بتنوعها الهوياتي وتبايناتها الطبقية التي ترسمها البرجوازيات الكولونيالية، وبدينامياتها الاقتصادية الرعوية والدولتية، تشكل سورية واحدة من أكثر كيانات العالم العربي هشاشة، فقد أدى تمفصل هذه العطالة الانتاجية مع تلك البنى المأزومة بإشراف وتوجيه نخب عسكرية ريفية أقلوية إلى تحول سورية إلى مجمع للمجتمعات (Communities) المضادة، الدينية والمذهبية والعشائرية والاثنية، والتي تحافظ على ذاتها من خلال التمدد في بنى بطركية ذات معايير غير عصرية وقيم مفوّتة لا يمكن إعادة انتاجها إلا من خلال التضادّ مع الانتماء إلى المجتمع الوطني (Society) على اعتباره مجموعة العلاقات والمؤسسات التي تنظم حياة الناس في كيان جغرافي-سياسي، بالارتكاز على الدولة كجوهر أخلاقي متعالٍ على المجتمع كما يصفها هيغل.
جاءت الانتفاضة السورية خارج هذا السياق، وعلى الضد منه، فقد احتفت بقيم الحرية والفردانية وحاولت العودة بالبلد إلى نقطة البداية لإنتاج دولة قوية تعبر عن الكلية الاجتماعية وتنتج خلال ذلك وطناً وشعباً بالمعنى العصري لهذه المفردات، ولكنها سرعان ما اصطدمت بتلك المجتمعات المضادة والسلطة التي ترعاها، مما اضطرها إلى اللجوء إلى العنف الأهلي للحفاظ على صلابتها وديمومتها. وقد برزت نتيجة ذلك مجموعة من الظواهر التي تهدد السلم الأهلي، ولكنها سرعان ما تعمقت إثر حياد الغرب وصلف النظام ودعم حلفائه، لتصل إلى تهديد الوحدة الوطنية برمّتها وتخلق السياقات المناسبة لانفجار أزمات كيانية في المستقبل القريب.
السردية الأولى التي تجاوبت مع هذه التحديات يمكن وصفها بالسردية السلمية، فقد رأت هذه السردية أن المسألة الوطنية أهم من مسألة الانتقال الديموقراطي، لذلك لا بد من الالتزام الكامل بسلمية أدوات التغيير الديموقراطي كي لا تُستفز السلطة ومجتمعاتها المضادة وتدخل البلاد في أتون صراع أهلي بين الفئة الساعية للحرية والتغيير الديموقراطي والسلطة ومجتمعاتها المضادة. إلا أن هذه السردية تغفل عن الطابع السلطوي لمجتمعات السلطة المضادة وفوات هذه المجتمعات تاريخياً وضرورة تفكيك بُناها وعلاقات الاجتماع التي تنظمها، بل إنها تقارب هذه المجتمعات بثقافوية ساذجة وكأن الانتماء المذهبي أو الإثني أو الديني أو العشائري قادر لوحده، ودون وجود دولة تسلطية، على نظمها على هذه الصورة الصارمة ووفقاً لتلك البنى التراتبية المفوتة والمستلِبة لذاتيات أفرادها وضمائرهم.
بل وتختصر هذه السردية الذوات الثائرة من أجل حريتها باعتبارها شكلاً آخر من أشكال المجتمعات المضادة يفترض أن تنتج وجاهاتها وأعيانها التي ستتنطع لقيادة الانتفاضة وتوجيهها والتفاوض مع وجاهات باقي المجتمعات المضادة وإعادة توزيع الحصص بعيداً عن مقولات الحرية والكرامة والفرد والمواطنة… أو ،إذ افترضنا حسن النية، افترضت هذه السردية أن مجتمعاتنا قد أتمت اندماجها الاجتماعي وهيكلت بُناها المؤسساتية، وأن مقولات الشعب والوطن والدولة مقولات ناجزة، فاشترطوا على الانتفاضة ضرورة وحدة المعارضة بحيث تتمكن من قيادة الحراك وكأن هذه الانتفاضة تسعى للحريات الجنسية لا لإعادة التاريخ إلى نقطة البداية والخروج من صندوق الاستبداد الأسود، متناقضةً بذلك مع مقدماتها التي ترى أن هشاشة هذا الكيان تعود بنا إلى ضرورة الحذر في التعاطي مع تحديات المسألة الوطنية.
مقاربات أخرى وسرديات أخرى تتجاوب مع تحديات المسألة الوطنية، ولكن عبر تجاوزها. بعض هذه السرديات لا ترى ضيراً في تقسيم هذه الكيانات وإعادة إنتاجها بالاعتماد على إرادة الحياة المشتركة وما إلى ذلك، أو اللجوء إلى الصيغ الفيدرالية. مأساة هذه السردية هي تلك المقاربة الثقافوية ذاتها، فما الذي تعنيه الفيدرالية إن طبّقت بين مجتمعات مضادّة لا بين شعوب؟ هل يمكن لهذه المجتمعات المضادة أن تحافظ على صلابتها إن انفصلت عن السلطة التي ترعاها وعن الجسد السوري الذي تعتال عليه؟ هل يمكن أن تتجاور هكذا مجتمعات مضادة مع بعضها في دول أو أقاليم وأن ترسي علاقات ندية وودية مع جوارها؟
بطيب نية تحاول هذه السردية الوفاء لقيم كحق الشعوب في تقرير مصيرها والتمتع بالجرأة الأدبية والحيوية الفكرية والحياد العلماني النقدي، وغيرها من الخصائص التي تميز العقل الكوني، دون أن تعي أن زيف حدودنا وهشاشة أوطاننا تنتمي إلى التاريخ المعاصر، الكوني، والذي دخلناه منذ دخل نابليون إلى مصر، دون إذننا، ولا يمكن أن نعود إلى تلك العصور التي كنا نعيش فيها كقبائل، أو لنسمّها أقاليم فيدرالية، تشبه في بناها مجتمعات سورية المضادة، متجاورة ومنفصلة تغزو بعضها وتعتاش على عائدات هكذا غزوات،
سردية ثالثة، هي الأكثر اتساقاً والأكثر انفصاماً عن الواقع، ترى هذه السردية أن من ثار في سورية يمشي على طريق بلورة بنى جديدة ما بعد حداثية، بنى تسقط فيها الحاجة إلى مقولات الوطن والشعب والدولة، وتبدو فيها المسألة الوطنية مجرد مسألة وهمية يقودنا إليها «سلطويون بؤساء» يحاولون عبر طرحها أن يعرقلوا مسيرة «مهمشي سورية» نحو استعادةٍ ما بعد حداثية لمقولات البلد والناس وغيرها من المقولات والمفاهيم والقوالب الفوضوية وبلورة تلك البنى.
وما يثير السخرية أن هذا النسق الذي يدعي تمردَه وفرادتَه يشكل أحد أعمق أشكال الاستلاب الذي تطرحه مسألة الهوية–الماهية والجرح النرجسي أمام الآخر الغربي، فهي في عمقها واحدة من منتجات ثقافة الفرجة و«منظومة الأندرجراوند»، تحاول اكتساب شرعيتها الفكرية من خلال التبني الساذج لأنساق فكرية تدعي تجاوزها للحداثة، في الوقت الذي تشكل فيه واحدة من مفرزات هذه الحداثة في سياق تعميق آدابها الليبرالية عبر الدفاع عن حقوق الأقليات «السياسية والثقافية» ولكن نسختها المشوهة والمبتذلة في سياق الانتفاضة السورية لا تفعل سوى التهليل للمجتمعات المضادة التي أنتجتها الانتفاضة.
تبدو هذه السردية أقرب إلى السرديات الأصولية من حيث اتساقها المنطقي وفصامها البالغ وانكارها للتاريخ وارادويتها التي يشحذها وتر نفساني أكثر مما يتطلبها مشروع مجتمعي، وكما تعيش الجماعات الأصولية على هامش التاريخ والجغرافيا، تسعد هذه السردية بالإقامة على هامش الثقافة، تنتج يخضورها من أضواء الإعلام وبحثه الدائم عن الإثارة والعوالم الغرائبية.
لم نحظ بفرصة التطور التاريخي الخطي، ولن نحظى بذلك على الأغلب، فلا يمكن لنا أن نسلك طريق الحداثة الغربية الكلاسيكي، وسيكون للانتقال الديموقراطي في مجتمعاتنا أسئلته الخاصة والمحرجة والمعلقة، وسيبقى للغرب اليد الطولى في نظم ايقاع حداثتنا ومآزقها ما لم نحظ باختراق تاريخي ما، وستبقى المسألة الوطنية عرضة لاختراقات خارجية وتعفنات جوانية قد يخفف من وطأتها تلك الجهود الجادّة والمسؤولة التي يدفعها انتماؤها للناس والبلد إلى اجتراح صيغ ومفاهيم تفاعلية تسمح بالمزيد من العدالة والحرية والمساواة، وتتطلب فيما تتطلبه تطويراً وارتكازاً على مفاهيم ومقولات الأمة والدولة والشعب والمنظومات «السلطوية» التي تنظمها.