عن أحداث مصر وأبعادها في العالم العربي وسوريا

1) كمراقب عن كثب، ما هو رأيك بالحاصل مؤخراً في مصر؟

من الواضح أنّ الشعوب بعد أن نهضت لم تعد تحتمل نظماً لا تحقق لها مطالبها، لهذا حينما أزاح الشعب المصري حسني مبارك كان يعتقد أنّ النظام الذي سيأتي سيحقق له مطالبه، والتي كانت واضحة خلال ثورة 25 يناير سواء بما يخص بالبطالة أو الأجور أو التعليم أو الصحة، وأيضاً الدور المدني. لكنه اكتشف أن المجلس العسكري لم يُرد ذلك. من ثمّ ساعد المجلس العسكري في إيصال الإخوان المسلمين، الذين عملوا على زيادة المشاكل عوضاً عن حلها. سواء تعلق الأمر بممارسة السياسات الاقتصادية ذاتها، مما أدى إلى زيادة الأسعار وعدم زيادة الأجور وعدم التطرق للفساد القائم، أو بالميل لفرض سلطه دينية أشعرت الناس أن عقل القرون الوسطى يعود لكي يتحكم بهم. كان من الطبيعي أن يقود هذا الأمر إلى حراك جديد للشعب المصري، وهذا ما حصل فعلاً وأدى إلى سقوط سلطة الإخوان المسلمين. طبعاً، الشعب إلى الآن لم يحقق ما يريد، ولا يبدو أنّ السلطة الجديدة، كما أظهرت إلى الآن، معنية بتحقيق مطالب الناس.

2) هل تتفق مع تسميته بالإنقلاب العسكري؟

لا أعتقد ذلك، رغم أن هناك مظاهر لذلك. لكن حتى لو عدنا إلى ثورة 25 يناير، أو ما حدث في تونس، سنلاحظ أن الشعب ثار وكسر هيبة السلطة، لكن من قام بالتغيير هو الجيش. يعني، من أزاح حسني مبارك هو المجلس العسكري ولم تزحه سلطة الشعب التي كانت في الشوارع، وبالتالي فأن يتدخل الجيش في ظلّ الأوضاع القائمة أمر طبيعي، بالتحديد نتيجة لكون الثورة ليس لها قيادة سياسية واضحة تدفع إلى أن يكون الشعب هو من يستلم السلطة دون الاعتماد على طرف ثالث. بالتأكيد كان للجيش مصلحة بالتغيير، لأن التوافق الذي كان قد تحقق بين المجلس العسكري والإخوان المسلمين برعاية أميركية بعد ثورة 25 يناير كان ينص على أن يستلم الإخوان المسلمين مجلس الشعب والشورى وأن يأتي رئيس قريب من المؤسسة العسكرية.

لكن يبدو أن غرور الإخوان المسلمين وشعورهم بالقوّة بعد انتخابات مجلس الشعب والشورى، دون أن يفهموا سبب هذه القوة، دفعهم أكثر لمحاولة السيطرة على بنى الدولة، وهذا ما أخاف البيروقراطية والقيادة العسكرية، لأنها بدأت تشعر أن هناك قوة آتية للسيطرة على الدولة كبديل لها. من هذا المنظور، كان واضحاً أن القيادة العسكرية تركت مرسي بالأشهر الستة الأولى من حكمه ليقع بأخطاء متعددة، ومن ثمّ بدأت بالدفع باتجاه تغييره، فاستغلت هذا الحراك الشعبي الكبير الذي حدث لتُبعد مرسي، وبالتالي كان لها دور في التغيير بكل تأكيد. لكن ما أحاول التركيز عليه هو أنّ الرغبة الأولى التي أطاحت بالإخوان المسلمين كانت القوّة الشعبية على الأرض، والتي فاقت حتّى ما كان في ثورة 25 يناير.

3) مظاهرات 30 يونيو اعتُبرت، وفقاً للسي إن إن، أنها المظاهرات السياسيّة الأكبر حشداً في التاريخ. ما تعليقك؟ هل تخلى الشعب عن الحاضن الديني مقابل ذاك البحث عن الحاضن الاقتصادي؟

لا أعرف إذا كان هو أكبر حشد بالتاريخ، لكن بالتأكيد كان حشداً هائلاً ولم يحدث ضد حسني مبارك، حتى في اليوم الأخير، الذي شهدتُه في مصر وكان التقدير أنّ من شارك فيه كانوا تقريباً 23 مليون مصري. الحشد الذي رأيته في 30 يونيو كان بالتأكيد أضخم من ذلك.

هذا الحشد هو نتاج عنصرين باعتقادي: الأوّل هي القوة الشعبية الأساسية التي تخوض صراعاً من أجل تحقيق مطالبها؛ والعنصر الثاني هو بعض بقايا الفلول ومن شعروا أن قيادة الجيش أميل لأن تكون مع التحرّك وبالتالي اندفع للمشاركة رغم أنه لم يكن لينزل لو شعر بأن الصراع حقيقي. بالتالي هذان العنصران هما اللذان شكّلا هذه الصورة للعدد الكبير من المصريين. لكن في كل الأحوال هو حشد هائل. الجزء الأساسي منه يسعى لتحقيق مطالبه، وهو الذي استمرّ بالحراك بعد 25 يناير، حيث كان واضحاً، بالأشهر الأخيرة على وجه الخصوص، أنّ الشعب يريد تغييراً جذرياً، وهذا ما لمسته مثلاً في نهاية 2012 عندما حاصر الشعب قصر الاتحاديّة واقتحمه، وأيضاً في الذكرى الثانية لثورة 25 يناير، حيث كان الحشد هائلاً بوضوح وكان مؤشراً على أن الغضب يتصاعد وأن هذا الشعب نفسه سيقوم بثورة ضد محمد مرسي. هذا هو أساس الكتلة الشعبية التي تحركت في ثورة 30 يونيو.

الآن، بالتأكيد أن الشعب عندما انتخب الإخوان المسلمين لم ينتخبهم لمجرد كونهم إخواناً مسلمين، إنما لأنه أعتقد أن لديهم حلولاً لمشاكله، وأنهم من الممكن أن يكونوا صادقين ما داموا يتمسحون بالدين. ولكنه اكتشف بعد أشهر أنهم يستخدمون الدين لأسباب حزبيّة خاصّة، خصوصاً وأنه بدأ يلمس أن ما يقومون به هو استمرار أسوأ للوضع القائم أيام حسني مبارك، بشكل خاص على الصعيد الاقتصادي.

لذا أعتقد أنّ عنصراً بارزاً في فهم كلّ الثورات في المنطقة وما يجري في مصر هو أنّ مطالب الشعوب الأساسية هي مطالب اقتصادية، لأنّ الشعوب، لا تتحرك في بلداننا خصوصاً والبلدان المتخلفة عموماً، إلّا حين تشعر بأنها تعيش بين الحياة والموت نتيجة الانهيار الاقتصادي الذي يجعلها لا تستطيع العيش. هذا الوضع هو الذي يحرّك الشعوب، كما ظهر في التجارب التاريخية في بلداننا وجميع بلدان العالم، لذا من الواضح أنّ هذا الشعب سيبقى يتحرّك من أجل التغيير إلى أن يتغير النمط الاقتصادي-السياسي القائم. لهذا، لا الدين هو المحرك الأساسي، ولا قضية الحرية هي الأولويّة. بالتأكيد الحرية ضرورية، وهي تأتي في سياق فهم عمق المشكلات القائمة، وبالتالي حلّها، لأنه لا إمكانية لوجود حرية حقيقية ضمن وجود شعب مفقَر ومهمّش، وهذه قضية أساسية في ظل اقتصاد ريعي لا يستطيع أن يشغّل إلّا قسماً ضئيلاً من المجتمع ويهمّش البقية. الديمقراطية الحقيقية تفترض بناء اقتصاد منتج حقيقي. من هذا المنظور، كيف يمكن أن يتأسس اقتصاد منتج بعد أن قامت النظم الليبرالية بتدمير كل ما هو إنتاجي، من الصناعة إلى الزراعة، وبعد التركيز على الريعي في الاقتصاد، أي التركيز على خدمات السياحة والبنوك والاستيراد، وهذا قطاع هامشي أصلاً ولا يستطيع أن يستوعب إلا حوالي 20% من المجتمع ثم يهمّش الباقي. لهذا لا إمكانية لديمقراطيّة حقيقية في ظلّ هذا الفارق بين فئة قليلة تستطيع أن تعيش بشكل جيد وغالبية أخرى مهمّشة. سيبقى الشعب يتحرّك إلى أن يتغيّر النمط الاقتصادي، وفي هذا السياق نستطيع أن نطرح مشروع تغيير جذري يتعلّق ببناء دولة مدنية ديمقراطيّة.

4) هل يمكن القول بأنّ سقوط الإخوان في مصر هو مؤشر بداية سقوط نفوذهم كقوّة سياسيّة، في العالم العربي عموماً وسوريا خصوصاً؟

بالتأكيد. لأنّ اللحظة التي أصبح للإخوان المسلمين حضور رمزي انتهت مع وصولهم إلى السلطة، لأنّ قوتهم نبعت من جملة عناصر حدثت في العقود الماضية، بأساسها كان انهيار المشروع القومي وانهيار الكتلة الاشتراكيّة، وبالتالي انتكاس المدّ التحرّري التقدّمي في العقود الماضية. هذا الأمر ترك فراغاً مُلئ بالوعي الديني، نتيجة انهيار الثقافة عموماً وانهيار التعليم، وبالتالي عودة للوعي التقليدي كوعي أساسي لدى قطاعات واسعة في المجتمع. وفي إطار الدعم السعودي الخليجي الرجعي ومن قبل النظم نفسها التي حكمت بعد مرحلة التحرر القومي، أصبح للإخوان المسلمين قوّة في الشارع، ولكن ما زال جزء من هذه القوّة هو ما تبلور في مرحلة ما بعد انهيار الاتحاد السوفيتي، أي أنّ الإخوان المسلمين هم من يناهض النظم، فقد كان يبدو أنّ من يقاتل النظام هم الإسلاميون والجهاديون، وبالتالي فهذه القوة هي من يريد التغيير. لذا كان يبدو أنها تعبّر عن رغبات فئات أخرى مهمّشة بدأت تشعر بأنّ عليها أن تتمرّد. المستوى الثاني أنهم بعد 11 سبتمبر بدأ يبدو أنهم هم من يناهض المشروع الأميركي، وهذا أيضاً أكسبهم قدراً من الرمزية والتعاطف الاجتماعي. كذلك، ثالثاً، مستوى الصراع مع الصهيونية، حيث ظهر الإسلاميون على أنهم هم خصوم الصهيونيّة بالمنطقة، وظهرت كحركات التحرير الوطني، وأنهم بالتالي من سيحرر فلسطين.

جملة هذه العناصر كانت تطلق رمزيّة لدى الشعب عن الإسلاميين تجعلهم وكأنهم هم البديل. أضيف إلى ذلك ميول العديد من الجهات الليبراليّة-الديمقراطيّة في بلداننا، والذين بدأوا يضخمون من الميل الديمقراطي والتحديثي لدى الإخوان المسلمين، وظهروا باعتبارهم هم من سيحقق الثورة الديمقراطيّة. بالتالي حصلوا على كلّ العناصر التي تجعلهم يملأون فراغ البديل. هذا هو الوضع الذي رسم لهذه القوّة، ومع الأسف لعب الكثير من الليبراليين والديمقراطيين واليساريين دوراً في تضخيم حجم الإسلاميين في كل هذه العناصر.

الآن، وبعد أن وصلوا إلى السلطة، أصبحوا أمام مفترق: هل سيحافظون على هذه الرمزية، أو سيمارسون سياساتهم الفعلية؟ طبعاً بالنسبة لي كانت هذه الرمزية وهمية ولم تكن تعبّر عن جوهر الإسلاميين، لأنني أعتقد بأنّ الإسلاميين هم أولاً ليبراليّون على الصعيد الاقتصادي، لأنّ المنظور الفقهي الذي ينطلقون منه يعتبر التجارة هي الأساس، يعادي الصناعة، يكرّس كبار ملّاك الأرض كأساس في النمط الاقتصادي، وهذا ما ظهر عندما أيدوا حسني مبارك عام 1997 حين أصدر قانوناً بإعادة الأرض إلى الإقطاعيين. لهذا كنت أعتقد أنهم لن يحققوا تغييراً اقتصادياً. من منظور آخر، كنت أعتقد أنهم ما زالوا على تواصل مع الإمبريالية الأميركية، وأنهم جزء من هذه الشبكة الخليجية الأميركية ولن يخرجوا منها، وبالتالي صراعهم مع الدولة الصهيونية هو صراع شكلي، لأنهم في مراحل أسبق كانوا يعتبروا أنّ الصراع قائم على تحالف الإيمان ضدّ الإلحاد، وبالتالي تحالفوا مع الدولة الصهيونيّة ضدّ الشيوعية والسوفيتية.

لذا من الطبيعي أن أتوقع أنّ وصولهم إلى السلطة سيكشف الغطاء على كلّ هذا الغطاء الرمزي الذي حصلوا عليه فعلاً. أولاً، استمرت العلاقة مع الدولة الصهيونية، مع أنهم كانوا يقولون بأنهم سيُلغون اتفاق كامب ديفيد. هم كرّسوا العلاقة والاتفاق. بدا وكأن علاقتهم مع الولايات المتحدة وثيقة جدّاً، وبدأ يبدو واضحاً أنّ الولايات المتحدة هي من يدافع عن وجودهم في المنطقة. على الصعيد الاقتصادي استمرّوا بالسياسية الليبراليّة القائمة على الاستدانة دون زيادة بالأجور، دون خلق فرص عمل، بل على العكس من ذلك اتبعوا خطوات اقتصاديّة أضرّت بالشعب أكثر، وبالتالي كان واضحاً أنهم سينهارون… انهيارهم هنا كان سينعكس على كلّ المنطقة، لأنّ الرمزية السابقة تحطمت في مصر، وستتحطم بالتالي في كل المنطقة.

5) وماذا عن الأحزاب الدينية عموماً؟ هل يصحّ القول أن الشعوب الإسلامية قد استيقظت من مرحلة الأحزاب السياسية الدينية؟

الشعوب لم تغرق في هذا الموضوع. للأسف الشعوب تقاتل من أجل العيش، ووجدت في لحظة أنّ القوة السياسية الموجودة هي القوة السياسية الدينية: اليسار تهمّش، القوميّة تهمّشت، الليبراليون لم يستطيعوا من أن يصبحوا قوّة وبالتالي لم يكن من خيار سوى الإسلاميين. هذا الأمر هو الذي دفع الشعوب في تونس أو مصر لانتخاب الإسلاميين، وليس أي شيء آخر، لأن الشعوب أصلاً لا تميل إلى السياسة بالأساس، وحين تقاتل فهي تقاتل من أجل مصالحها وبالتالي تبحث عن قوة تحقق لها هذه المصالح. وفي لحظة ما، بدا وكأن الإسلاميين هم هذه القوة التي ستحقق المصالح، ولكن تبيّن فعلياً للناس بأنها ليست كذلك وبالتالي جرى تجاوزها. أعتقد أنّ نهوض الحراك الشعبي كان يقطع بالضرورة مع مجمل الدور الذي أصبح للإسلاميين في المرحلة الماضية، لأن هذا الدور قام على ركود وليس على حراك شعبي، كما قام، كما أشرت، على تضخيم دور الإسلاميين وإعطائهم رمزية هي أصلاً لليسار وليست لهم. الآن حينما يتحرّك الشعب يتحرك لتحقيق مطالب مباشرة، وفي هذه اللحظة تسقط كل قوة لا تستطيع تحقيق مطالب مباشرة للناس، لذا أصبح الحراك الشعبي بالضرورة يتجاوز كل ما تشكل في الماضي بما في ذلك الإسلاميين الذين سيصبحون في المرحلة القادمة هامشاً صغيراً لا أثر حقيقي له.

الثورة السورية

6) هل يمكن لهذا (أي أحداث مصر مؤخراً) أن يحمل أثراً في الثورة السورية؟ إن نعم، فهل يعتبر هذا الأثر سلبياً أم إيجابياً برأيك؟

بالتأكيد سيحدث أثر مهمّ في الوضع السوري. لأنه أظهر أنّ الشعوب لا تثق بالإسلاميين وأنها أسقطتهم الآن في مصر وغداً في تونس وليبيا… وبالتالي سيتكرّس الوعي المجتمعي في سوريا أن الإسلاميين ليسوا الحل أو البديل، خصوصاً أنّ ممارسات الإخوان المسلمين في سوريا خلال الثورة كانت سلبيّة وليست إيجابيّة.

فالإخوان المسلمون مارسوا خطاباً أو اتبعوا خطاباً سياسياً كان في تناقض مع الوعي الشعبي عموماً، أي جزء منه يتعلق باستدعاء التدخل الخارجي والجزء الآخر يتعلق بالميل الطائفي، خصوصاً أنّ الشعب السوري كان يعرف أنّ أيّ صراع طائفي هو لمصلحة السلطة. لهذا عندما حاولت السلطة افتعال صراع طائفي عن طريق القيام بمجازر، لم يردّ الشباب حتى المتديّن برد طائفي، لأنه يعرف أن هذه هي لعبة السلطة التي لا يريد الوقوع فيها لأنه يعرف نتائجها كما توضح له بالتجربة العراقية. لهذا كان يُنظر للإخوان المسلمين من هذا المنظور بحذر وتوجّس.

أكثر من ذلك، الممارسات التي اتُبعت من قبل الإخوان المسلمين في سوريا، كشراء الناس في الكتائب وتخزين الأسلحة بدل دعم المقاتلين بها، أوجد موقفاً سلبياً جداً من الإخوان في سوريا، أضيف إليه الموقف السلبي جدّاً من جبهة النصرة أو دولة العراق والشام التي باتت الآن في صراع مع الشعب نفسه عبر ممارسات آتية من العصور الوسطى في وضع الشعب أصبح يتجاوزه كثيراً. من هذا المنظور انتهت حظوظهم، مع العلم أنّ حظوظ الإخوان المسلمين لم تكن قويّة أصلاً نتيجة التكوين السوري، لكن الآن انتهت تماماً، وهذا ما يشعر به الإخوان المسلمون ويعتقدون بأنّ الأمور سائرة بإتجاه تهميشهم.

7) وماذا عن جبهة النصرة ودولة العراق والشام، وغيرها من التنظيمات التي تعطي الثورة طابع الثورة «إسلاميّة-جهاديّة» وتضعها على النقيض من ثورات عربية أخرى تجري حالياً في المنطقة؟

طبعاً، مع الأسف، ضعف التجربة والخبرة لدى الشعب الذي خاض الثورة في سوريا، وخصوصاً الشباب الذي مالَ إلى العمل المسلح، سمح بقبول مجموعات خطرة كمجموعات القاعدة التي سمّيت جبهة النصرة والآن دولة العراق والشام، انطلاقاً من أنّ صراعنا الأساسي هو مع النظام.

لم يجرِ النظر إلى أنّ هذه القوة بتكوينها الذاتي هي قوّة تخريب في أيّ مكان وُضعت فيه، لأنّ التكوين الذي قامت عليه ينطلق من أن أولوية الصراع تكمن في داخل الدين وليس في المستوى السياسي. بمعنى أنّ الصراع السياسي الذي يذهبون لخوضه هو صراع ضد الروافض والمارقين والملحدين وقيم المجتمع الذي يرون أنه تجاوز ما يعتقدون أنه الدين، وبالتالي معركتهم الأساسية هي أولاً ضد الطوائف والأديان الأخرى التي يعتبرونها كافرة، فبالنسبة لهم ليس على الأرض سوى إسلامهم. ومن جهة ثانية فإنّ هذا المجتمع السني هو أيضاً مارق، لأنه لا يطبّق الشريعة التي –باعتقادهم– يجب أن تطبّق.

لذلك تصبح معركتهم على مستويين: الأوّل طائفي والثاني فرض سلطة قهرية على الناس تستطيع أن تطال أيّ إنسان في أيّ لحظة من اللحظات، لأنّ قيم الإنسان العادي هي خارج إطار الشريعة التي يعتقدونها. وهكذا يصبح لبس المرأة مشكلة، وتدخين الرجل مشكلة، وحركة أي إنسان يمكن أن تكون مشكلة، ويصبح عدم الالتزام بما يعتقدون هم أنه الدين مشكلة. هذا الأمر هو الذي يجعل الهيئة الشرعية هي الحاكم الأساسي الذي يحاكم كل حركات وسكنات الناس، ويجعل الصراع في داخل البيئة التي يتواجدون بها وليس صراع هذه البيئة مع النظام، وهذا ما حدث في الشمال في الفترة الماضية في الرقة وحلب وتل أبيض والعديد من المناطق.

طبعاً هذه المشكلة ضخمت في الإعلام، وطبعاً كان هناك قصد من ذلك سواء من النظام أو من قبل الإعلام الخليجي أو العالمي لإظهار الثورة السورية كدولة إسلاميّة. وهذا مبدأ كان في أساس سياسة النظام للتعامل مع الثورة، ولكنه مع الأسف كان في أساس سياسة الإخوان المسلمين السوريين، وكذلك الدول الخليجية التي كانت تريد للثورة أن تبدو على أنها ثورة إسلاميّة، وأيضاً كان هدف الإعلام الغربي القول أن ليس هناك ثورات بل حراك ديني متخلف. لذا جرى تضخيم الإخوان المسلمين في الثورة في المرحلة الأولى، الآن انتهى هذا الدور وأصبح هناك تضخيم لدولة العراق والشام وجبهة النصرة، رغم أنّ وجود كل هذه المجموعات لا يساوي وجود مئات الآلاف من الشباب المسلّح، كثير منه متدين ولكن هذا التدين أفهم أنه تديّن شعبي قد يُستغل من قبل بعض المجموعات، وأمام الموت هناك الكثير من الشباب العلماني أصبح متديّناً أو أخذ شكل التدين الواضح، وهناك الكثير من أسماء الكتائب الإسلاميّة تحوي شباباً لا يعرف الكثير عن الدين أصلاً.

ولهذا فإنّ الشكل العام الذي يأخذ عن هذه الكتائب لا يعكس الواقع الحقيقي، الواقع الحقيقي أنّ معظم المقاتلين هم شباب بسيط لم يمتلك وعياً سياسياً في السابق، يخوض صراعاً دموياً مع النظام وأخذ هذا الشكل، ولكن شكله لا يعكس شكل فئات لديها أيديولوجيا لفرض نظام إسلامي، فحتى بعض الكتائب التي تقول أنها تطمح لدولة إسلاميّة كثير ممن يقاتلون فيها لم يكونوا يعرفون الصلاة أصلاً. وبالتالي هذا غير ذاك.

الآن جبهة النصرة ودولة العراق والشام أصبحت خطراً على الثورة، وتلعب دوراً مساعداً للسلطة في مواجهة الثورة، وهذا هو العنصر الآخر الذي يجب أن ندرسه عندما نتناول جبهة النصرة ودولة العراق والشام والقاعدة عموماً في سوريا، حيث للسلطة دور في تشكيلها وللسعودية دور في تشكيلها ولإيران دور في تشكيلها، لأنّ تنظيم القاعدة هو شكل من أشكال الميل الأصولي المتعصب القروسطي لفئات تريد أن تذهب إلى الجنة. يعني شباب بسيط يريد أن يذهب إلى الجنة بسرعة، وتحكّم مخابراتي يوظف هؤلاء الشباب في صراعات تخدم الدول والقوى التي تشاغب. الآن في سوريا إيران والنظام السوري يلعبان الدور الأكبر في تخريب المناطق التي انسحب منها النظام، في شكل من أشكال تهيئتها لعودة النظام إليها، فجبهة النصرة وتنظيم دولة العراق والشام يلعبان هذا الدور، تكفير الناس بالثورة وتكفير الناس بالدين أيضاً، ثم ليحدث ما حدث بالعراق في مواجهة الأميركان حينما سيطرت القاعدة، فقد دُفعت القوة التي كانت تقاتل الأميركان للتحالف مع الأميركان ضد القاعدة، والآن النظام يروّج لوجود مجالس صحوة كما حدث في العراق، يعني قوة كانت مع الثورة ستتحوّل للتحالف مع النظام ضد التنظيمات الأخرى. آمل أن ينتهي وضع جبهة النصرة، وأعتقد أنه يجب أن تُصفّى كما يجري الآن في منطقة درعا من خلال عدّة اشتباكات وقعت معها –مما يبدو أنه قرار في تصفيتها– لأنها عنصر تخريب وليست عنصر مساعد، هي عنصر يخدم النظام ولا يخدم الثورة.

8) مع الأخذ بعين الإعتبار موقف اليسار من الثورة السورية، والتي قد تُعتبر معادية لها، بشكل خاص من قبل شباب ثورات الربيع العربي، ما هي برأيك فرص تغيير هذا؟

مع الأسف هذا صحيح. ولكنه يدل على قصر نظر هؤلاء الشباب وخصوصاً من اليسار. الشباب العادي البسيط لم ألمس مشكلة معهُ في التعاطي مع الثورة السورية، المشكلة في قطاعات اليسار والقوميين الذين يعتبرون أولاً أن النظام السوري هو نظام معادٍ لأميركا، ويعتقدون بأنّ الصراع الأساسي في العالم هو «مع أميركا» أو «ضد أميركا»، وبالتالي يصبح تصنيف النظام السوري على أنه «ضد أميركا» ومن ثم فأيّ حراك ضده هو أميركي بالضرورة. يعني هذا التحليل الميكانيكي للمسائل يقوم به الذهن دون فهم الواقع ورؤية المشكلات على الأرض. هذا هو، للأسف، ما دفع قطاعاً كبيراً من اليسار العربي، والعالمي أيضاً، لكي يقف مع النظام ضد الثورة السورية. طبعاً هذا يؤشر على شكل سطحي جدّاً لفهم الأمور. وهو شكل قروسطي لتحليل الأمور بناءً على الموقف الصوري الذي ينطلق من مبدأ القياس ومن منظور أن هناك عدواً رئيسياً هو الأساس وكل من يختلف معه هو ثوري وحقيقي ويجب أن ندافع عنه. لذلك وقف هؤلاء مع بن لادن لأنه ضد أميركا ودافعوا عن تنظيم القاعدة طويلاً بحجّة أنها ضد أميركا ودافعوا عن الإخوان المسلمين بحجّة أنهم يريدون تحرير فلسطين ويقفون ضد أميركا… لنكتشف بأنّ كل تحليلهم عن الإخوان المسلمين والقاعدة هو تحليل سخيف وخاطئ. لكن هذا العقل ما زال يمارس الآلية نفسها بالنسبة للنظام السوري. أيضاً انطلق من أنّ الإمبريالية الأميركيّة هي العدو الرئيسي، وبالتالي النظام السوري ضدها وبالتالي ما يجري في سوريا مؤامرة.

طبعاً لعب النظام على هذا الموضوع عن طريق الإعلام الذي مارسه بالتركيز في خطابه على الأسلمة ومجموعات إرهابيّة من تنظيم القاعدة منذ اللحظة الأولى، يعني استخدم نفس الخطاب الأمريكي الذي شيطن الإسلاميين من أجل أن يغزو العالم، النظام السوري كرر هذه العملية. وكررها أيضاً باختراع جبهة النصرة كما فعل الأميركيون في العراق، وبالتالي هو التلميذ النجيب للإمبريالية الأميركية في هذه المسائل. وأيضاً ساعد على ذلك المعارضة السورية التي يجب أن تتحمّل مسؤولية الدم كما النظام، وخصوصاً الإخوان المسلمون الذين كانوا حريصين منذ اللحظة الأولى أن الثورة السورية هي ثورة إسلاميّة وأنها مجرّد استمرار لما حدث في 1982 وبالتالي هم العنصر الأساسي فيها، رغم أن وجودهم على الأرض كان هامشياً جداً. وساعدهم في ذلك الإعلام الخليجي كالجزيرة والعربية والذي كان هدفه أيضاً تشويه الثورة السورية ووضعها في سياق يخرّبها ولا يساعدها على الانتصار. وكانت الأسلمة هي أفضل عنصر لتخريبها. على سبيل المثال، كانت السعودية تدعم النظام السوري لأشهر بعد الثورة، وربما لا زالت إلى الآن. بعض التحليلات تقول بأنّ السعودية تدفع اليوم مالياً لدعم النظام السوري مثلها كمثل الإمارات والكويت، أيضاً السعودية دعمت الأسلمة وأطلقت العرعور، والذي ظهرَ ليكرّس خطاب النظام السوري بأنّ الثورة إسلاميّة وليُخيف الأقليات وخصوصاً العلويين، لأنّ العرعور هو من الوهابيين الذين كانوا يُفتون بقتل الروافض بما في ذلك العلويين. بالتالي ساعدت السعودية النظام على أن ينجح خطابه لأنها كانت تريد أن تبقي الأقليات بعيدة عن الثورة كي تفشل الثورة. لأنّ إبعاد العلويين تحديداً عن الثورة هو نقطة ضعف أساسية تبقي النظام متماسكاً وقوياً كما لاحظنا. أيضاً الدول الأخرى كانت تدعم الأسلمة من أجل فرض نظام بديل، فقطر مثلاً كانت تعمل على دعم الإخوان المسلمين عن طريق المجلس الوطني كسلطة بديلة، بما يدعم مصالحها.

كلّ ذلك كان يعطي مبرراً لهذا اليسار بأن يقول أنّ هذه الثورة إسلاميّة وتدعمها السعودية وقطر وبالتالي يدافع عن النظام السوري. وهو لا يرى نتيجة شكليته، بالنظر إلى أن ما تقوم به السعودية أو قطر شكل من أشكال تخريب الثورة، يعني دون أن يحلل خطاب قطر والسعودية ومغزاه، وحتى الدول الغربية، لكي يفهم ماذا يجري بشكل حقيقي. هذه هي المشكلة التي عانيناها مع قطاع اليسار. للأسف، القطاع الذي يمثّل معظم كتل اليسار القديم الذي أعتقد أنه مات أصلاً، لأنه ما زال يعيش بأوهام مرحلة الحرب الباردة، وأصبح هرِماً إلى حد أنه لم يعد يستطيع التفكير.

9) أخيراً، هل تعتقد بإمكانيّة بقاء الأسد على رأس السلطة، مع الأخذ بعين الاعتبار أن موعد تجديد الإنتخابات الرئاسية بعد أقل من عام في سوريا؟

لا أعرف سبب الربط مع التجدد. الثورة مستمرة. لا أحد يقدّر أن تنتهي، يمكن أن تستمر سنوات. وبالتالي تجديد الاننخابات الرئاسية بأي شكل من الأشكال، رغم أن وضع سوريا لا يسمح بإجراء انتخابات أصلاً. ويمكن أن تنتهي الثورة بفترة ليست بعيدة. المشكلة تتعلّق بآليات الصراع وتطوره، الربط نتج عن الكلام عن حل سياسي عن طريق جنيف 2 وأن المطلوب هو استمرار بشار الأسد حتى 2014 ومن ثمّ ينتهي. أعتقد أنّ هذا الأمر غير عقلاني أصلاً، لأنّ الكل يعرف أنه لا إمكانيّة لوجود حل حقيقي في سوريا إلا بإنهاء سلطة بشار الأسد ومجموعته.

المسألة تتعلّق حالياً بالصراع على الأرض. بمعنى أن النظام بالأشهر الأخيرة استنفد قواه الأساسية لأنه كان يقاتل بالبنية الصلبة التي شكّلها لتكون ركيزة السلطة الأساسية، أي الفرقة الرابعة والحرس الجمهوري، ومن ثمّ زاد من دور المخابرات الجويّة كعنصر أساسي بعد أن بدأ يشك بالأجهزة الأمنية الأخرى، هذه القوة التي خاضت الصراع منذ اللحظة الأولى مع الشعب تكسرت على مر الزمن، خصوصاً بعد أن أصبح العمل المسلح هو العمل الأساسي في الصراع مع النظام، لهذا بدا في لحظة أنّ النظام يتهاوى. لكن المشكلة كانت بأنّ بنى الكتائب المسلحّة لم تكن على مستوى خوض صراع حاسم لإسقاط النظام، سواء لأنها لا تمتلك الخبرة أو لأنها بدأت تتبلور كمجموعات مختلفة متخالفة ولا تنسق فيما بينها، وبالتالي لها طابع مناطقي، أي كل مجموعة تدافع عن منطقتها فقط، وليس لديها أفق كيف تصل إلى إسقاط النظام، لذلك تعمل إقطاعيّة لذاتها في منطقة معينة. ولنقص السلاح أيضاً دور، خصوصاً أن الكلام عن إرسال سلاح من الخارج يبدو أنه كان وهميّاً. يعني لم يصل شيء مهم من الخارج، وبالتالي اعتمدت الكتائب المسلحة على ما تحصل عليه من النظام أو ما تحصل عليه من السوق، سوق السلاح، لكن عاد النظام فاستعاد قدراً من قواه اعتماداً على الدعم الذي قدمه حزب الله والدعم الذي قدمته إيران عبر إرسال قوى من الحرس الثوري وإرسال مجموعات من العراق من القوى الطائفية جداً المرتبطة بإيران، وقد حاول استعادة فواه عن طريق البدء بهجوم لإعادة السيطرة على بعض المناطق كما حدث في القصير والخالدية، وحاول في حمص لكن واضح أنّ ميزان القوى على الأرض عاد ليحقق توازناً مختلفاً، لأنّ الكتائب الثورية المسلحة عادت لتحقق تقدّماً على الأرض في منطقة الساحل. هذا الأمر هل سيؤدي إلى إمكانية ارتقاء العمل المسلح ليصبح هو القوة المتماسكة القادرة على وضع استراتيجيّة تغيير، أو أن هذا الصراع سيوصل القوى الدولية إلى أنه لا مجال للحل إلا بفرض حلّ على الأرض الآ،ن لأنّ استمرار الصراع سيؤثر سلباً على مصالحها. نحن الآن في هذه اللحظة.

أعتقد أنّ العديد من القوة الدولية تدفع باتجاه الوصول إلى حل، لأنها ترى أنّ الصراع يتفاقم ويمكن أن يخرج عن السيطرة، خصوصاً روسيا التي يبدو أنها راهنت، بعد أن حصلت على الدعم الأميريكي والغربي في فرض سيطرتها على سوريا، على أن تدعم النظام فيستعيد قواه وسيطرته ربما لفرض حل أقرب لأن ينتصر النظام فيه. لكن ربما أقنعها الصراع على الأرض الآن أنّ هذا غير ممكن، وأن ميزان القوة أصبح واضحاً بأنّ السلطة غير قادرة على تحقيق انتصارات مهمّة، ومن ثمّ لا إمكانيّة إلّا فرض حل لا يصب في مصلحة النظام ويقوم على إبعاد بشار الأسد وإنهاء سلطته. هذا يجري الآن في هذه الأوقات كما يبدو.

لا أعرف تماماً إلى أين سيسير المسار لكن هناك ميل لفرض حل دولي، وفي نفس الوقت إذا لم يفرض حل دولي سيستمر الصراع. وهنا يجب أن نركز على كيف يمكن أن يصبح هناك عمل مسلّح حقيقي، كتائب مسلحة حقيقية، أن ينتهي الميل إلى أن يصبح كل شخص قادراً على فرض سلطته الذاتية على منطقة محدودة، أن يصبح هناك قوة مسلحة تعرف ماذا تريد، وأن تنتهي كل هذه القوة التخريبية التي تلعب دوراً تخريبياً وإعاقياً، من دولة العراق وجبهة النصرة إلى العصابات التي دخلت باسم الثورة وشاركت، كذلك الزعران الذين يسعون نحو مصالحهم عبر النهب والسرقة وغيرها. كل هذا يجب أن ينتهي كي تتطور الثورة. وهنا يجب أن تلعب السياسة دوراً عبر إعادة بناء الفعل السياسي الداخلي في سوريا، بعيداً عن معارضة الخارج التي لم تقدم ولن تستطيع أن تقدم شيئاً.