يبدو أن العملية الديمقراطية في الغرب تسير ضد الضربة العسكرية التي تم التلويح بها، بدأ ذلك بتصويت مجلس العموم البريطاني ضد مشروع القرار الحكومي، وسارت المناقشات في الجمعية الوطنية الفرنسية ضدها، وفي حين احتفظت الرئاسة الفرنسية بحقها في القرار ولم تطلب تصويت الجمعية، الذي كان سيحصل ضده غالباً، تخلى الرئيس الأمريكي عن صلاحياته وطالب الكونغرس بالتصويت على القرار، الأمر الذي فتح الباب على مصراعيه لنقاش ربما يؤدي إلى إلى إيقاف الضربة. وفي ذلك لا يبدو أوباما لاعباً ديمقراطياً فقط، بل إنه يستجيب لاستراتجيته السياسية وللبرنامج الذي تقدم به إلى الرئاسة منذ دورته الأولى.

واضح إذن أن شعوب الغرب ملّت من الحروب والتدخل العسكري، خصوصاً في بلادنا. وهناك قناعة سائدة بأن تدخلات الغرب في العراق وليبيا سارت لخدمة المعسكر الإيراني والسلفية الإسلامية. لذا لم يعد الغرب ومجتمعه المدني، الموجِّه القوي لسياساته، مستعداً للتضحية بجنوده ومواطنيه في سبيل تغييرات غير مضمونة، وقد برهنت الخبرات الأخيرة على عكسها وسلبيتها تجاهه. من هنا كان اكتفاؤه بالقيام بالقصف والتدخل الجوي خلال الثورة الليبية، في الوقت الذي كان البترول ودوله العربية يقوم بكفالة باقي التكاليف والمصالح.

إذا سارت الأمور على هذا النحو وتراجع الغرب عن ضربته – التي لم تطرح لحماية السوريين ولنصرة الثورة السورية أصلاً، فذلك لم يحصل طوال أكثر من سنتين ونصف، وبعد أكثر من 100 ألف ضحية ومئات ألوف المعتقلين والجرحى والمعوقين وحوالي مليوني لاجئ إلى الخارج وملايين النازحين في الداخل، وأكبر كارثة إنسانية مفتوحة في هذا العصر وفق مراجع الأمم المتحدة… إذا سارت الأمور على هذا النحو فعلاً، وتراجعت الضربة التي أُعدت أصلاً لحماية أصدقاء أمريكا وحلفائها ومصالحهم وهيبتهم، فماذا يعني ذلك؟

إنه يعني، ببساطة، انفلات حلف النظام الإيراني الروسي من أي عقال، واستشراسه لا في سوريا وحسب، فلم يعد هناك أفظع مما ارتكبه فيها حتى اليوم، بل انفلاته في المنطقة العربية والعالم أيضاً، وهذا هو السبب الحقيقي لمشروع الضربة. إنه يعني موت القانون الدولي وخطوطه الحمراء كلها، ليس على استخدام السلاح الكيماوي فقط، بل على كل تدخل وانفلات آخر، لتجارة السلاح الروسية وعملائها، ولدولة ولي الفقيه وتعصبها الشيعي الفارسي أولاً وأخيراً أيضاً.

كل هذا يعني، أيضاً، أنه إذا كان جائزاً التراجع عن الضربة، فمن غير الجائز التراجع عن أهدافها، لا من وجهة نظر المصالح الغربية والقانون الدولي فقط، بل من وجهة نظر الثورة السورية ومصالح شعبنا ودول المنطقة أيضاً. لذا يبدو أن من المفترض التوجه لبناء استراتيجية احتياطية وبديلة، استراتيجية أخرى متكاملة، بديلاً عن هذا التخبط المستمر، في انتظار ضربة تخلّصنا وتخلّص المنطقة من شر النظام السوري. أي إن المطلوب استراتيجية تحتوي الضربة إن حدثت، وتحقق أهدافها وأهداف ثورة الشعب السوري إن لم تحدث.

هذه الاستراتيجية تتطلب السعي إلى تحقيق مجموعة من الأهداف المتكاملة، بدءاً من ضرب المفاصل الرئيسة لقدرات النظام العسكرية، وخصوصاً منها القادرة على استخدام الأسلحة الكيماوية والصواريخ والقنابل المدمرة، ووضع مخزوناته من الأسلحة الكيماوية تحت رقابة دولية، وتشديد الحصار على تزويده بالأسلحة الأخرى، وربما وصولاً إلى فرض حظر جوي على طيرانه العسكري، وفرض مناطق آمنة لحماية المدنيين، وتزويد قيادة الجيش الحر بالأسلحة النوعية القادرة على ردع طيرانه ومدرعاته وصواريخه. فإذا لم تعد الحرب مقبولة، لأسباب مفهومة، فإن من غير المقبول عدم الرد على انفلات النظام السوري، بخاصة بعد جريمة الكيماوي المعلنة، وهذا ما أصبح أقرب للإمكان رغم أنه كان يبدو بعيد المنال قبل فترة.

لكن ذلك يفرض المسؤولية الأولى على قوى الثورة والمعارضة السورية، بما فيها المجموعات المختلفة للجيش الحر والائتلاف وغيره، فعليها العبء الأكبر، لا في مطالبة الآخرين بمساعدتنا على تحقيق الأهداف السابقة فحسب، أي في تحويل العقاب الذي يستحقه النظام السوري إلى استراتيجية متكاملة لتغييره، بل في إعادة النظر المخلصة والحاسمة في صفوفنا وقوانا العسكرية والسياسية معاً، بما يستحق الارتفاع إلى مستوى تضحيات شعبنا وصورة ثورتنا، التي لا بد من الاعتراف بالتشويه الكبير الذي لحقها، والذي علينا وحده تقع مسؤولية إزالته واستعادة صورتها النبيلة الأولى.