الغبار… لا شيء هنا في القاهرة سوى الغبار. يُبحر البؤس بالمدينة أو تراكم الريف هذا صوب الماضي، لتشبه المدينة في فيض أوساخها الصورة التي لطالما رسمها الروائي الشهير تشارلز ديكنز عن لندن، عجرفة النُخب ذاتها على أي حال، ولكن تعوزها نفحة النُبل التي طبعت النُخب الإنكليزية في تلك الأزمان… لا أحد يُبدي النُبل هذه الأيام في القاهرة، ثمّة الصفاقة فحسب، ونُخب تدّعي حداثةً مشوهة، وتفوح منها رائحة نتنة لا تقل سوءاً عن مهمّشيها، وكأنّ الفاشية وحدها لا تكفي. تبدو النُخب بسلوكها أقرب إلى الرعاع، يتمنى المرء حقاً أن يأتي ثقبٌ أسودٌ ويبتلع الجميع هنا… الكبار والصغار، النساء والرجال، العسكر، الإسلاميين، المدنيين، فاشستيي «تمرّد»… الجميع. يبدو أن لا شيء على هذه الأرض يستحق الحياة. لعلّها النهاية، لبؤسٍ طويلٍ أو عذابٍ شاق لا حلّ له إلا الموت، ولو على قارعة الطريق وأنت تنتابك هلوساتٌ من قبيل أنّ الوضع قد يتغير… النُخب البائسة، إنّها السبب الذي لا يكفّ عن جعل الحياة محكومةً بالموت، فرصةً بعد فرصة، تتنقل الناس وحيواتها من إخفاقٍ إلى إخفاق، ويتسرب بين موتَين قذرَين الأمل الذي لا تنفك حياة المهمّشين تحفل به كي تمضي. لكن لا جدوى، عبثاً تتخبط هذه الكائنات الحُبلى بالبؤس دون أن تلوي على شيء…
نصف قرنٍ قد مضى على ما تدعوه نُخبنا «استقلالاً»… ماذا صنعنا؟ لا شيء البتة. الرصاص الحي لا يزال يُطلَق علناً وفي وضح النهار على الناس. لا حريّات في هذي البلاد. تدحرجٌ بائسٌ فحسب من قمعٍ إلى قمع، ومن إقصاءٍ إلى إقصاء، لا تنمية ولا قضاء يُعوَّل عليه، ورجالات دولةٍ لا تمت للدولة أو للنهضة بصلة، يشبهون باعة الدكاكين في مقارباتهم الفجّة للسياسة. تخلو هذه البلاد من الرأسماليين الكبار، ومن الديمقراطيين الكبار. فيها كمٌ فائضٌ من المثقفين فحسب. تقريع الغرب يبدو واجب الحضور هنا أيضاً كي يكتمل المشهد. ثم يأتي هذا النتاج العظيم… تخوين الكل للكل، وتكفير الكل للكل، نغدو بمعنىً من المعاني التي تفرزها معرفتنا… كلنا خونة، كلنا عملاء، كلنا كفرة…
على أنّ عجزنا الفاضح عن بناء الدولة التي لا تُطلق الرصاص الحي على الناس لا يعني أنّها غير موجودة. كذلك عجز نُخبنا البائس عن بناء معرفةٍ يقع الفرد في رأسها، حريته، كرامته، ملكيته، أطفاله، لا يعني أنّها غير موجودةٍ أيضاً. فلنتوقف إذن عن نعي المعرفة الإنسانية، ولننعى المعرفة فينا… إنّا قد فشلنا، والبشرية لن تقف بأي حال عندنا، عند ترّهاتنا، أو سخطنا الفصامي. سوف تتابع سيرها إلى فضاءاتٍ أكثر حريةً ونماءً وتحملاً. لنا أن ننصاع لهذا السيل المعرفي الجارف، أو لنا أن نحترق وحدنا دون أن يكترث لنا البشر الماضون من حولنا.
حتى الساعة لا يزال الجيش المصري متماسكاً وهو يطلق الرصاص على الناس، ليس إلى وقتٍ طويل، تلوح هناك في الأفق بوادر الحقيقة… إنّها لم تكن دولةً أصلاً، ولكنّها كانت جيشاً له دولة. ما يثير الشفقة حقاً أنّ ذلك التوصيف الحذق الذي ما انفكت نُخبنا تنعت به دولة إسرائيل لم يكن يوماً أكثر التصاقاً بها منه بنا. وكما الجيوش دائماً، يبدو التعامل غليظاً، سافراً، ويخلو من تلك النظرة البعيدة إلى الممكنات التي تنغلق من جراء القمع، أو إلى تلك التي تنفتح من ورائه… أمرٌ واحدٌ أكيد… مصر في طريقها كي تكرّس ذاتها دولةً فاشلة. وكما الفشلة دائماً، سوف تلقي خاصةُ المصريين فشلها على الغرب، ومن ثمّ على الناس. في الأثناء التي ينهض فيها المارد القديم من القمقم… الجوع، جوع الناس الذي يخلّفه فشل النُخب، الجوع وناره القادمة كي تحرق الجميع…
ماذا بعد «رابعة»؟ يتراقص السؤال على شفا الهاوية السحيقة التي نتقدم صوبها بخُطىً وئيدة، واثقة، ومعبّدةٍ بالمعرفة القديمة ورفضها المتغطرس للتحول. الناس، هذي المساكين، من ينتشلها من الموت القادم؟ من ينتشلها من الخراب؟ فظاعةٌ مقيتة إذ تُفلس المعرفة وهي تقول للناس: لا أحد… مؤسفٌ حقاً ونحن نترنح هنا، أن نكتفي بالقول أنْ لا أحد.