في تشرين الثاني 2012، أسس ثوار سوريون «هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر» (وهو نفس اسم الشرطة الدينية في السعودية) في مدينة الباب في حلب. في آذار من السنة التالية، عاتب الشيخ معاذ الخطيب رئيس «الائتلاف الوطني» جماعات ثورية متطرفة علناً على حظرها التدخين في بعض المناطق، وعلى إعدامهم امرأة بتهمة «الفاحشة» كذلك.
يبدو أن مثل هذه التطورات ترسّخ الفهم الشائع في الغرب عن تطبيق الشريعة، باعتباره فرضاً ثقيلاً لنمط حياة إسلامي. ذلك جزء من الواقع لا يمكن إنكاره. لكن إقامة الشرع الإسلامي في المناطق التي يحكمها الثوار أكثر من مجرد نزعة لفرض الأخلاق على الناس. في الحقيقة الاهتمام بذلك هامشي بالمقارنة مع قضايا أكثر إلحاحاً كالحاجة لإعادة بناء مؤسسات الدولة ولاستعادة حد أدنى من القانون والانضباط.
ثمة نقطة ثانية، أنه بالرغم من أن إقامة الشرع الإسلامي في سوريا أدّت لبعض التوتّرات والخلافات، إلا أنه يصعب ربط ذلك بانقسام بين قانون علماني وقانون إسلامي، فثمة إجماع واسع على مبدأ النظام القانوني المستمدّ من الشريعة. بالأحرى تنشأ الصراعات من تنافس مشاريع بناء المؤسسات، التنافس الذي تعززه نزاعات عسكرية وقضاء ماضٍ نحو مزيد من الاستقلال.
مفهوم الشريعة ليس جديداً في التشريع السوري. الدستوران اللذان أقرهما حكم آل الأسد (1973-2012) تقول المادة الثالثة لكل منهما أن «الفقه الإسلامي هو المصدر الرئيسي للتشريع». لكن بالممارسة كان النظام القانوني معلمناً بشكل كبير: بعد تبنّي قانون جزائي وتجاري ذي روح أوربية، عام 1949، وحده القانون المدني (الأحوال الشخصية) بقي مبنيّاً على الشريعة.
نتيجةً للصحوة الإسلامية أواخر القرن العشرين، بالإضافة لأزمة الثقة التي حلت بنظام البعث ومؤسساته، صار يُعتبر البناء القانوني العلماني السائد غير شرعي بالنسبة لعدد متنامٍ من السوريين – بما في ذلك أعضاء في السلطة القضائية، والتي لطالما كان فيها جناح محافظ قوي. أكبر مثال لذلك الوضع كان تسريح قاضٍ عام 2010 كان قد اتصل بالشيخ المصري–القطري يوسف القرضاوي خلال برنامجه الأسبوعي على قناة الجزيرة وسأله إن كان يجوز له العمل في محكمة تطبّق قوانين وضعية تعارض الشريعة.
أكثر من ذلك، أدى ارتياب الناس بالقضاة الرسمي إلى مواصلة، وربما إحياء، عادة تحكيم المشايخ، لتسوية نزاعات بين تجار مثلاً. لذلك، حين انسحبت قوات الأسد من أرجاء واسعة في محافظات الشمال والشرق (إدلب، حلب، دير الزور، الرقة) منذ منتصف 2012، ظهر إجماع واسع في المجتمعات الأهلية على إعادة بناء النظام القضائي على أساس إسلامي. الإجماع على هذا المشروع كان الأكثر وضوحاً، باعتبار أن هذه المناطق هي الأكثر محافَظةً في البلاد، وهي مسلمة سنية إلى حدّ كبير.
بعد انسحاب قوات النظام، تنامى سريعاً الشعور بالحاجة لإعادة بناء مؤسسات القضاء، لسبيَين. أولاً، المجتمعات المحلية كانت تبحث عن حماية من الانفلات الأمني الذي تلا انهيار سلطة الدولة، خصوصاً ابتزاز عصابات مجرمة وجماعات ثورية مارقة. السبب الثاني هو أن الجماعات الثورية نفسها كانت بحاجة إلى سلطة قادرة على التعامل مع أسرى الحرب –الذين كان يجري إعدامهم بلا محاكمة– وعلى الفصل فيما بينها عند تقاسم الغنائم. فقط بعد ذلك بدأت سلطات قضائية مؤسسة حديثاً بفرض الأخلاق على الناس، في ظاهرة ظلت حتى الآن محدودة ومحلية.
في محافظتَي إدلب وحلب، تم بالتدريج دمج محاكم محلية مؤسسة حديثاً في نظام هرمي موحّد على مستوى المحافظة. كان هناك اتفاق في المبدأ أيضاً أن المحاكم المحلية ستطبّق «القانون العربي الموحد»، وهو قانون مستمدّ من الشريعة اتُفق عليه (ولم يطبَق) من قبل وزراء العدل العرب عام 1996. حصل إجماع واسع أيضاً فيما يخص عدم تطبيق الحدود (العقوبات الجسدية)، وذلك بعد الاجتهاد الفقهي واسع الصدى أنّ تطبيق الحدود يتطلب حالة سلام بالإضافة إلى دولة شرعية. أكثر من ذلك، المحاكم عموماً تفضّل التحكيم على العقاب، فالقُضاة أساساً مهتمون بصَون الوحدة الاجتماعية، في سياق صار سهل الانفجار إثر تكاثر الجماعات المسلحة. من المفيد التنويه هنا إلى أن أول المؤسسات القضائية بعد الثورة حكمها رجال دين تقليديون ذوو آراء سياسية معتدلة.
كان يلاحظ في المناطق المحررة حديثاً قلة القضاء المدرّبين، حيث هؤلاء إما مشبوهون باعتبارهم من أنصار النظام أو باقون تحت حكمه في مراكز المدن، أو غادروا البلاد. رجال الدين المسلمون سدّوا ذلك الفراغ، فهم يحظَون باحترام عامّ في المجتمعات الأهلية، وكذلك لأن من «الطبيعي» تقريباً لمحاكم مبنية على الشريعة أن يديرها رجال دين. لكن خبرة المشايخ كانت بين القليلة والمعدومة فيما يخص الإجراءات القضائية، بل وفيما يخص علوم الدين في بعض المناطق. كثير من العلماء الأكثر اطلاعاً وخبرة كانوا، كالقضاة، مُدانين بسبب دعمهم السابق للنظام أو قد غادروا البلاد. لذلك، كثيراً ما يساعد «القُضاة» شباب خرّيجو شريعة أو محاماة.
رغم أن تأسيس أول محكمة بعد الثورة كان عملية سهلة نسبياً، بالذات لأن فكرة تطبيق الشريعة لم تواجَه بتحديات جدية، إلا أن التوترات ظهرت بسرعة بين مؤسسات قضائية متنافسة. المثال الأشهر كان وما زال ذاك التنافس القائم بين «مجلس القضاء الموحد في محافظة حلب»، الذي يُفترض أن يكون السلطة القضائية الأعلى في المحافظة، و«الهيئة الشرعية» التي تديرها أربع جماعات ثورية إسلامية (لواء التوحيد، حركة أحرار الشام الإسلامية، حركة الفجر الإسلامية، وجبهة النصرة). ورغم أن «الهيئة» أكثر صراحةً في «إسلاميتها»، فإن «المجلس» ليس علمانياً، فهو يطبق «القانون العربي الموحد» إياه، المستوحى من الشريعة، ويخفّف الأحكام الصادرة بحق سجناء إن حفظوا بعضاً من القرآن.
في الحقيقة، النقطة الأساسية في تنافس الجسمَين القضائيين ليست طبيعة القانون الواجب تطبيقه، بل فصل السلطات: فبينما يطمح «المجلس» لتكريس نفسه كسلطة مستقلة، تُشرف مباشرةً على «الهيئة» جماعات مسلحة تتوق للإبقاء على ذراع القضاء. اهتمامهم الأساسي ليس تماماً فرض الأخلاق على الناس –مع أنهم يفعلون ذلك– بل بالأحرى الاحتفاظ بثروة رمزية قيّمة يمكن استخدامها مثلاً في الصراع ضد الثوار المارقين.
في آذار 2013، وفّرت «الهيئة» الشرعية الدينية للحملة العسكرية التي نفذتها جماعات مؤسسيها ضد مجموعة «غرباء الشام»، المتهمة بتفكيك المصانع بهدف بيع تجهيزاتها لمشترين أتراك. بعد ذلك بشهور (حزيران 2013) أعدمت «الهيئة» قائد «لواء جيش محمد»، الذي قيل إنه عميل للنظام. المثير في الأحداث أنه، بعدما تبيّن أن عملية أيار ضد «غرباء الشام» أكثر صعوبة من المتوقع، عرض «مجلس القضاء الموحد» التوسّط بين «الهيئة» و«غرباء الشام»، مثبتاً نفسه كالوحيد المحايد بين السلطات القضائية في حلب.
تابع «المجلس» بعد ذلك محاولاته مصارعةَ الجماعات المسلحة على القضاء، مثلاً حين أصدر أمراً لتلك الجماعات بتسليم أي أسير إليه خلال 72 ساعة من القبض عليه. لكن طموح المجلس للاستقلال الذاتي محدود بسبب ضعف قوى الشرطة لديه واعتماده المستمر على الجماعات المسلحة لفرض القانون.