بقيت جثة واحدة ممدّدة هناك، لم يستطع أحد الوصول إليها بسبب حظر التجول الذي فرضته «الدولة الإسلامية في العراق والشام» على سيارات الإسعاف في مكان تفجير السيارة المفخخة أثناء معركتهم مع «لواء أحفاد الرسول» لفرض السيطرة على مدينة الرقة.

جثة واحدة، إن لم تكن لأخي كانت لأخ آخر، وأمي تنتظر خبراً عن ابنها الصغير المفقود، الذي ذهب لتصوير المعركة ولم يعد إلى بيتها… قرّرت حينها الوقوف على شرفة المنزل والبكاء، ليرى الله حزنها وينقذه. أمي تبذل الدموع لله، وتدعو لابنها بصوت عال: «يارب»، ليسمعها الله جيداً… دون وصول خبر واحد عن الجثة المرمية هناك.

وجد طاقم الإسعاف جثة محترقة لكاميرته، ما زاد اليقين أن الجثة المبتور الأطراف لمحمد نور… جثة واحدة لم نعرفها بعد، تكفي لبكائها وتصديق رحيله. لكن القصة تغيرت عند الفجر، بعد سماح عناصر الدولة بسحب الجثة التي لم تكن له أيضاً.

حان وقت برادات المشافي، وسحب المستطيلات المعدنية الباردة التي ينتظر فيها الأموات من يعرفهم… أيضاً لم نجده ممدّداً هناك! ولازالت أمي تنظر إلى الله، وتتمنى أن ينظر هو إليها أيضاً.

على أرض «دولة الخلافة» لا يموت الناس دفعة واحدة، ولا يُدفنون في قبر واحد، ولا تخرج رائحة جثههم من براد واحد…

بعد البراد، سمعنا أن بعض الأشلاء مجموعة في مكان التفجير، فذهبت خالتي لأن أمي لم تستطع البحث بين الأشلاء عن أصابع قد تعرفها أو جثة ترتدي قميصه «الكاريه». لكنها لم تجد ما يدلّها إليه.

رائحة الدم علقت على ملابسها، وبين أصابعها آثار الدم الذي ينز من الأشلاء… التنفس صعب في «دولة الخلافة»، وقص الأظافر واجب بعد كل سيارة مفخخة.

لم نجد غير جثة الكاميرا! هل يجوز دفن الآلات في بطن تراب دولة خلافتك يا الله؟ دم المسلم على المسلم حلال فوق تراب خلافتك، والطريق إليك، سبحانك، قريبة وسريعة بفضل السيارات المفخخة.

خلال يوم واحد وصلت عشرات الأخبار المتناقضة، أنه تحول إلى أشلاء، أو اعتقلته «الدولة» لتواجده في مكان أعداء الله، «أحفاد الرسول»، التي تحاربهم «الدولة»، وفجّرت سيارة مفخّخة في مقرهم عند محطة القطار في الرقة.

النزاع بين الأحفاد والدولة بدأ قبل أسابيع، ليحاول كل طرف منهما فرض سيطرته على المدينة وخيراتها الزراعية والتجارية والنفطية، دون تدخل المجتمع في هذا الصراع المسلح إلا من خلال مظاهراتٍ تطالب بإيقافه أو إخراجه عن رقعة مدينتهم تعرضَت لإطلاق رصاص من «الدولة»؛ ومظاهرة أخرى يوم التفجير تطالب «الدولة» بالسماح لطاقم الإسعاف بإخراج جثث القتلى، لكنها ردت عليهم بالرصاص وقذائف الآربي جي.

لم تخرج أية مظاهرة في المدينة منذ المظاهرة تلك إلى اليوم، لفرط الخوف من الخطف والقتل الذي أرهبت بهما «الدولة الإسلامية في العراق والشام» المجتمع في الرقة، ودفعت بعض النشطاء فيها لتشبيه مدينتهم بمثلث برمودا، بعد اختفاء الأب باولو ومجموعة من الصحفيين الأجانب فيها، إضافة لخطف عدد كبير من أبناء المدينة المدنيين والعسكريين أيضاً.

«الدولة» تسيطر على كل شيء، وعلّقت علمها الأسود على سارية المدينة، وأعادت غطاء الخوف على قلوب الناس، فالبعض عاد للخوف من أحاديث الهاتف وآذان الجيران.

محمد نور الذي فقدناه بعد التفجير قبل أيام، اعتقلته «الدولة» وسط يوليو الماضي بسبب تواجده أمام مقرهم مع كاميرته أثناء احتجاج سيدة على اعتقال زوجها، فاحتجزوه في المقر، وأخبرونا أن السبب هو عدم معرفته القيام بالصلاة! خرج بعد أيام من مهاجعهم مع مشاهدات تشبه مشاهدات من دخلوا إلى سجون المخابرات السورية، من ناحية التعذيب وطريقة التعامل مع السجانين.

ومحمد نور مطر، هو ناشط إعلامي من مدينة الرقة، من مواليد 1993، يعمل مع «مؤسسة الشارع للإعلام والتنمية»، له الفيلم القصير «سقط الكابوس هنا» الذي عُرض مؤخراً على تلفزيون فرانس 24، يحكي قصة سقوط صاروخ سكود على الرقة ورحلة البحث عن الضحايا إثرها. وله فيلم عن تحرير مدينة الرقة قيد الإنجاز. كما عمل على مجموعة تقارير صحفية.

اليوم تسمع عبارات الندم في الرقة، يرددها حتى النشطاء بسبب نتائج الثورة في مدينة تخلّصت من سيطرة نظام الأسد قبل ستة أشهر تقريباً، وتخلّى عنها «الائتلاف الوطني السوري» وكل الجهات التي كان الناس في الرقة يعتقدون أنها ستساعدهم في تسيير شؤون حياتهم. وتجرحك عبارات تلّمح بالعتب حتى من عائلتك التي كانت تردد: «كلّو في سبيل الحرية».

اليوم استيقظنا على صوت أمي المحمّل بفزع برادات الموتى، بعد نبأ وصول جثث جديدة لمستشفى الرقة الوطني، ذهبنا إلى هناك في رحلة صباحية يومية بين البرادات والأنباء الكاذبة المتناقضة…