صباح يوم الأربعاء 21 آب، خرج الأب والأم وطفلاهما من منزلهم الكائن على سفح جبل قاسيون في دمشق، لا يلوون على شيء، لم يعودوا يسمعون أصوات بعضهم البعض من شدة القصف غير المعتادة، كان القصف موجّهاً نحو الغوطتين الشرقية والغربية، هذا ما علموه فيما بعد. نظر الزوجان لبعضهما ولسان حالهما يقول: «إليك تمرينات القرن القادم!».

قبل 21 آب

فهم السوريون مبكراً نسبياً أن معركتهم عسيرة ودامية وطويلة، وفهموا كذلك أن عليهم اجتراح كل شيء، بدءاً من سبل الحياة اليومية ومقاومة الحصار إلى تصنيع أسلحة محلية. كتبت رزان زيتونة في عدد تموز من جريدة لجان التنسيق المحلية «طلعنا ع الحرية» أن فريقاً للدعم الفني يعمل على تعميم تجارب بديلة لإنتاج الطاقة في محاولة لتجاوز مشكلة انقطاع الكهرباء المستمرة منذ ثمانية أشهر في الغوطة الشرقية، ويسعى لإنتاج غاز الميثان من النفايات العضوية المنزلية ولنشر تجربة الأفران الشمسية لطبخ الطعام على الطاقة الشمسية، هل تتخيلون ذلك؟ هل تتخيلون ماذا يعني نشر ثقافة بديلة بقيم بديلة كريمة وبيئية تحت القصف والموت والحصار؟ هل تتخيلون أن بعض الناشطات المشرفات على هذا النوع من الأعمال، وفي أعمال تشغيل النساء اللواتي بقين دون معيل، يفكرن بنشر الثقافة التعاونية في آليات إنتاج وإدارة موارد أولئك النسوة؟ بعض الناشطين المدنيين يقومون بزراعة بضع دونمات من الأرض، بمحاصيل جديدة على المنطقة وعلى التراب السوري، ولكنها سريعة الدورة الإنتاجية للحصول سريعاً على الطحين اللازم لصنع الخبز… هل تتخيلون ماذا يعني هذا الجهد؟ هناك بعض الناشطين في مجال التعليم البديل في المناطق التي انسحبت فيها مظاهر الدولة المركزية رأوا ما ارتجلوه من مدارس يتدمّر مرة وراء مرة بفعل القصف اليومي من قبل قوات النظام، وفي كل مرّة كانوا يعيدون تأهيلها على عجل لإكمال التدريس.

بعض الأطباء في بعض المشافي الميدانية المحيطة بدمشق يعملون لوحدهم ما يقارب العشرين ساعة في اليوم، دون عون يذكر، ورغم شحٍّ لا يوصف في الكوادر النوعية، حيث معظم الكوادر من المتطوعين من أبناء المنطقة، وليسوا غالباً أطباء أو ممرضين. الأنفاق التي بناها بعض الثوار في بعض المناطق، للحؤول دون محاصرة قوات النظام لمناطقهم، تكاد تثير الذهول من حجم العمل الذي لزم لإنجازها. كل هذه الإرادة في صنع الحياة واستمرارها لم يوازنها ويحصّنها ويحرص على تكريسها تراكم سياسي بنفس القدر. صحيح، هناك فراغ سياسي كبير على الأرض لا يجذب سوى القوى التكفيرية الجهادية، وهناك ضعف وتهلهل في الأداء السياسي التمثيلي للثورة في الخارج، سببه التصحر المديد للسياسة في سوريا خلال عقود… إلا أن الشرط الأول والبديهي لتراكم التجربة السياسية على الأرض هي وقف آلة القتل، كي يصبح للقوى الشبابية المدنية (المتبقية في البلد) فعل متراكم يعطيها حق إعلاء الصوت مقابل قوى ظلامية مسلحة عليها أن تنجز أكثر مما تنجزه بين قذيفتين وبين مجزرتين. ازدحام جدول أعمال السوريين اليومي بالمجازر يجعلهم في حالة انتظار مبهمة غير واضحة المعالم للسعادة والخلاص. ينبغي أن تتوقف آلة القتل بالقدر الكافي الذي يمكّن الإنسان السوري من رؤية البدائل الثورية، كي تتمكن تلك البدائل من استكمال عرضها لما بعد الثورة وتثبيته، كي يتمكن النشطاء الثوريون من رؤية ثمار ما يزرعوه.

بعد 21 آب

بعد 21 آب وضرب النظام السوري الغوطتين الدمشقيتين بالغازات السامة ورحيل أكثر من 1500 إنسان سوري دفعة واحدة، سيغادر أي إنسان عاقل بقايا سذاجة أو براءة أو حسن نية، وسيفهم أن النظام الأسدي وحلفائه وميليشياته مستعدون لأقصى ما يمكن للمخيلة تصوره. 21 آب هي «خط أحمر»، ليس بمعنى أن من قضى ذبحاً بالسكاكين الطائفية لا يستثير الذهول والغضب، ولكننا هنا أمام إرادة في الجنون وأدوات متاحة لخدمة الجنون الإنساني لا يسبقها معادل إلا المحارق النازية. ذُهل السوريون لأنهم أدركوا عميقاً أن «الحل النهائي» كان يراود «عقل» النظام منذ البداية، وأنها كانت مسألة وقت واختبار طويل ومستمر لسلبية المجتمع الدولي، بدءاً بقتل أول متظاهر سلمي وصولاً إلى المجزرة الكيماوية، ولكن مروراً بمئات المجازر ومئات الشهداء الذين قتلوا تحت التعذيب في أقبية الأمن السوري. سيفهم الإنسان العاقل كذلك أنه لن تتاح له بعد الآن ثغرات نجاة بين قذيفتين أو برميلين أو مجزرتين يتسلل من بينهما لصنع حياة ما. الموت ينتشر في الهواء ليطال الجميع دون استثناء، وبشكل لحظي فوري.

ما العمل؟

«السؤال ينبغي أن يبحث في كيفية الخروج من خانة الضحية العاجزة الواقعة بين أنياب ذئاب الداخل والخارج، والانتقال إلى موقع الفعل والتأثير وتقرير المصير والقدرة على رد غوائل القتل المجاني وجوائح القتلة» (حسام عيتاني، اسم القاتل، الحياة 23 آب أغسطس). في الحقيقة وفي باب الفعل والخروج من خانة الضحية، وأمام استعصاء الشرط السوري بوجود هكذا نظام مجنون لا عقلاني، لا يمكن لكفاح السوريين في أول القرن الواحد والعشرين إلا أن ينضوي في جزء مهم منه على بعد كوني إنساني: إعادة النظر الجذرية في شكل العلاقة بين الفرد وكتلة البشر الأخرى، في الهيئات الأممية ودورها، ومسح الصدأ عنها بعد أن تحولت إلى بيروقراطية ورواتب عالية لموظفين قلقين ضمن خط بياني أفقي مستقر للقلق لا يرتفع ولا ينخفض، وفيتو واستبداد بعض الدول بالمؤسسات الدولية لحماية مصالحها الاستراتيجية وطموحاتها الامبراطورية.

اليوم، ومع ظهور احتمال توجيه ضربة أميركية عسكرية، هبّت الكثير من القوى السلمية والمعادية للحرب واليسارية المعادية للامبريالية الأميركية لمناهضة هكذا احتمال، احتمال ضربة عسكرية موجّهة للنظام السوري، وكأن لسان حالهم يقول: «ألا يوجد في أول القرن الواحد والعشرين آليات وصيغ للتكافل البشري بعيداً عن بوارج وتوماهوكات وكروزات الأمريكان؟ أيمكن أن تستمر أميركا بالاضطلاع بمهمة الشرطي العالمي المؤدب للدول المارقة؟».

في الحقيقة، كنا، نحن السوريين، لا نفتأ نطرح نفس السؤال على الإنسانية منذ سنتين ونصف دون تعب. إن كان هناك إرادة حقيقية ودينامية وفكر حقيقين لإحقاق الندية بين الدول، ألم يكن بالإمكان توجيه الزخم الذي نشهده في اليومين الأخيرين من مظاهرات مناهضة للحرب الأميركية في اتجاه «السيادة» السورية، أي احتكار النظام لقتل محكوميه، وذلك منذ أول فيتو قامت به روسيا والصين في مجلس الأمن بصدد الوضع السوري، في شكل مظاهرات معمّمة تنسف هذه البيروقراطية وهذا الفجور المستبد في مجلس الأمن، المسمى «حق الفيتو»؟ ألم يكن بالإمكان العمل الدؤوب والمثابر والملتزم لتطوير الأطر والآليات الحقوقية، لتصبح نافذة المفعول، ولها قدرة تنفيذية ضمن هيئة الأمم المتحدة؟ هناك نصوص موجودة كان يمكن العمل عليها وتطويرها، لكن لا شيء من هذا حدث. ألم يكن بالإمكان النزول في مظاهرات جماعية والمطالبة بقوات فصل وحفظ سلام؟ ألا يمكن لكل هذه القوى المبدعة أن تقترح شيئاً جديداً كل الجدة يناسب التقدم التكنولوجي الذي حققته الإنسانية؟ مثلاً استفتاء يقام عن بعد، وبواسطة الأمم المتحدة، لاختبار شرعية النظام وأخذ إجراءات معينة بناءً على ذلك؟ وإلا فإن الحروب تغدو مناسبة موسمية لتكريس طقوس المعاداة لأميركا والامبريالية في عُطَل نهاية الأسبوع، طقس أجوف إن لم يترافق بعمل مواز يقوّي الإجماع الدولي وتشاركية قرار المجتمع الدولي حول القضايا الكبرى.

ماذا؟ محض خيال علمي مستقبلي؟ نعم عزيزتي البشرية، هو خيال مستقبلي، ولكن هناك نوعان من هذا الخيال: خيال كالذي ذكرته، وخيال آخر عولمته قصة نوح وعولمته هوليوود بأفلام ستيفن سبيلبرغ، ويبدو أنك استمرأته، أيتها البشرية العزيزة، حيث يعمّ الطوفان، فيهدد الكوكب ويقتل معظم من عليه، وتبقى مجموعة مصطفاة من البشر تعيد الحياة الإنسانية من جديد! المثير في الموضوع أن كل من ماتوا، ومن سيموتون في المستقبل القريب على يد النظام الكيماوي، كانوا على الأرجح يظنون أنفسهم من جماعة الناجين.

كان على المجتمع الدولي أن يستعجل في اختراعه لصيغ تُعادل هَول المقتلة السورية المستمرة، والآن ما زال بإمكانه ذلك إن أراد. ماذا بقي للسوريين ليعملوه سواءً نجحت معارضتهم في جذب الرأي العالمي لقضيتهم أو لم تنجح؟ لم يبق لهم سوى لعب الأكروبات بأحشائهم في سيرك المجتمع الدولي للفت النظر! السوريون أوصلوا رسالة التكليف السديدة للإنسانية، بدم أطفالهم، والكرة الآن في ملعب الإنسانية، فأبناء سورية مشغولون اليوم بعدّ موتاهم وإيجاد مقابر مرتجلة تتسع للموت الجماعي.