منذ تحررها من قوات النظام السوري في 4/3/2013، باتت مدينة الرقة محط أنظار السوريين، بوصفها عاصمة المحافظة الأولى التي تعيش مخاض ما بعد التحرير.
كيف يُدير الناس أمورهم هناك؟ كيف يعيشون؟ ما هو واقع الكتائب العسكرية على الأرض؟ من هي؟ ما الذي يجمعها أو يفرقها؟ وما هي علاقتها بالمدنيين؟ أي نموذج تقدمه الرقة اليوم؟ فضّل بعض من تحدثت معهم من أجل هذا المقال أن لا تذكر أسماؤهم، فقمت بالإشارة لهم بالأحرف الأولى فقط.
الاختفاء الغامض للأب باولو!
وصلنا إلى الرقة في مساء يوم 29 تموز. كانت المدينة خاوية تقريباً، الناس بالكاد أنهَوا إفطارهم الرمضاني، ولم يبدؤوا بالخروج بعد يوم من الصيام الشاق. كنا محظوظين لأن مقهى «آبل» الأشهر في المدينة كان بدأ يفتح أبوابه. يعتبر المقهى الوجهة الأكثر شعبية لشباب المدينة. يقع قرب حديقة الرشيد التي تتوسط المدينة، ومقابله تقع كنيسة المدينة القديمة. الثوار المدنيون يتخذون من الناصية المجاورة للكنسية منطلقاً لاعتصاماتهم ومظاهراتهم.
بعد أقل من ساعة على جلوسنا في المقهى، بدأ تداول أنباء «اختفاء» الأب باولو. آخر مرة شوهد فيها في المدينة كانت حوالي الساعة الثالثة ظهراً، والأمر الأكثر إثارة للريبة أنه تخلف دون اعتذار عن حضور دعوة على الإفطار عند إحدى العائلات. معروف عن الأب اليسوعي أنه كان يصوم رمضان، وهو نهج اتبعه لسنوات طويلة في إقامته في سوريا، في تأكيد على فلسفته في التقارب بين المسلمين والمسيحيين.
في اليوم السابق، 28 تموز، شارك الأب باولو في مظاهرة نظمتها تجمعات شبابية مدنية على رأسها اتحاد الطلبة الأحرار. ألقى باولو كلمة قصيرة، حيّى فيها المجتمعين وأعرب عن سعادته الغامرة لوجوده في الرقة التي وصفها بـ«العاصمة الأولى لسوريا الحرة».
سريعاً بدأت الهمسات بالتحول إلى أسئلة علنية في المقهى: «أين الأب باولو؟». الرقة مدينة، لكنها في واقع الحال أشبه بقرية كبيرة لا يُكتم فيها سر. جاء أحدهم مهرولاً ينقل خبراً من «س» وهو شاب عرفه أغلب الحاضرين حولنا في المقهى، أخبره الأب باولو بأنه قد يغيب لثلاثة أيام متتالية، وأنه إن فعل ذلك فلا يجب أن يقلق عليه أحد أو يشيع عن حدوث مكروه له. تعززت رواية «س» بتواتر القصص عن رغبة أفصح بها باولو لكثيرين ممن التقاهم حول نيته التواصل مع «الدولة الإسلامية في العراق والشام» (داعش). الرغبة التي حاول بعضهم ثنيه عنها دون طائل على ما يبدو. عبد الله، وهو من أنشط الوجوه الثورية الشابة في المدينة، أخبرني أنه التقاه في تركيا قبل قدومه إلى الرقة بأيام، وحاول إقناعه بتغيير وجهته دون أن يفلح. حاول آخرون فعل ذلك دون جدوى أيضاً. واقع الأمر أن الأب باولو كان قد ذهب في اليوم السابق لاختفائه إلى مقرّ داعش، وخرج بمزاج جيد وانطباع إيجابي، على ما نقل عنه صحبه، وقد قال أمامهم بأنه سيعاود الكرة لأنه يهدف إلى لقاء أبو بكر البغدادي نفسه. عموماً فالروايات كلها أجمعت أن الأب باولو كان ينوي الذهاب مجدداً في اليوم التالي إلى مقر داعش. باولو كان قد ذكر أمام بعض محدثيه عن نيته التوسط لوقف الصراع الدائر شمال البلاد بين بعض الكتائب الإسلامية وعلى رأسها داعش وبين مقاتلين أكراد متهمين بالتواطؤ مع قوات النظام السوري، كما أنه أراد أن يتبين مصير مخطوفين لدى الجماعة الجهادية، أبرزهم فراس الحاج صالح وإبراهيم الغازي وصحفيين فرنسيين.
النبأ الذي شاع حول غياب باولو الطوعي لمدة ثلاثة أيام هدأ من روع الكثيرين، إلا أن البعض ظل مشككاً بهذه الرواية، أحدهم، وهو من شباب المركز الإعلامي في المدينة، طلب منا أن نتحرك معه في سيارته لغرض قال أنه هام جداً. في الطريق عرفنا أننا متجهون لمقابلة «أبو عيسى» وهو قائد الفرقة 11. الفرقة تشكلت في الأيام السابقة لوصولنا إلى المدينة، لتمثل أكبر فصيل عسكري محلي منضوٍ تحت لواء الجيش الحرٍ.
المشهد العسكري: حلفاء اليوم، خصوم الغد؟
ظهر بيان تأسيس الفرقة 11 يوم 17 تموز المنصرم. زعم البيان أن الفرقة تمثل نسبة 80% من القوى العسكرية المقاتلة في المدينة وما حولها. ونص البند الثاني في البيان على «حماية المواطنين وعدم السماح لأي جهة كانت باعتقال أي مواطن إلا بموافقة الهيئة الشرعية والمكتب الأمني للفرقة» بيان تشكيل الفرقة 11 العاملة في الرقة. 17 /7/2013.، في إشارة واضحة إلى عمليات الخطف التي تزايدت في المدينة في الفترة الأخيرة، والتي نُسبت إلى داعش. أثنى عموم الرقاويين على هذا التشكيل الجديد وتفاءلوا به.
يعتقد الأهالي أن هذا الوجود الموحد، لكتائب يغلب عليها الطابع المحلي وتعمل تحت شعار الجيش الحر، من شأنه خلق توازن عسكري في المدينة المحررة، في مقابل حضور قوي لكتائب تنهل من الفكر السلفي الجهادي، وأبرزها «حركة أحرار الشام» (حاشا) والتي تعد من أكبر وأقوى الحركات الإسلامية المقاتلة في سوريا، وهي جزء من «الجبهة الإسلامية السورية»، وإن كانت الحركة معروفة في كثير من المناطق السورية أكثر من الجبهة نفسها التي تنضوي تحتها. وهناك بالطبع داعش، التنظيم الجهادي المرتبط بالقاعدة، والذي بدأ يتمدد في عدد من المناطق المحررة وبخاصة في الشمال السوري. وإلى جانب هذه المجموعات المقاتلة، هناك وجود لمجموعات أخرى أصغر وأقل نفوذاً، يستثنى منها ربما «لواء أحفاد الرسول»، الذي يعمل تحت مظلة الجيش الحر (وإن باستقلالية واضحة) وهو مجموعة لها أيضاً حضورها الوزان في الرقة كما في مناطق سورية مختلفة.
إن فهم خريطة القوى العسكرية اليوم في الرقة، كنموذج لمدينة خرجت عن سيطرة نظام الأسد، هو أمر بالغ الدلالة لفهم تفاهمات وتناقضات قد تكون بالغة الأهمية في التأثير على مستقبل الكيان السوري في المرحلة المقبلة. وإن كانت العلاقات بين المجموعات نفسها تختلف بين منطقة وأخرى، إلا إن ممارسات هذه المجموعات على الأرض، بعيداً عن جبهات القتال، تحمل إشارات مهمة عن نهجها وتطلعاتها وأجنداتها الخفية أو المُعلنة.
تطلع الرقاويون إلى تشكيل الفرقة 11، كقوة موازية لقوى أخرى يعتبرونها إما أكثر تشدداً أو ذات غالبية من العناصر الغير محلية. هذا مدخل لفهم حساسيات مختلفة عند أهل المناطق المحررة تجاه الوجود العسكري في مناطقهم. بالعموم تمنح غلبة المكوّن المحلي (أبناء المنطقة) على التشكيل العسكري الموجود في المنطقة ذاتها، حاضناً شعبياً أفضل، ولكنها في المقابل تُحمّل هذا التشكيل أعباء كثيرة، عبر توقعات عالية باستقامة السلوك والنزاهة والكفاءة العسكرية، مضافاً إليها السطوة والقدرة على حماية المنطقة. وهو الأمر الذي لا تنجح بعض الفرق العسكرية المحلية السريعة التشكل والقليلة الموارد في تحقيقه في كثير من الأحيان، فتفسح المجال أمام قوى أخرى أكبر وأفضل تجهيزاً لتدخل وتدير الأمور.
يميز حركة أحرار الشام، الموجودة بقوة في الرقة اليوم، حضور كبير بين صفوفها لمقاتلين من إدلب وريفها ومناطق سورية أخرى. هذا يخلق بعض الحساسيات أحياناً، لكن الحساسيات تكبر مع وجود مقاتلين غير سوريين، «مهاجرين»، وهؤلاء يشكلون عصباً أساسياً في صفوف داعش. لا يعني هذا عدم وجود اختلاط في جميع الفصائل العسكرية، فهناك رقاويون في صفوف أحرار الشام، وكذلك في صفوف داعش، وقبل ذلك في صفوف «جبهة النصرة». لكن يبقى أن غلبة التكوين المحلي على فصيل ما قد يحّسن بشكل كبير علاقة هذه الفصيل بمحيطه. يتحدث الناشطون في الرقة أن صعوبة التواصل مع داعش، لا تعود فقط لانغلاق التنظيم وسرية بنيته وهرميته، وإنما لأن جلّ أمرائه هم من المهاجرين، وهذا ما شكل بالنسبة لهم اختلافاً حتى عن جبهة النصرة، التي كانوا يتواصلون مع أمراء سوريين فيها، بعضهم كان من أبناء المنطقة، أي أشخاص خبروهم وعاشروهم, مما كان يجعل إنجاز تفاهمات أمر أسهل.
غادرتْ جبهة النصرة الرقة، لم يبق منها اليوم إلا شعارات موزّعة بكثافة على جدران المدينة. خلاف الجبهة مع داعش، وما تلاه من تخلي مقاتلين عن الجبهة للانضمام إلى داعش، عجّل في رحيل الجبهة عن الرقة لتستقر في مدينة الطبقة، القريبة والمحررة أيضاً، فيما يبدو أنه تقاسم للقوى بين فصيلين يميل البعض إلى عدم رؤية تمايزات كبيرة بينهما بوصفهما ذراعين متشددين يتصلان بجسد القاعدة، فيما يرى آخرون أن الصدام بينهما قادم، بسبب وجود خلاف في المنهج والرؤية وفي شرعية التمثيل أيضاً. يروي الناس في الرقة قصة أحد قادة الجبهة الرقاويين، «أبو سعد»، الذي انضم لداعش بعد إشهار الخلاف بين الفصيلين إثر رفض أمير النصرة أبو محمد الجولاني مبايعة أبو بكر البغدادي. بعد شهور قليلة لم يلبث أبو سعد أن انشق عن داعش برفقة مجموعة من المجاهدين ليعود وينضم إلى جبهة النصرة في مدينة الطبقة. هناك قصص عديدة مماثلة سمعناها في ريف إدلب وحلب، عن عبور معاكس للمجاهدين من داعش نحو «النصرة»، يعزو البعض ذلك إلى أصالة المكون السوري في النصرة مقارنة بداعش، فيما يعزوه آخرون إلى نفور بعض المجاهدين من ممارسات فظة وبالغة التشدد عند داعش. لا يمنحنا هذا القدرة على مقارنة دقيقة في تعداد وقوة الفصيلين، لكنه يشي بحركة عبور مستمرة بينهما.
أما حركة أحرار الشام الإسلامية (حاشا) فينقسم الرقاويون حيالها، فمنهم من يرى أنها تترقب صداماً حتمياً بين كتائب الجيش الحر من جهة و«دولة العراق والشام» من جهة أخرى، سيجعل الطرفين أضعف، مما يزيد من قوة الحركة ويساعدها على مد نفوذها كأقوى التشكيلات العسكرية في المحافظة. فيما يرى آخرون أن الحركة هي واحدة من قلة من التشكيلات العسكرية التي تمتلك أذرعاً مؤسساتية منظمة وتهتم بإدراة شؤون الحياة إلى جانب جهدها العسكري. ليس سراً أن الحركة وضعت يدها على أغلب الأموال والمرافق العامة بعد تحرير الرقة مباشرة. من ذلك سيطرتها على البنك المركزي، والذي يشاع أنه احتوى في حينه على مبلغ يتراوح بين 4 إلى 6 مليار ليرة سورية. يُعرف عن الحركة أنها تسارع للسيطرة على المرافق العامة كلما أتيح لها ذلك في المناطق المحررة. يتحدث قياداتها عن استخدام المال العام لتسيير أمور هذه المناطق. يزعم أحد قيادات حركة أحرار الشام المدنيين في الرقة، وهو الدكتور «ع»، أن الحركة تضطلع بمسؤوليات جسيمة في تسيير شؤون المدينة، وفي تأمين المواد الغذائية الأساسية. لم يُنكر وضع الحركة يدها أموال البنك المركزي، إلا أنه أسهب في الحديث عن مسؤوليات الحركة في إيجاد بدائل عن تعطّل بعض مؤسسات الدولة. تبدو الحركة اليوم في الرقة كقوة ناعمة وطموحة، تسعى للتصرف كدولة بديلة، وتضع اقتراحات تشمل كافة مناحي الحياة، من المناهج التعليمية حتى إدارة مرافق الدولة. لهم إسهامهم في قطاع الصحة، وفي الجهود الإغاثية أيضاً، ويديرون بشكل معقول معبر تل أبيض الحدودي. لم يُخفِ الدكتور ع ابتسامته الفخورة وهو يحدثني أن الحركة افتتحت مؤخراً مكتباً للموارد البشرية، وهو مشرع الأبواب أمام جميع الخبرات حتى من خارج الحركة.
قد يكون أمراً بالغ الدلالة أن نعلم أن مقرات حركة أحرار الشام الرئيسية في الرقة تقع في البنك المركزي ومقر القضاء العسكري، فيما تتخذ داعش من مبنى المحافظة مقراً لها! يبدو هذا انعكاساً رمزياً لواقع الطموح والممارسة على الأرض اليوم.
يلف الغموض علاقة حركة أحرار الشام بداعش. للحركة بيان معروف، صدر في 4 آيار 2013، ينتقد إعلان أبو بكر البغدادي عن إقامة الدولة الإسلامية في العراق والشام، كما ينتقد مبايعة أبو محمد الجولاني أمير جبهة النصرة لأيمن الظواهري، ويخلص البيان إلى التأكيد على هدف الحركة وهو «قيام دولة إسلامية راشدة تقيم العدل والقسط بين رعاياها» بيان حركة أحرار الشام 4/5/2013 http://www.ahraralsham.com/?p=1324.. لكن حتى اللحظة لم تُسجل أية احتكاكات بين الحركة والدولة الإسلامية في الرقة، رغم شيوع «تكفير» هذه الأخيرة لحركة أحرار الشام. هناك مراقبون يتوقعون حدوث مثل هذا الصدام أولاً في ريف إدلب، فيما يبدو أن صراع النفوذ هناك يحتدم بصورة أسرع بين التنظيمين.
الدكتور ع تحفظ عندما سألته عن مصادر التمويل الخارجية للحركة، وإن كان ليس سراً أن التيار السلفي الكويتي، المرتبط بمنظرين معروفين أبرزهم حكيم المطيري، هو من أبرز مموليها، برفقة شبكات تمويل متعاطفة مع الفكر السلفي الجهادي في الخليج (قطر على وجه الخصوص) تتويج الجبهة الإسلامية السورية (فورين بوليسي): آرون زيلين وتشارلز ليستر http://mideast.foreignpolicy.com/posts/2013/06/24/the_crowning_of_the_syrian_islamic_front. إضافة إلى أن الحركة، وبعد ترسيخ دورها المؤسساتي والإغاثي في عدد من المناطق المحررة، تلقت دعماً علنياً من منظمات إغاثية إقليمية كبيرة مثل «مؤسسة الإغاثة الإنسانية التركية»، و«مؤسسة قطر الخيرية».
عموماً، فإن آمال الرقاويين التي عُقدت على تشكيل الفرقة 11 اصطدمت بواقع صعب على الأرض، فبعد اختفاء الأب باولو، الذي تشير كل أصابع الاتهام إلى اختطافه من قبل داعش، لم تستطع الفرقة 11 التصرف إزاء هذا الأمر. تم بعد أيام اختطاف أحد قادة «أمناء الرقة»، وهو من الفصائل الأساسية المنضوية في الفرقة 11. ومن جديد كانت الأدلة كلها تشير إلى مسؤولية داعش، دون أن يتبع تهديد الفرقة للإفراج عن القيادي أي فعل يذكر.
على أن أول بوادر الاصطدام بين مقاتلين من الجيش الحر ونظراء لهم في داعش جاء سريعاً، ومع نهاية شهر رمضان حيث تطور احتكاك بين عناصر من لواء أحفاد الرسول وعناصر من داعش، إلى اشتباك بالأسلحة الخفيفة والمتوسطة داخل أحياء سكنية، استمرت الاشتباكات بصورة متقطعة في أيام عيد الفطر، وانتهى الأمر يوم 14 آب حين قامت داعش بتفجير سيارة مفخخة أمام مقر أحفاد الرسول الواقع في محطة القطارات القديمة في المدينة، الأمر الذي أدى لأضرار هائلة في المقر، إضافة إلى مقتل بعض المدنيين. تلا ذلك انسحاب لـ«الأحفاد» من الرقة. كان مقاتلو الطرفين يتبادلون الشتائم عبر «القبضات» المنتشرة حتى بين المدنيين في المدينة، وهي كلها على موجة واحدة، نعت مقاتلو أحفاد الرسول خصومهم بـ«عملاء النظام وأزلام المخابرات»، فيما رد عليهم هؤلاء بوصفهم «عملاء أمريكا والغرب». تفضح هذه النعوت كيف ينظر جمهور كل مجموعة إلى الطرف الآخر. والأهم ربما أنها تضيء على صراعات قد تكون وشيكة. هناك ريبة يحملها الطرفان، قد تتلاشى أحياناً في الخطوط الأمامية للجبهة، لكنها تتعاظم بعيداً عنها. الشبهات حول قيام المخابرات السورية، التي تملك باعاً في تسيير وتسهيل حركة مجموعات مقاتلة متشددة في المنطقة (وبخاصة إبان الغزو الأميركي للعراق)، بالتعاون مع أجهزة المخابرات الإيرانية والعراقية باختراق المجموعات الجهادية المرتبطة بالقاعدة، هي شبهات شائعة بين المدنيين ومقاتلي فصائل الجيش الحر. فيما يرى قسم من المقاتلين الجهاديين وجمهور يساندهم، أن تشكيلات الجيش الحر تخضع لإملاءات أميركية وغربية. تُفصح هذه الشبهات المتبادلة، وإن بقيت مكتومة في الخنادق المتجاورة أحياناً، عن اختلافات جذرية في التطلعات المستقبلية، لا يبدو أن التوفيق بينها سيكون يسيراً. تتعمق هذه الاختلافات مع تنوع مصادر التمويل الأساسية. يسود الترقب اليوم رؤية نتائج ما عُرف عن استلام السعودية بموافقة أميركية لملف تمويل المعارضة المسلحة في سوريا، الأمر الذي يرى البعض أن من أهم أهدافه عزل تيارات السلفية الجهادية، وإعادة إبراز دور الجيش الحر بفصائله التي يغلب عليها الهوية السنية المعتدلة. تشكيل الفرقة 11 في الرقة جاء مترافقاً مع هذا التوجه الجديد لإعادة الريادة لفصائل الجيش الحر في العمليات القتالية، والدفع لإعادة هيكلة أكثر متانة في صفوفه الدعم الخارجي والعصيان السوري (فورين بوليسي): توماس بيريه http://mideast.foreignpolicy.com/posts/2013/08/09/external_support_and_the_syrian_insurgency.
لا يبدو أن الاشتباك بين داعش و«أحفاد الرسول» سيكون الأخير من نوعه بين الكتائب المقاتلة في الرقة، وربما في مناطق مجاورة. هناك جنوح عند بعض الفصائل لفرض هيمنتها على الأرض. في المقابل، فإن ميل جمهور واسع، غربي ومحلي على حدّ سواء، إلى خلط كافة الفصائل المسلحة بوصفها «تنويعات» على التشدد السني غير دقيق، ويُغفل فروقاً أساسية في النهج والمشروع والأهداف. فهناك من يرى أن حدود عمله تتوقف عند سوريا جديدة (تتراوح بين دولة تستند إلى التشريع الإسلامي كمصدر الدستور والحكم الأساسي، وبين دولة تعددية ديمقراطية يختار السوريون دستورها ونظام حكمها). وهناك من لا يرى سوريا إلا بوصفها جزءاً من مشروع دولة خلافة إسلامية أشمل. هؤلاء جميعاً موجودون في الرقة، لا يجب على المظاهر الشائعة لإعلان التدين (من شعارات ولحى وغيرها) أن تطغى على فروق جوهرية بينهم.
أرض محرّرة وسماء تمطر براميل متفجرة
في اليوم التالي لوصولنا إلى الرقة، وخلال زيارتي لمنزل أحد الأصدقاء، قبل موعد الإفطار بقليل، تهرع سيدة المنزل إلى غرفة الجلوس وتصرخ «زتت الطيارة، اطلعوا بسرعة». خرجتُ وصحبي بعجالة دون أن أعي ما يجري! ثم نظرت إلى السماء حيث يشير الجميع لأرى نقطتين فضيتين متجاورتين تقريباً على مسافة أسفل حوامة تحلق على ارتفاع شاهق. كانت الناس تركض حولنا، لكن أحدهم وقف هو يصرخ: «رح ينزلو بعيد»، استغرق هبوط البراميل 10 ثواني تقريباً، قبل أن تختفي وراء الأبنية المقابلة لنا التي حجبتها عنا، استغرق الأمر ثواني أخرى قبل أن نسمع الإنفجار، ومن ثم نرى سُحُب الدخان والغبار. كان موقع سقوط البراميل يبعد حوالي 1 كيلومتر عنا. رمت الحوامة ذلك اليوم 6 براميل متفجرة على أحياء سكنية تماماً، قضى 10 أشخاص مدنيين جراء القصف، منهم أطفال ونساء. لم يكن هذا حدثاً نادراً، فقد دأبت الحوامات على زيارة سماء الرقة في الأيام التالية. لم يكن لهذا القصف أي مغزى عسكري! البراميل المتفجرة هي تجسيد الهمجية بأشكالها الأكثر عبثية. تمر الحوامة فتلقي البرميل دون دقة تذكر. تتحكم سرعة الرياح في توجيه البراميل أيضاً. البرميل هو ذروة الموت العبثي في الحرب التي قرر النظام أن يشنها على محكوميه الثائرين عليه. بحسب اعتقاد من يُقصفون اليوم، يبدو صاروخ المقاتلة الحربية سلاحاً أكثر احتراماً! قد يكون أكثر فتكاً، لكنك على الأقل لا تترقبه يتهادى عليك دون أي مغزى!! هذه مقاربات مهمة للسوريين اليوم. الرقاويون كغيرهم من السوريين باتوا يميزون اليوم بدقة مدهشة أصوات أعيرة الرصاص المختلفة، وأنواع قذائف الهاون والمدفعية، وبطبيعة الحال أصوات الطائرات.
في يوم 3 آب، قصفت طائرة ميغ الرقة بصاروخين، واحد سقط فوق مبنى سكني وخلّف ضحايا منهم أخ وأخت من عائلة واحدة، فيما وقع الصاروخ الآخر قرب القسم المخصص لألعاب الأطفال في الحديقة العامة، ولم يصب أحد هناك. الوقت كان ظهيرة يوم رمضاني قائظ. في أي وقت آخر كانت لتكون مجزرة مروعة. الميغ ليست كالحوامة، لأنك تسمع صوتها الثاقب يتلوه مباشرة صوت الانفجار، الأمر برمته يستغرق أجزاء من الثانية، لا تمنحك الميغ وقتاً لتأمل الموت العبثي الهابط عليك من السماء. على عكس الحوامة، توفر عليك الميغ لحظات التأمل العاجز ما قبل الكارثة. عندما تأتي الحوامات، يرصد المارة ومضات مضادات الطيران (الدوشكا والرشاش 23) وهي تنفجر قبل أن تصل الطائرة. تبدو محاولات المقاتلين على الأرض لضرب الحوامة مجرد محاولات لدرء التقصير لا أكثر. كل يوم أو يومين تحلق الحوامات لتلقي حمولة غير محددة من البراميل العشوائية وتمضي، ترافقها ومضات المضادات العاجزة، التي لا تعكر صفو تحليقها على علوّ شاهق. في صبيحة ثالث أيام العيد، 10 آب، ألقت الحوامة 4 براميل متفجرة، فخلفت دماراً كبيراً وحصدت 14 من المدنيين، منهم محمد ذو الـ28 ربيعاً، الذي تزوج منذ شهر فقط. كان يصطحب عروسه في زيارة إلى بيت أهلها، رحل الجميع سويةً ذلك اليوم.
الرقة محررة فعلاً، لكن سمائها مستباحة في كل وقت. كعموم السوريين يراقب الرقاويون في كثير من الأحيان موتهم العابر للسماء، يرَون بأم العين الطائرات التي تقتلهم وهي تأتي وتذهب. الحوامات بالذات تغيظ بمرورها أكثر من فعل الموت الذي تجلبه، فهي تتهادى أمام الجميع، تشعر بها تهزأ من ومضات المضادات المحمولة على سيارات متهالكة. السوريون يراقبون موتهم القادم من السماء، كما يراقبون نشرات الأخبار والتقارير التي تتحدث عن حرب أهلية بين أطراف متكافئة، وعن خشية بعضهم أن تصل أسلحة متطورة إلى «الأيادي الخطأ»! لا يبدو لهؤلاء أن الموت القادم من السماء هو فعل أيادٍ خطأ! السوريون يراقبون أيضاً سأم العالم من موتهم.
لا يملك النظام أية فرص جدية باستعادة الرقة، كل ما تبقى له في المحافظة بأكملها هو ثلاث قطع عسكرية تنحسر مساحتها على وقع حصار مقاتلي المعارضة لها، وهي اللواء 93 والفرقة 17 ومطار الطبقة العسكري. يعمد النظام إلى مواصلة قصفه العشوائي لتخفيف الضغط قدر الإمكان عن هذه القطع، ولمواصلة سياسات عقابية ضد المناطق التي خرجت بالكامل عن سيطرته وإبقائها مشغولة بمصائب متلاحقة. القصف بالطائرات وبصواريخ أرض–أرض بعيدة المدى هو ردّه الوحيد على خروج المناطق عن هيمنته، إنه السعر الباهظ الذي يفرضه النظام للحرية.
مؤسسات الدولة وإدارة شؤون المدينة، وطريق طويل نحو الحلم المنشود
تنتصر الرقة على القصف بطرقها العديدة. يواصل من بقي فيها ومن عاد إليها سعيهم الحثيث لكسب قوتهم، هذا ليس بالأمر اليسير اليوم. هناك دوائر قليلة مازالت تستقبل رواتبها من قبل الحكومة المركزية (الاتصالات والكهرباء)، هناك دوائر أخرى انقطعت الرواتب تماماً عنها أو أنها وصلت مرة واحدة فقط منذ 6 شهور (المياه والصحة على سبيل المثال) وبقيت هذه الدوائر الحيوية تعمل بجهود تطوعية مع دعم من المجلس المحلي الذي يملك موارد شحيحة. والمعضلة الأخرى التي تواجه الرقاويين اليوم هي قطاع الزراعة. هناك أسئلة اليوم حول مصير فلاحين محدودي الدخل، كيف يؤمنون كلف البذار والسماد، بعد انقطاع تسهيلات حكومية وإن كانت محدودة؟ السماد المستورد اليوم من تركيا باهظ الكلفة. كيف سيتم ضبط شراء المحاصيل وتوزيعها؟ أعباء جديدة وضخمة ملقاة على سلطات مدنية أهلية، قصّرت المعارضة السياسية السورية بشكل فادح في تمكينها. لا وجود يُذكر للمعارضة السياسية على الأرض في الرقة اليوم، لا وجود لمؤسسات فاعلة تابعة للائتلاف أو لغيره. هناك من يقومون بزيارات خاطفة فقط. يتحمل المجلس المحلي العبء الأكبر في مواجهة تحديات ملحة، وهناك مبادرات طيبة، منها ما يتعلق بوجود جهاز للشرطة، وقد بدأ بعضهم فعلاً بالانتشار بأعداد محدودة لتنظيم حركة السير. لكن العمل جار على تأهيل هذا الجهاز وتفعيل دوره. سيكون هذا اختباراً حاسماً لانضباط الكتائب المسلحة المنتشرة في المدينة وابتعادها الكامل عن التدخل في شؤون المدنيين. كما أن المجلس نهض بشؤون البلدية وابتدأ العمل على موضوع النظافة.
لكن الأمل كله يأتي من الشباب والتكتلات المدنية التي خلقوها بعد التحرير. هناك في الرقة وحدها 41 تنظيماً مدنياً اليوم، بالطبع تتفاوت في حجم نشاطها وفاعليتها على الأرض، لكنها تؤكد دون شك توق السوريين لاستعادة الدور الفاعل للمجتمع المدني. هناك مجموعات لحقوقيين، ولإعلاميين مستقلين، ولمعلمين وطلبة، ولناشطي الحراك السلمي، ولفاعلين في مجال التنمية والمشاريع الاقتصادية الصغيرة، والإغاثة، هناك مجموعات مهتمة بالمسرح والفنون أيضاً. بعض الفاعلين في هذه المجموعات اعتُقل من قبل النظام السوري لمرتين أو ثلاث قبل التحرير. هؤلاء يزرعون فيك الأمل، ولصوتهم اليوم وزن لا يمكن إغفاله. لهذه المجموعات دور فاعل أيضاً في الإبقاء على علاقات ذات ديناميكات مرنة مع الفصائل المسلحة، وهي علاقات مهمة في إبقاء قنوات الحوار مستمرة بين الطرفين. المعرفة الشخصية تلعب دوراً حاسماً في وجود هذه القنوات. وأشكال التواصل هذه تبقى بالغة الأهمية في تمييز وعزل من لا يجيد التواصل أو يرفضه (داعش مثلاً). يميل الرقاويون اليوم أكثر إلى التمييز بين من حمل السلاح ليواصل كفاحه المخلص ضد النظام، ومن حمله ليفرض استبداداً من نوع آخر أو ليتكسّب من الصراع الدائر. هؤلاء كلهم موجودون في الرقة وغيرها اليوم. في غالب الأمر، ستلعب الحاضنة الشعبية دوراً مفصلياً في ترجيح كفة طرف على الأطراف الأخرى.
رغم الإرهاق الذي نال من الناس، إضافة إلى ظروف معيشية صعبة، وهي كلها معوقات صلبة في وجه استعادة الحراك الثوري كامل عافيته، إلا أن هناك ملامح أكيدة لعدم استكانة المدنيين اليوم في الرقة لممارسات استبدادية جديدة. كل مساء تخرج سعاد، وهي مُدرّسة مرحلة ابتدائية، لتعتصم في أماكن مختلفة من المدينة، حاملة لافتات تندد بسلوك داعش، وتطالب بالإفراج عن كل المعتقلين لديهم. تذهب سعاد في كثير من الأحيان لتقف أمام مقرّهم في تحدٍّ صريح، بل وتجابه بعضهم ممن يحاولون إثنائها عن جهدها.
في مساء 10 آب، وإثر مضايقات من بعض عناصر حركة أحرار الشام لبعض المدنيين، تجمع رقاويون بشكل عفوي، ليتحول تجمعهم إلى مظاهرة تندّد بسلوك أعضاء الحركة، فما كان من بعض عناصر الحركة إلا أن فتحوا النار لتفريق المتظاهرين، لتعيش المدينة حالة غليان، وبعد ساعات قليلة تصدر الحركة بياناً تعلن فيه فصل عناصرها ممن تسببوا بالمشكلة ومطاردة من هربوا منهم لمحاسبتهم.
بعد أيام قليلة في 14 آب، ولدى قيام داعش بتفجير سيارة مفخخة أمام مقرّ خصومهم أحفاد الرسول في محطة القطارات القديمة، حاول مدنيون التدخل لإجلاء الجرحى وإدخال سيارات الإسعاف، إلا أنه تم تفريقهم مرة أخرى بالرصاص الحي من قبل مقاتلي داعش.
يحدث هذا في ظل احتقان متصاعد مترافق مع استمرار اختطاف شخصيات معروفة في المدينة، ومن ثم شيوع خبر عن مقتل الأب باولو على يد مختطفيه. الخبر الذي تم نفيه لاحقاً، وإن كان التأكد من أية أخبار عن معتقلين لدى داعش أمراً متعذراً، لامتناع التحقق من مصادر داخل الجماعة نفسها. آخر ما أُشيع حول قضية باولو تسرب نقلاً عن مجاهد ترك التنظيم، وأخبر مقربين له بأنه شاهد باولو حياً في سد البعث الذي تسيطر عليه داعش، قبل أن يتم نقله إلى مقر آخر في قرية العكيرشي القريبة من الرقة.
تبدو هذه الحوادث المتعاقبة إرهاصات لخصومة تتعمق بين أهالي الرقة والكتائب المسلحة، تحديداً داعش. لا يبدو الرقاويون في موقع قوة خلال مواجهات من هذا النوع، ولكنهم في الوقت نفسه لم يكونوا من قبل قط بمثل هذه العزيمة والإصرار لمواصلة كفاحهم. جلّ من التقيت بهم يرون في أنفسهم جزءاً من ثورة شعبية وجذرية لم تنتهِ فصولها بعد. لقد أزاحوا عن مدينتهم نظام طغيان شمولي رهيب. يبدو لهم هذا الإنجاز اليوم أولى الخطوات فقط في رحلة طويلة وشاقة نحو الهدف المنشود: دولة الحرية والعدل والكرامة… لا يبدو أنهم سيتراجعون عن هذا الهدف في أي وقت قريب.