لا توجد منطقة في سوريا، محرّرة أو محاصَرة أو تشهد مواجهات مع النظام، ليست بحاجة إلى مساعدة على الأصعدة كافة. وكلماتي هذه لا تهدف على الإطلاق لصرف الانتباه القليل الموجّه لبعض مناطق سوريا المحرّرة، بل تهدف إلى تركيز مزيد من الانتباه على منطقة الغوطة الشرقية للعاصمة دمشق، الآن وقبل فوات الأوان.
جميعنا يعلم شحّ الموارد التي تصبّ في أقنية المجالس المحلية في كل مكان، ما دفع بعض هذه المجالس، وآخرها في حلب، لتعليق أعماله احتجاجاً، حيث يستحيل القيام بالمهام الموكلة إليه من دون الإمكانيات المطلوبة.
وجميعنا يعلم كيف وصلت الأمور في مناطق أخرى شمال وشرق البلاد، لناحية انعدام الأمن وانتشار الفوضى وأعمال الخطف وسواها، أو لجهة شبه انعدام الخدمات العامة التي تساعد السكان على الصمود في مناطقهم التي تشهد قصفاً وانتقاماً يومياً من قبل قوات النظام.
تعتبر منطقة الغوطة الشرقية قياسا بغيرها –بما فيها مناطق في دمشق نفسها– الأفضل بما لا يقاس لجهة الأمان ومحدودية أعمال الفوضى وانتشار عصابات التشليح وسواها. ليس الوضع مثالياً هناك بشكل من الأشكال، لكنه الأقرب إلى الممكن تحقيقه في ظل ظروف الحرب والحصار التي تعيشها المنطقة، وفي ظلّ استشهاد واعتقال أو هروب معظم كوادرها الأكاديمية التي كان من الممكن أن تُحدث فرقاً في مجالات عديدة كالشرطة والقضاء…
لكن الوضع لن يستمرّ كثيراً على هذه الحال، إن لم تتم مساعدة أهالي المنطقة وفعالياتها المختلفة على الحفاظ على ما أنجزوه خلال الشهور الماضية بعد التحرير، سواء من الجهة الأمنية أو لجهة الأمور الخدمية.
تحتاج المنطقة إلى مساعدة الأجهزة الشرطية والقضائية فيها، رغم جميع «علّاتها الحالية»، ومع الإقرار بأنها لا تصلح للبناء عليها في المستقبل بأي حال من الأحوال. لكنها تكفي للحفاظ على الأمن وحقوق الناس إلى حدّ كبير حتى أثناء المرحلة الانتقالية. تحتاج المنطقة إلى مساعدة تلك الأجهزة لتستقل بنفسها عن الجهات الداعمة التي تحاول أن تجعل منها أذرعا لتمكين سلطتها على الأرض، بدلاً من تمكينها لتمتلك –قدر المستطاع– حيادها واستقلالية قرارها.
ضمن عملنا في ’مركز توثيق الانتهاكات‘ في سوريا، كانت الغوطة الشرقية من بين الأقلّ تسجيلاً للانتهاكات من قبل الكتائب المسلحة بحقّ السكان، وبفارق كبير جداً عن جميع المناطق الأخرى.
هذا لا يعني أبداً أن أمور المنطقة بخير ويجب أن تُترك لحالها. على العكس تماماً؛ يجب أن يتم تسليط الضوء عليها أكثر والاهتمام بها أكثر لترسيخ ما تحقّق والحيلولة دون ضياعه لدى أيّ تغيير في الأوضاع الأمنية على الأرض في المستقبل القريب (كانكسار الحصار وفتح إحدى الطرقات لخارج المنطقة، أو التقدم نحو مناطق جديدة، أو على العكس نكسة في منطقة معينة، الخ)، كما أن إمكانيات الأجهزة الحالية لا تعطيها المجال لممارسة المزيد من السلطة على الأرض لحماية الممتلكات العامة والخاصة مثلاً، وهو ما يؤدّي إلى تدهور الأمور خاصة مع عودة النازحين إلى مناطقهم ولو بأعداد قليلة.
تمتاز المنطقة أن معظم عناصر كتائبها المقاتلة هي من أبناء بلداتها ومدنها، وهو ما يشكل عاملاً إيجابياً إضافياً يساعد على الإحاطة بالنزاعات حال حصولها ومحاصرتها قبل استفحالها. لكن الأمر لن يكون كذلك في حال اشتدّت المعارك وتغيّرت معطيات الجبهة على الأرض بشكل من الأشكال.
الجانب الآخر الذي يجب التركيز عليه هو الجانب الحياتي للسكان، بدءاً من المرافق العامة ومروراً بفرص العمل وانتهاءً بجميع الأمور الخدمية الأساسية.
فبعد مرور سنتين ونصف على الثورة، لم يعد من المجدي التفكير فقط في الجوانب الإغاثية المباشرة، بل لا بد من مساعدة السكان على الحصول على لقمة عيشهم بكرامة عبر المشاريع الصغيرة الخاصة أو عبر المشاريع الخدمية التي تشغّل اليد العاملة، آخذين في الاعتبار أن الأغلبية العظمى من سكان المنطقة هم من العاطلين عن العمل حالياً.
ولا يمكن استمرار الطلب من المجالس المحلية أن تقوم بدورها من غير خطط للدعم والتشغيل للقيام بأبسط الأعمال التي تساعد المدنيين على الاستمرار في الحياة ضمن الحصار والقصف، كتوفير الماء الصالح للشرب والاستخدام، ولمّ القمامة من المناطق السكنية، ودعم المشاريع التي توفر المواد الغذائية من داخل المنطقة المحاصرة المعرّضة للجوع والتي تشهد أزمة خبز حادة جداً منذ أشهر.
أما ترك المجالس المحلية لتتشكّل ثم تغرق في نزاعاتها، في ضوء قلة إمكانياتها وعجزها عن تقديم القليل للسكان، الذين يضطرون للارتهان للكتائب ممّن يتطوعون لتقديم تلك الخدمات مقابل الولاء والسلطة، فهذا ستظهر نتائجه قريباً جداً كما حصل في جميع المناطق المحرّرة الأخرى.
أعلم أن كل نداءاتنا السابقة حول مواضيع مشابهة أو مختلفة قد ذهبت أدراج الرياح… لكن ما يزال هناك أمل ولو ضئيل في أن تجري الاستفادة مما حصل في مناطق أخرى قبل فوات الأوان، وقبل أن نصبح في وقت تضطر فيه جميع الجهود أن تتحول لإصلاح ما عطب ويتعذر إصلاحه أصلاً في محيط من الفوضى والعجز.