أكدت الدلائل أن الأسد قام باستخدام الأسلحة الكيمائية وبذلك تسقط كل التحفظات حول التدخل العسكري، وهنا أصبحت مصداقية الدول الغربية على المحك.
لمَ، بالضبط، تساءل الرئيس السوري بشار الأسد عن مقتل عدد قليل من السوريين بالسلاح الكيماوي الذي زُعم أنه أمر باستخدامه؟ فقد قدرت الولايات المتحدة عدد الضحايا بحوالي 100-150 قتيلاً قبل عدة أيام. وأشار الأسد إلى أنه من «غير المنطقي» أن يُقتل هذا العدد القليل بالأسلحة الكيماوية في حين أنه من الممكن أن يتم قتلهم بـ «أسلحة تقليدية» عوضاً عن ذلك.
في الواقع، إن استخدام أسلحة الدمار الشامل لقتل عدد قليل من المدنيين أو الثوار بدلاً من قتل أعداد كبيرة يخالف المفهوم السائد حول هذا النوع من الأسلحة.
إلا أن أحد خبراء الغار السام المعروفين أعرب، عبر محادثة مسجلة أجراها قبل عدة أسابيع، عن شكوكه بأن الاستخدام الأدنى للأسلحة الكيماوية يعتبر أفضل طريقة لتعويد الغرب على فكرة استعمالها، مما أثار نزاعاً قائما حول ما إذا كان غاز الأعصاب قد استُخدم أصلاً، كما قال أن «الهيجان الدائر حول استخدام الأسلحة الكيماوية بحد ذاتها قد تلاشى».
في دراسة لمعهد واشنطن للدراسات الحربية، كتب ضابط المخابرات الأميركية الأسبق جوزيف هوليداي: «الأسد يدرس بشدة استخدام القوة ويمهّد تدريجياَ لاستخدام السلاح الكيماوي».
في النهاية، وفقا للخطة، فإنه قد يُلحق بهذا هجوماً عنيفاً ويستمر إلى أن يشعر بقوة كافية ليسير على خطا أي دكتاتور آخر ممن سبقوه، من بينهم والده الذي لم يتراجع يوماً عن اقتلاع معاقل المعارضة. ففي مجزرة حماه (1982) على سبيل المثال، قُتل اكثر من 10،000 شخص بأمر من الأسد الأب. الرئيس العراقي الأسبق صدام حسين، كمثال آخر، قتلت قواته 5،000 كردي بهجوم بالغاز السام على مدينة حلبجة قبل 25 عاماً.
هل اعتاد الغرب على هذا العنف اليومي بما يجعل الأسد يتوقع أن يقوم الغرب بإشاحة نظره عن أولئك الاطفال، الذين يموتون بعد المعاناة من تشنج عضلاتهم وانهمار دموعهم وخروج الزبد من أنوفهم وأفواههم؟
هل يمكننا أن نحول نظرنا عن تلك الفتاة الصغيرة من ضواحي دمشق، التي ترتدي قميصاً مطرزاً بخيط برّاق، والتي تم التقاط صورة لها تعصر القلب حيث اختار موقع «سبيغل» أن تتصدر صورة بشاعة موتها صفحات غلافه؟
السؤال الحقيقي هو التالي: هل نجحت خطة الأسد؟ هل هذه الضربة القاضية مقدمة لحرب أكثر بشاعةً مما حذر منه الخبراء؟ وهل العالم الذي سبق أن اعتاد رؤية صور العنف في سوريا سيستمر في المشاهدة بتعاطف، ولكن دون القيام بأي شي؟ أم أن شيئاً ما سيتغير، وتاريخ 21 آب سيكون اللحظة التي أجبرت العالم على التحرك ضد هذا المستوى الجديد من العنف؟ حتى الرئيس أوباما، الذي طالما تجنب أي ردة فعل عسكرية تجاه وحشية النظام الأسدي، يفكر الآن باستخدام صواريخ كروز ضد دمشق.
جريمة ضد الانسانية
ما حصل في ريف دمشق الأربعاء الماضي لم يكن مجرد إضافة ألف ضحية على حصيلة الضحايا التي تفوق 100،000 (حتى تاريخه). إنها مجزرة جماعية وجريمة ضد الانسانية طالما كانت محظورة لأسباب مهمة. الغاز السام لم يستهدف المقاتلين فقط، بل أصاب المدنيين، ومن بينهم النساء والأطفال، بشكل لم يتح لهم أية فرصة للدفاع عن أنفسهم أو الهروب، بل قام بقتلهم بصمت دون التمييز بين أحد منهم. تقارير الصباح الأولية جاءت حول المئات من القتلى والجرحى في عدة قرى في شمال شرق ريف دمشق، ملحقة بمقاطع فيديو عن بشاعة المناظر: ممرّات، غرف مليئة بناس نصف عراة وأجسام سليمة ظاهرياً وناس ترتجف ويخرج الزبد منها محاولة تتنفس. ويظهر الأطباء والمسعفون محاطين بالمياه حول الجثث، كما يصبون المزيد من المياه على الضحايا الواصلين حديثاً ليتم غسلهم من السموم ولتجنب انتقال الغاز إليهم أيضاً.
عند الساعة الثالثة هطل عدد من الصواريخ في عدة مناطق في الغوطة الشرقية في مدينة دمشق، وكذلك الحال في داريا والمعضمية في شمال غرب المدينة. وأفاد الشهود عدم رؤيتهم لأي انفجار ضخم.
أحد الصواريخ الذي ضرب أطراف زملكا لم ينفجر، بل على العكس بقي عالقا في الأرض وأغلب أجزائه بقيت سليمة. إنه نفس نوع الصواريخ التي تم استخدامها في الهجمات الكيماوية السابقة، ولكنه نوع غير معروف عالمياً. قام المسعفون بسحب الجثث من البيوت غير المتضررة قرب الموقع المستهدف، حيث
كانت الحظائر مليئة بالدجاج الميت والحقول مليئة بالماشية الميتة.
أحد الأطباء من مدينة عربين ومتطوع من دوما قالا إن الناس لم تدرك نوع الهجمة إلى حين إذاعة تحذيرات من هجوم بالغاز السام عبر مكبرات الصوت في الجوامع، حينها تم إبلاغ السكان بضرورة إغلاق كافة الأبواب والنوافذ. قال أبو أكرم، وهو أحد الأطباء من قسم الطوارئ في مشفى عربين: «أنا معتاد على أعراض الإصابات لهجمات مسبقة، تبدو الأجسام سليمة ظاهرياً ولكنها ترتعش وتُخرج الزبد من الفم ودقات القلب تصبح أضعف وأضعف… لقد كان عدد المصابين قليلاً في الماضي، ولكن في هذه المرة العدد يقدّر بالمئات. إنهم ممددون على الأرض في غرف المعالجة في الممرات في كل مكان… والعدد بتزايد مستمر. كان المصابون يفقدون وعيهم واحداً تلو الأخر. لقد قمنا بحقن مادة الأتروبين، وهي مادة تقاوم الإصابة بغاز الأعصاب المعروف بالسارين، إلى أن نفدت الكمية، ثم قمنا باستعمال هيدروكروتيسون، وفي النهاية لجأنا الى تقطير عصارة البصل. نجحنا بإنقاذ الكثيرين ولكن73 شخصاً فارقوا الحياة».
«كذبنا على سائقي سيارات الإسعاف»
قال أكرم إنهم أرادوا تصوير وتوثيق كل جثة، ولكن كنا نستقبل المزيد من الإصابات يوم الأربعاء، في حين كانت العائلات تنتشل أفراد عائلاتها من بين الجثث. وعلى الرغم من ذلك، قام مشفى عربين بجمع ملف لكافة الضحايا بحلول يوم الخميس، وتم التعرف على 41 جثة، في حين بقيت 32 جثة مجهولة الهوية من بينها العديد من الأطفال. كانت المهمة معقدة جداً، حيث معظم الضحايا هم من سكان مدينة زملكا القريبة ولكن تم نقلهم إلى عربين، حيث المعدات أفضل في المشفى. وتم إعادة الجثث لاحقا إلى زملكا ووضعها أمام الجامع الكبير ليتمكن الأهالي من التعرف على الضحايا.
وفقا للشريعة الاسلامية يجب دفن الميت في ذات اليوم، ولكن الأمر أقرب الى المستحيل، فمن غير الممكن ببساطة ترك الجثث مرمية على الأرض في حرارة منتصف شهر آب دون كهرباء أو أية وسيلة تبريد. تم دفن العديد من الجثث بعد ظهر يوم الأربعاء وصباح يوم الخميس وإن ضمن مقابر جماعية.
وقام أحد المتطوعين من مدينة دوما بنقل 13 جريحاً وجثة الى المشفى بسيارته المكشوفة من الخلف، ليصاب هو بعدها. «لقد كنت أضع القناع ولكنني لم أعلم ان التلامس الجلدي خطير جداً. قام عدد من الرجال ممن يرتدون قفازات مطاطية بتمزيق ملابسي وفتح خرطوم مياه من سيارة إطفاء الحرائق باتجاهي وباتجاه بالأخرين، وقاموا بحقننا بمادة الأتروبين. لقد غبت عن الوعي لقرابة ساعة. ثم عندما استعدت الوعي في حوالي السادسة كانت الناس تستمر في القدوم الى المشفى. العديد منهم كانوا غائبين عن الوعي بشكل كامل ولم يكونوا يعرفون أين هم أو من هم. كان أحد الاطفال يصرخ باستمرار في وجه أمه ’انتي مو أمي‘. كان جدّ غريب». 150 شخصاً فارقوا الحياة كما أفادنا هذا المتطوع.
قال أحد خبراء الدعم النفسي في مشفى المعضمية، الذي تبدو عليه علامات الذهول: «لقد كذبنا على سائقي سيارات الاسعاف، كانوا خائفين ولم يكن لديهم أقنعة واقية، ولكننا قلنا لهم إن القيادة الى الموقع المتضرر غير خطرة… ماذا كان بإماكننا ان نفعل غير ذلك؟ كان عددهم سبعة، ثلاثة منهم عادوا». حينها لم تكن بعد قرى جنوب غرب دمشق مصابة بعد بالكيماوي. كان المشفى مجهزاً ولكن ليس لاستقبال هذا العدد الهائل. «إضافة إلى ذلك، لم نستطع الوصول إلى البيوت، لأن القصف المدفعي بدأ من جديد حوالي الساعة السابعة صباحاً، وكان القناصون أيضاً يستهدفون كل سيارة قريبة من الجبهة. لفترة قصيرة كنا نسمع أصوات الناس عن بعد، ولكن هذه الأصوات اختفت بعد فترة».
ارتفاع حصيلة الضحايا
عدد ضحايا الهجمة غير معروف حتى الآن. حسب المعارضة الخارجية، الرقم يصل إلى 1300. في صباح يوم الجمعة تم التعرف على 300 جثة. لكن العديد من المعلومات من قرى مختلفة ما تزال مفقودة. ولا تزال قرابة 200 جثة مجهولة الهوية، أغلبها من الأطفال. كما لا تزال العديد من الجثث ملقاة على الأرض في البيوت في أماكن عديدة قريبة من الخطوط الأمامية.
سانا، وكالة الأنباء السورية الرسمية، أنكرت الهجوم تماماً، قائلة إن كل التقارير حول استخدام الأسلحة الكيماوية تمت «فبركتها». ولكن العدد الكبير لمقاطع الفيديو من المشافي، والتي تم تحميل 130 منها على اليوتيوب في يوم واحد، جعل من الصعب جداً على الخبراء تصديق أنها «مفبركة». وقد أوضح مجموعة من الخبراء، من بينهم خبير الأسلحة الكيماوية البلجيكي جاين بايكال زاندرز؛ وستيفان موغل من المكتب السويسري لاتحاد الحماية المدنية؛ واليستار هاي من جامعة ليدز في المملكة المتحدة، جميعهم اتفقوا على أن مجموعة الأعراض للعديد من المصابين واضحة جداً ولا يمكن تجاهلها.
وقال الخبراء إنه ليس من المؤكد بعد تحديد نوع المادة المستخدمة، ولكن الأعراض تشبه أعراض حالات سابقة، وجاءت نتيجة تحليل عينات من تلك الغازات في مختبرات فرنسية وبريطانية مؤكدة استخدام غاز السارين.
من سيوقف الأسد؟
ولكن، لماذا استخدم الأسد هذه الأسلحة بعد وصول فريق خبراء الأمم المتحدة بيومين؟ وعلى بُعد عدة كيلومترات من الفندق الذي يقيمون فيه؟ وقد كانت أكدت الحكومة ،الروسية والتي تصف كافة الأخبار حول الهجوم بـ«التحريضية»، أن مجرد وجود مفتشين الأمم المتحدة دليل كافٍ على أن دمشق لا يمكن أن تكون وراء هذه الضربة. إلا أن قصر الكرملين الآن يطالب الرئيس الأسد بتوضيح موقفه.
وقد سمح الأسد متأخراً لمفتشي الأمم المتحدة بالدخول للمواقع المستهدفة حديثاً. ولكن قبول العرض جاء متأخراً بشكل يؤثر على مصداقيته، لأن التأخير يساعد على إخفاء الحقائق، حسب ما قال مسؤول عريق في إدارة أوباما. وتم استهداف سيارة تابعة للأمم المتحدة في دمشق بواسطة قناص يوم الاثنين، وصرح المتحدث الرسمي بأن عملية الاستهداف تمت في المنطقة الواقعة بين سيطرة النظام وسيطرة الثوار.
وأشار مؤيدو الأسد أن الاسلاميين من جبهة النصرة، الذين أعلنوا تحالفهم مع القاعدة، سيطروا على الجزء الشرقي من دمشق وألقوا قبضتهم على معمل لغاز الكلور فيها.
ولكن الخبراء يشككون باحتمالية استخدام هذه المواد الكيماوية كأسلحة، حيث ذكر خبير الغاز السام ستيفان جونسون أن عملية قتل المئات من الناس تحتاج الى كميات هائلة من المواد الكيماوية، وهو أمر يستحيل على الثوار القيام به.
بينما يقترح المراسل الأميركي جيفري غولدبيرغ دافعاً مختلفاً تماماً وراء الهجوم: «الأسد يعتقد أنه لا أحد –لا الأمم المتحدة ولا الرئيس أوباما ولا القوى الغربية، ولا جامعة الدول العربية– سيحرك ساكناً لإيقافه، وهذا الاحتمال قد يكون صحيحاً».
رسم الخط الأحمر
بدأت الإتهامات تُوجه للنظام السوري بخصوص تحريك ذخيرته من الأسلحة الكيماوية قبل عام، حين استعمل المتحدث الرسمي باسم الولايات المتحدة الأميركية مصطلح «الخط الأحمر». قال إن الإدارة الأميركية تعمل على منع النظام السوري من استخدام هذه الأسلحة، وفي حال تخطي هذا الخط الأحمر فإن ردة الفعل ستكون جدية.
بعد ذلك بعشرة أيام اعترفت دمشق وللمرة الأولى أنها تمتلك سلاحاً كيماوياً. ولكنها قالت أيضاً أنها قد تستعمل هذا السلاح فقط في حالات الدفاع عن نفسها من أي اعتداء خارجي. الأمر كان يعتبر سراً داخلياً، على الرغم من أن الكثير من الخبراء تنبؤوا بأن الأسد يمتلك كميات كبيرة من السلاح الكيماوي. وقدرت وكالة الاستخبارات الخارجية الألمانية مقدار ما تمتلكه دمشق من أسلحة كيماوية بـ10,000 طن، تتضمن 700 طن من السارين وكميات من غاز الماسترد وغاز في-إكس.
وحذرت الحكومة الأميركية مجدداً نظام الأسد من استخدام الأسلحة الكيماوية بعد تصريح المتحدث الرسمي باسم البنتاغون. في 20 آب 2012 استخدم أوباما مصطلح الخط الأحمر قائلاً: «ستكون النتائج هائلة إذا بدأنا برؤية تحركات على جبهات الأسلحة الكيماوية أو استخدام هذه الأسلحة الكيماوية».
وقال أيضاً الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند أن استخدام الغاز السام هو «سبب شرعي للتدخل المباشر». وفي شهر أيلول (2012) حين تكاثرت الأدلة حول استخدام السلاح الكيماوي، كشف وزير الدفاع الأميركي ليون بانيتا أن واشنطن أرسلت إلى الأردن 150 فرداً من قواتها، وهي قوات عمليات خاصة بشكل مشروط، لمراقبة سلاح سوريا الكيماوي وإعادتهم سالمين في حال الضرورة.
أدلة متزايدة
من غير المؤكد متى استُخدم السلاح الكيماوي لأول مرة في الصراع السوري، في حين أكد مسؤولون أميركيون أن سوريا استخدمت صواريخ سكود في شهر كانون الأول 2012 شمال البلاد، وهي صواريخ يمكن تثبيت رؤوس كيماوية بسهولة عليها. بعد ذلك بفترة وجيزة، وقبل يوم من عيد الميلاد، تحدثت الجزيرة عن استخدام الغاز السام في مدينة حمص مما أودى بحياة 7 أشخاص، ولكن دون وجود أدلة.
ويوجد الكثير من مقاطع الفيديو التي توثّق موت الكثير من البشر والحيوانات كضحايا الاستخدام المحدود للغاز السام في محيط مطار مشق، كمدينة العتيبة. لقد تم استخدام المواد الكيماوية مراراً وتكراراً منذ ذلك الحين، بناء على رواية الشهود وفحص عيّنات من التراب والأنسجة البشرية. كان هذا ختام ما توصلت إليه الحكومتان البريطانية والإنكليزية وتم تأكيده لاحقاً من قبل الأمين العام للأمم المتحدة بان كي مون. في دراسة مشتركة قامت بها جامعة هارفرد وجامعة ساسكس، تم وضع لائحة لـ20-30 هجمة كيماوية خلال 18 شهراً، على الرغم من قلة الأدلة.
أوسع نطاق على استخدام الأسلحة الكيماوية قبل ما حدث الأسبوع الماضي كان في 19 آذار، في منطقة خان العسل، وهي إحدى المناطق الواقعة تحت سيطرة الثوار في حلب. وتُظهر مقاطع الفيديو سقوط العمال جرحى نتيجة لاستنشاقهم الغاز بدون ارتداء أي نوع من الأقنعة الواقية. وفي شهر نيسان تزايدت التقارير عن استخدام الأسلحة الكيماوية بكميات قليلة في عدة مناطق بحلب وحمص وقرى مختلفة في ريف دمشق.
ولكن الولايات المتحدة لم تغير موقفها إلا منذ أربعة أشهر، أي في 25 نيسان حين صرح متحدث البيت الأبيض للمرة الأولى أن «النظام السوري قد استخدم أسلحة كيماوية بجرعات قليلة في سوريا، وبالأخص غاز السارين». ولكن حينها حاول الأميركيون تعديل خطوطهم الحمراء. فاستعمال الأسلحة الكيماوية لم يعد سبباً للتدخل، كما صرّح الرئيس الأميركي. بل على العكس، أضاف أوباما، علينا أولاً التأكد مما حدث «بالضبط»، ومما إذا كان النظام وليس الثوار من قام باستخدام هذه الأسلحة القاتلة.
في 13 نيسان صرحت الولايات المتحدة بأن الأسد استخدم مجدداً الغاز السام ليقتل 100-150 شخصاً، وهو بذلك يخرق الخطوط الحمراء التي وضعها المجتمع الدولي. وبعد استخدام الأسلحة الكيماوية في 25 آب صرح مسؤول حكومي لصحيفة وول ستريت «هناك قرائن قوية تؤكد أنه كان هناك هجوم بالأسلحة الكيماوية من قبل الحكومة». واقتنع الأميركيون بعد النتائج الأولية للمجزرة أنها حصلت على علم من النظام.
خطة أوباما المشوشة
في شهر حزيران وعد أوباما بتزويد الثوار بأسلحة وذخيرة خفيفة. ولكن في الأشهر التي تلت ذلك قال الثوار إن المعونات وصلت إلى تركيا ولكن لم تعبر الحدود. وفي محافظة درعا في الجنوب بدأ برنامج مشترك بين الولايات المتحدة والسعودية أقيم في الأردن لتدريب وتجهيز الثوار في الأشهر الأولى من هذا العام، ليتوقف فجأة في شهر أيار. وعن السبب أجاب المسؤولون في الاستخبارات الأردنية للسوريين المستغربين «إنها الإرادة الأميركية».
ماذا تريد أميركا بالضبط؟ «ما هي خطتنا في الشرق الأوسط؟»، تساءل مؤخراً الجنرال جايمس ماتيس المستشار الأعلى بشؤون المنطقة. «لا يوجد شيء هناك».
وقبل أن تستهدف الأسلحة الكيماوية محيط دمشق، كتب الجنرال مارتين ديمبسي، المسؤول في الفريق المشترك، رداً على تساؤل أحد أعضاء الحزب الديمقراطي في الكونغرس إيليوت إنجل عن قدرة القوة العسكرية على الإطاحة بالنظام الأسدي: «إنني أرى أن علينا دعم مصالح الجانب الذي اخترناه حين تتغير الموازنات. اليوم نحن غير قادرين على فعل ذلك».
بالطبع قام البنتاغون بدعم سيناريوهات التدخل استجابة لطلب أوباما، وهي تتراوح بين دعم وتدريب الثوار إلى انتزاع أسلحة الأسد الكيماوية وذخيرته. وقد يتطلب هذا استخدام حوالي 60,000 من القوات الأميركية. تكوين مناطق حظر طيران تبدو فكرة مقبولة بسعر مليار دولار (750 مليون يورو) بالشهر. ولكن الإدارة الأميركية وجدتها مكلفة جداً.
سوريا: بوسنة الجديدة؟
تطالب الصور والأعداد المرعبة أوباما بالتحرك. وكانت الثورة السورية قد وثقت 100,000 قتيلاً، كما صرحت الأمم المتحدة الأسبوع الماضي عن وجود نحو مليوني نازح. وفضل الكثيرون الهروب عبر نهر دجلة إلى العراق، مهددين حياتهم بالخطر، على البقاء تحت رحمة قوات الأسد في سوريا. إن ربع سكان سوريا البالغ عددهم 21 ميلون نزحوا داخلياً، ومن بينهم مليون طفل.
قبل 18 عاماً، كانت الصور والتقارير من المجازر الصربية كفيلة بإقناع الرئيس ألأميركي بيل كلينتون بالتدخل عسكرياً لوقف شلال الدم. اليوم لا يوجد مصدر للشك عن الجهة المسؤولة عن بشاعة المجازر والغازات السامة في سوريا.
كما تباحث فريق الأمانة الدولية الأميركية، مجدداً، حول ضرورة استخدام صواريخ كروز على المراكز العسكرية التي يستعملها الأسد في هجماته الكيماوية. مراكز التواصل والمباني الحكومية هي أهداف محتملة أيضاً. وكان وزير الخارجية جون كيري قد نادى مسبقاً بضرورة التدخل، إلى أن انضم له أوباما حديثاً.
لم يكن هناك أي حديث في واشنطن عن برنامج شامل سوى استخدام الأسلحة طويلة المدى التي طالب باستخدامها العضو الجمهوري جون ماكيين. إلا أن رؤساء أميركا العسكريون يحترمون سلاح الدفاع الجوي الأسدي.
الإدارة منقسمة، كما هو الحال في كافة العمليات العسكرية التي يدعو لها الرئيس. في حال لم يقم أوباما بكبح ما جرى فإنه سيرسل إشارات لا يمكن إخطاء تلقيها بأن استخدام أسلحة الدمار الشامل سيمضي دون عواقب.
سمعة الغرب على المحكّ
يتم الآن اختبار مصداقية كل من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين. من سيذكر أي خط أحمر ولا يدافع عنه يجب ألا يهدد ولا يتوعد مستقبلاً. اذا أصبحت سمعة الغرب كذلك، كيف للولايات المتحدة الأميركية أن تكبح صناع الأسلحة في كوريا الشمالية أو إيران؟
إن استخدام السلاح الكيماوي الأخير سيضع كافة التحفظات بخصوص التدخل العسكري جانباً. فاستخدام الغاز السام محظور عالمياً، وهو قرار يجب أن يحترم. وأظهرت المهمة في كوسوفو في 1999 أن سكان الدول الغربية على استعداد لتلقي حملة تدخل إنساني مبنية على أسس صحيحة. بينما أثار الغزو الأميركي للعراق الكثير من الغضب ولا سيما أنه لم يتم العثور على أسلحة الدمار الشامل التي ادّعت وجودها واشنطن كمبرّر. ولا أحد يشك بوجود هذه الاسلحة في سوريا.
وبالطبع بعد تجربة العراق وأفغانستان والنكسة في ليبيا والفشل المحتمل للربيع العربي في القاهرة، يمكننا أن نتفهم تردد أوباما. وهو يبدو أكثر وضوحاً في المطالب الملحة لدول أوروبا التي لم تترجم يوما أعمالها على أرض الواقع، فكل منهم يترك الأمور للأخ الأكبر. ويعارض الشارع في واشنطن التدخل العسكري في الشأن السوري مستشهدين بتدهور الأحوال الاقتصادية في الولايات المتحدة بعد دعم المجاهدين الأفغان في صراعهم ضد الغزو السوفيتي في السبعينيات.
هذا ما يفسر التريّث المستمرّ للغرب وخاصة الولايات المتحدة، مبرّرين ذلك بقولهم إن مساعدة الثوار قد تؤدي إلى دعم القوى الرجعية. ولكن عدم التدخل أدى الى ما كان الغرب يخشاه: المجاهدون أصبحوا أكثر قوة بشكل يجعل أي تدخل أشد صعوبة.
الأسباب الداخلية للأسد
وفق ما قاله مقدم في المخابرات السورية، والذي انشق عن النظام مغادراً إلى الأردن منذ بضعة أشهر وما زال على صلة ببعض من هم داخل النظام، إن الهجوم قد يكون لأسباب ودوافع مختلفة كلياً. قد يكون السبب شيء متعلق بالحرب الأهلية. «لقد قام النظام بذلك لأسباب داخلية، فمنذ عدة أسابيع هدّد الثوار محافظة اللاذقية، مسقط رأس الأسد، حيث سيطروا على عدة قرى تابعة لها»، حسبما صرح به المقدم لنا. «معظم المقاتلين غير النظاميين الذين تستخدمهم الحكومة السورية من الطائفة العلوية هم من سكان تلك المنطقة. وهم الآن يعودون لحماية قراهم». من وجهة نظر المقدم، قام النظام بحل مشكلتين بواسطة هذه الهجمة: «تثبيت القبضة على الخط الأمامي المحيط بدمشق، وشحن معنويات المتعصبين بدرجات مختلفة».
وتزداد هذه الصورة تركيزاً إثر المبررات التي قدمها النظام لحلفائه. في مجموعات الفيسبوك –كشبكة أخبار سوريا للقوات المسلحة– والتي هي أهم مصدر إعلامي حربي في سوريا تم التصريح «بيان هام من القوات المسلحة» صدر تحت راية بشار الأسد: «اليوم تمت مهاجمة معاقل عدد من الارهابيين بأسلحة ثقيلة. وكما تم استخدام الأسلحة الكيماوية لحماية المدنيين». وكان قد علق أحدهم تحت العبارة السابقة قائلاً: «اضربهم بالكيماوي وكل ما هو أقوى منه يا سيادة الرئيس فهم لا يستحقون الحياة». بينما صرح أهالي الشهداء في المنطقة المتضررة أن أكثر من 500 شخص قتلوا في عملية التطهير. وقد قال أحد أقرباء الأسد أن عليه أن يضربهم بالمزيد من الأسلحة الكيماوية، وأحد المؤيدين في اللاذقية طالب بالأمر ذاته. وبعد المجزرة قام عدد من مقاتلي المليشيات بتوزيع الحلوى على المارة في حي المزة 86، وهي طريقة تقليدية للتعبير عن الفرح في الشرق الأوسط. ويقع حي المزة 86 في الجزء الغربي من دمشق وهو معقل للعناصر العلوية في قوى الأمن.
كل جمهور يتم إخباره بما يفترض أن يسمعه. مؤيدو النظام تصلهم تقارير عن النصر، بينما الدول يلقّمهم النظام الإنكارات. حتى الآن، كل طرف يبدو راضياً في هذه المقاربة. بغض النظر عن زيف الإنكار الذي تمارسه دمشق، فقد نجحت حتى الآن في دفع الأحداث إلى منطقة رمادية مثيرة للجدل. في حالة الاستخدام الأقدم للأسلحة الكيماوية، تم تطلّب المزيد من المعلومات – لكن الكثير من المعلومات كانت وضوحاً غير مطلوبة.
تحقيقات «سبيغل» الفاشلة
في بداية شهر أيار حاولت «سبيغل» وبعض المجموعات الطبية في محيط دمشق تقديم أدلة حول استخدام الغاز السام. أراد الأطباء الحصول على بعض التراب والأنسجة البشرية بعد الهجمة الكيماوية وإخراجها خارج البلد لتقوم «سبيغل» بدورها بضمان تحليل العينات ونشر النتائج.
وتم أخذ العينات من مواقع مستهدفة من أجزاء من ملابس وأجزاء من بشرة الضحايا وقناع واقٍ من الغاز لأحد الأطباء الذين كانوا يعالجون المصابين. كما وثق المحققون أعمالهم بأفلام فيديو. وفي حال الحصول على موافقة معهد غربي على إجراء التحليل فسوف يتم إرسال العينات خارج البلاد. كانت هذه خطتنا.
وثّقت «منظمة حظرَ استخدام الأسلحة الكيماوية» التابعة لهيئة الأمم المتحدة 18 مركزاً في أنحاء العالم لتحليل الأسلحة الكيماوية والعضوية. وحاولت «سبيغل» التواصل مع المراكز الموجودة في أوروبا والوزارات المشرفة عليها، إلا أن من سويسرا وألمانيا وفنلندا والسويد وهولندا وفرنسا وبريطانيا وإسبانيا كلها رفضت. رؤساء المراكز والدبلوماسيون تحدثوا عن صراع داخلي بين أولئك الذين يؤيدون التحقيقات وأولئك الذين قالوا إنها قضية «سامة» (وهو وصف، حرفياً، دقيق).
واقترح بعض الممثلين عن الدول التواصل مع أشخاص في المنظمة أو الأمم المتحدة بشكل مباشر. ولكن هؤلاء أيضاً لم يُبدوا اهتماماً، حيث نصحونا بمراسلة الدول بشكل فردي. في النهاية، فإن الأطراف الرافضة كانت دائماً حاضرة، أحياناً بدون أي تعليق وأحياناً يتحججون بقلة الأدلة الثابتة – سلسلة أدلة تنتقل بشكل مثالي من عينات بسيطة إلى مختبرات الأمم المتحدة للتحليل. واستمرت العملية لحوالي شهرين، كما كانت تغلب عليها نبرة الندم من بعض المسؤولين الذين أرادوا فعلاً تقديم حل للمشكلة ولكن بلدانهم لم تفعل.
ماذا الآن؟
وفي مؤتمر أصدقاء سوريا، الذي عقد في قطر في شهر حزيران الماضي، قال وزير الخارجية الألماني غويدو ويسترويلي لـ«سبيغل» بأن ألمانيا لن تحلل أية عينة خارج حدود بعثة الأمم المتحدة.
ولكن عدداً أكبر من الحكومات الآن يتساءل عن عواقب هجمة الأربعاء. وصف وزير الخارجية الفرنسي لورت فابيوس العملية بـ«ردة الفعل القوية»، بينما تحدث نظيره البريطاني ويليام هيغ عن احتمال مسؤولية الثوار عن هذه الهجمة وقال «احتمالات ضعيفة»، كما حث رئيس الوزراء ديفيد كاميرون الرئيس أوباما على أن يترأس التدخل العسكري.
وصرحت وزارة الخارجية في ألمانيا: «قبل الحديث عن العواقب علينا أن نسهل عمليات التحقيقات الجدية». وقال المتحدث الرسمي باسم المستشارة أنجيلا ميركل إن الحكومة السورية «يجب أن تُعاقب» في حال تأكد مسؤوليتها حول استخدام الأسلحة الكيماوية. وصرح وزير الخارجية الألماني غويدو ويسترويلي «إن المانيا ستكون من بين الدول التي ستدرس العواقب وملاءمتها».
كل هذا يشير الى خطر تكرار النموذج ذاته –مطالبة الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي بإجراء تحقيقات ثم عرقلتها أولاً من قبل مجلس الأمن ثم من قبل النظام السوري. ولكن بدون دعم الأمم المتحدة، وبدون سلسلة متكاملة من الوقائع، فإن الدليل سيبقى مفقوداً – وبالتالي لن يكون هناك أي عواقب.