منذ اللحظات الأولى للحدث السوري، التزم النظام السوري، سلوكاً وخطاباً، منطق الحرب الأهلية. بما يعني هذا من تصادم أهلي بين مكونات اجتماعية و دفع هذا التصادم إلى مستويات مرتفعة اضطراداً من العنف، والذي كثيراً ما يقدم عرضاً سخياً لاستسهال عنف مقابل.

يندرج في هذا السياق الخطابُ الأخير لرأس النظام بشار الأسد على مائدة إفطار ليلة القدر أمام <فعاليات المجتمع المدني>، حيث لم يُبدِ رأس النظام أي تراجع أو إعادة نظر في الإستراتيجية العدمية للحرب الأهلية، وكان ضمن هذا المنطق أن العنف لا يعالج إلا بعنف مقابل.

ولأن منطق الحرب الأهلية بحاجة لطرفين حتى يستقيم، فإن الأسد لم يجلس ليبيّت صلاة استخارة لإنتاج الطرف العنيف المضاد، بل لم يوفر جهداً عملياً لتصنيع الطرف الأخر المطلوب بشدة، مستعيناً في ذلك بخبرة نظامه المخابراتية الطويلة بإنتاج التنظيمات المسلحة لاستخدامها أوراقاً مزمنة كانت وما زالت جوهر ما اصطُلح على تسميته <دور سوريا الإقليمي الرائد في المنطقة>.

عمد النظام في الوقت نفسه لرفع الطلب على العنف المضاد باستخدام مستويات غير مسبوقة من العنف. وأدرك النظام مبكراً مخاطر ظهور قيادات وكوادر محلية شابة جديدة سِلمية داخل سوريا، تحظى بالاحترام الشعبي والتقدير المحلي في مناطقها وتقدم خطاباً نظيفاً جامعاً بالمعنى العام السوري. هذا يفسّر، ربما بما لا يدع مجالاً للشك، اختفاء محمد عرب وأنس الشغري و يحيى شربجي وغيرهم بُعيد اعتقالهم!

إن تراكم الظروف والأسباب المحلية، والغياب المفزع لأي صناعة سياسية محلية لاستراتيجية مقابلة لاستراتيجية الحرب الأهلية هذه، ومعرفة النظام لممكنات الظرف الدولي ومحدداته في مقابل أميّة سياسية مطلقة في التعامل مع المجتمع الدولي لدى النخب السياسية المعارضة المتوفرة، أضف إلى انكشافاً كبيراً -بطبيعة الحال- للداخل السوري الهشّ والضعيف، على إمكانيات جبارة للقوى الاقليمية الفاعلة والنشطة…، كل هذا وغيره ساهم أيما مساهمة في الانتقال من مشهد الثورة المفترض إلى مشهد الحرب الأهلية الواقعي. ولم ينقذ النظام بدوره، وهو راعي الاستراتيجية نفسها، من الخروج رويداً من المعادلة.

حيث أن ما تقدَم من محاولة لوصف المشهد لا يريد إعادة اكتشاف البارود، لكنه ليضيف شيئاً إلى تحليل ماهية الحل السياسي العتيد لصائغيه من شاغلي المقاعد في جنيف 2.

إن مستويات مرتفعة من العنف أخرجت أية فاعلية أو إمكانية مشاركة سورية فعلية في إنتاج الحل السياسي، لا على مستوى النظام ولا على مستوى أعدائه المحليين. وحيث لا أفق لعودة هؤلاء لامتلاك زمام المبادرة، إذ لا أدوات لديهم إن على المستوى التأثير الشعبي أو على المستوى المالي أو حتى قدرات التسليح، فإن الحل السياسي العتيد يُناط بمالك هذه الأدوات وصاحبها، إقليمياً ودولياً.

لم يطل المقام حتى بدأت عملياً معركة <توحيد سلاح المعارضة>، خاصة في المناطق التي خرجت كلياً عن سيطرة النظام. وعلى شاكلة <معركة توحيد البندقية المسيحية> التي قادها بشير الجميل يوماً في لبنان، فإن خارطة القوى المتصادمة قد تختلف جذرياً، ويصبح شائعاً انتقال البندقية من كتف إلى كتف فجأة ودون سابق تمهيد.

لن يكون غريباً أن يقود هذا المشهد المرتبك محلياً إلى مؤديات جديدة، حيث يكون من الممكن مشاهدة بعض النظام وبعض المعارضة في مواجهة البعض الآخر من النظام و المعارضة.

وعلى أن مستوى العنف المرتفع في الفترات الماضية يحافظ على الصراع متقداً لكنه لا يوفر حلاً سياسياً، فإن رَفعاً لسوية العنف ونقلاً له إلى مستويات دموية غير مسبوقة سيكون سبيلاً وحيداً أمام الفاعلين الأساسيين للإفساح في المجال أمام <العملية السياسية> وفتح أبواب جنيف العتيدة على مصراعيها.

أطراف الصراع المحلي الحالية باتت عصية على إنتاج الحلول، لكنها بالتأكيد قادرة مرحلياً على تزكية المزيد من العنف المطلوب للحل. بالتالي فإن إعادة صياغة مرتقبة لخارطة <الحرب الأهلية> قد تكون مفتاح قاعة الاجتماعات في جنيف. فهي تؤمن أيضاً لصانعي الحل الدوليّين امتلاكاً مطلقاً للأطراف الجديدة والمُعاد تأهيلها كأدوات محلية، بعضها للاستخدام لمرة واحدة وأخرى قد يمدّ بها العمر عتياً للسهر على تطبيق <الحل السياسي> المفترض. يشترك دهاة السياسيين من النظام و المعارضة في أنّ ما يشغل بالهم الآن هو وحده تقديم أوراق الاعتماد للخارطة الجديدة.