب السورية أن تطلب التدخل الأجنبي منذ اليوم الأول، علناً وعلى رؤوس الأشهاد، وأن تؤسس لمعرفةٍ جديدة تكون الناس فيها هي الناس، والطغاة هم الطغاة، والقتلة هم القتلة، لا فرق. المعرفة إذْ تضع حلولاً للواقع بناءً على الحاجات، حاجة السوريين لم تكن بأي حالٍ استعادة الجولان عشية الثورة السورية، ولا قبلها، ولا بعدها، الحاجة كانت الحرية، وكرامة الأفراد السوريين التي لم تتعرض للاستباحة من قبل الغرب، وإنّما من قبل الطاغية السوري. لكن مهلاً، من قال إنّ النخب السورية أرادت أصلاً أن تخلق فضاءً معرفياً سورياً؟ من قال أنّها كانت سوريّة أصلاً، أو معنيةً حتى بواقع السوريين الرثّ؟ الطابع العام لسلوكها إزاء التدحرج المتفجّر يشي برؤيةٍ عربيةٍ مسلمةٍ إلى الذات، هذه معرفةٌ أيضاً، لكنّها قديمة، وتحصر الناس في هويةٍ مغلقة. الناس هي الناس، مرةً أخرى، لكن مَن مِن النخب السورية يؤمن بهذا حقاً؟ سؤالٌ لا يجد إجابةً في واقع التردد الذي شاب طلب التدخل.

لقد تُرك الناس في بلادنا كي يُستباحوا دون هوادة، والرفض الأرعن للتدخل الأجنبي المباشر وعلى الأرض –ومن أيٍّ كان– لم يكن مردّه الناس، وإنما النخب، ليس الحياة وإنما المعرفة، وليس كل المعرفة، وإنما المعرفة التي أنتجت نخبنا أولاً، وأنتجتها نخبنا ثانياً، وبهذا المعنى بقيت الحياة حبيسةً للمعرفة القديمة. حسناً، مع فرقٍ بسيط… التفجّر، على كل شيء، ولتحرق كل شيء، تنتفض الحياة لتأكل ذاتها إذْ غدت خارج الزمن. هذا لن يتوقف حتى تنعتق من سجن المعرفة القديمة، أو حتى تعيد المعرفة إنتاج ذاتها كي تلبي الحاجة. حاجةُ الناس، مرةً أخرى، هي الحرية، هي الكرامة، وهي حرمة الدم والعرض والمال، ليست وحدة التراب، ولا التراب حتى، وليست بالتأكيد أشياء سخيفة من قبيل رفض الطائفية أو حفظ السيادة الوطنية.

سوف تبقى الناس تموت، تُقتل وتَقتل، حتى تعيد النخب السوريّة إنتاج ذاتها معرفياً. الديمقراطية حتى، ليست نظاماً «طبيعياً» بهذا المعنى، أو ليست نظاماً تنتجه الحياة الإنسانية في سياقٍ طبيعي معزولٍ عن المعرفة، ليس في العالم العربي فقط، وإنما أيضاً في الغرب. هناك حدث تحول نوعي في وعي النخب لذاتها، فرضته الحاجة لكنّها لم تفرض ماهيته، النُخب وعقلها الجمعي فعل فعله. لمّا يحدث أيٌّ من هذا في هذي البلاد، وريثما يحدث، ثمّة عذاباتٌ كثيرة على الناس أن تخوضها…

إنّها المعرفة حين تتحجّر… تتفجّر الحياة تحتها ويموت الناس.