ليس هناك ما هو مفاجئ في أحدث مجازر النظام السوري في غوطة دمشق. للمجزرة شقيقات كثيرات أكبر سناً في درعا وكرم الزيتون والحولة والتريمسة وداريا وجديدة عرطوز وجديدة الفضل… هذا غير قصف يومي بالطيران لمناطق متعددة بالبلد توقِع كل يوم عشرات الشهداء، وغير قصف بصواريخ سكود لمناطق أخرى في حلب والرقة ودير الزور وغيرها، وغير العديد من السوابق باستخدام الغازات السامة في الغوطة الشرقية نفسها (جوبر وحرستا ودوما)، وفي حمص وخان العسل، وغير مذبحة مستمرة في ما لا يحصى من المقرات الأمنية، راح ضحيتها مئات الشهداء، وتتوفر عنه شهادات حية تزلزل النفوس، وغير اغتصاب ما لا يحصى أيضاً من أطفال ونساء ورجال في تلك الأوكار الإجرامية نفسها.
هذا كيلا نستذكر أيضاً مذابح كبرى من جيل سبق في حلب وتدمر وحماه، ذهب ضحيتها عشرات الألوف. ومنها السجن الذي كان مذبحة موصولة طوال عشرين عاماً، سجن تدمر الرهيب.
لا جديد في المذبحة الجديدة، ولا ينبغي أن تفاجئ أحداً. لقد كانت المذبحة أداة حكم دائمة بيد النظام البعثي منذ أيامه الأولى. وجذورها تمتد في نزع وطنية ونزع إنسانية محكوميه عبر الاستيلاء على معنى الوطنية، وفي جيل سبق على التقدمية، واليوم على «العلمانية»، بما يمكّن النظام من خفض قيمة حياة الخَوَنة والرَجعيّين والعراعير وتسهيل إبادتهم. ليس هناك شيء جديد في هذا النَّسَق الذي يستمد زخمه من منابع انفعالية عميقة الغور، تُحيل إلى علاقات الجماعات الدينية والمذهبية، وهوامات السيادة والتبعية بينها، مما هو غير مناقَش وغير مُضاء عليه من قبل مثقفين سوريين يتراوحون بين الامتثال والجبن والتواطؤ. ليس هناك جديد في مذبحة ترسم بالنار والغازات السامة أسوار حماية نظام طغيان يحرس امتيازات مادية وسياسية ورمزية، غير عقلانية وغير شرعية وغير وطنية. حماية المليارات تقتضي، بل توجب، قتل أولئك البؤساء المتخلّفين المتعصّبين، الذين ينازعونا ملكنا، نحن السادة المتمدّنين.
ولا يستحق التشكك بأن النظام هو مرتكب المجزرة أي نقاش إلا من زاوية دلالته على أن للمجرم العام شركاء معنويين، فاشيين صغاراً، ممن يعبدون البوط العسكري وينصبون له التماثيل، أو شركائهم الإيديولوجيين الذين لا يكفّون عن إضفاء صفة نسبية على جرائم النظام بالإحالة إلى جرائم أخرى. هذا نهج شائع في سورية، والغرض منه إضاعة مبدأ المسؤولية (كلنا مسؤولون) وتقويض مبدأ الحقيقة (لكلٍ حقيقتُه).
لكن رغم التطورات المعقدة للأوضاع السورية، وظهور مجموعات جهادية غيير وطنية في بعض مناطق البلد، ومظاهر «فلتة حكم» في العديد منها، فإن ذلك كله لا يغيّر من حقيقة أن المنبع العام للجريمة والخراب الوطني هو النظام الأسدي. ينبغي أولاً إخراج السكين الأسدية من الجسد السوري كي يمكن شفاء الوطن المريض. كلما تأخر الوقت تعذر الشفاء، وربما مات البلد الذي ليس للسوريين غيره.
منذ عامين ونصف انطرح على السوريين تحدٍّ تاريخي كبير، تغيير نظامهم السياسي، إن كان لهم أن يحافظوا على وحدتهم، ويعالجوا مشكلاتهم الوطنية والاجتماعية الكبيرة. وما نراه اليوم من مظاهر انحلال وطني متولد بصورة مباشرة عن تعثر الاستجابة الفاعلة على هذا التحدي الكبير. فإذا فشل السوريون في مواجهة هذا التحدي التاريخي كان مرجّحاً أن نشهد مظاهر انحلال اجتماعي ووطني وأخلاقي أكبر بما لا يقاس، ومنها اللجوء خارج البلد، ومنها التشدد الديني المفرط، ومنها الإرهاب، ومنها الجريمة، ومنها قبل كل شيء «حكم الشبيحة»، ومنها بالتأكيد الاحتلال الأجنبي، الإيراني تحديداً. بشار اليوم مجرد وكيل محلي لسيطرة إيرانية، ليس حزب الله اللبناني غير وكيل موثوق لها.
من شأن الاستجابة المثمرة لتحدي تغيير النظام، بالمقابل، أن تحدّ من المظاهر الانحلالية، وأن تحرض على تفاعلات معاكسة، متجهة أكثر نحو البناء والتواصل والتقارب بين السوريين. نقطة التحول في المسار السوري هي تغيير النظام، حرباً أو تفاوضاً. ليس هناك نقطة تحول أخرى.
هذا النظام مذبحة مستمرة، فلا نهاية للمذابح في سورية غير نهايته.