المناضلون لأجل السلام مهما كان الثمن –حتى مع الدول المارقة– يستشهدون دائماً بكتاب كانط «السلام الأبدي». إلا أن الكانطيين ضيقي الأفق مثل يورجن تودِنهوفر يخطئون.
على مدى عقود، اعتُبرت الفلسفة علماً للبعيدين عن الواقع ومرادفاً للجدال اللانهائي واللامُجدي عن كل شيء ولا شيء. وبدا أن ممثليه قبلوا صوامعهم الاختيارية مع نفحة من الرضا بالاكتفاء بالذات. ولم يسلكوا سلوكاً مخالفاً، اللهم في حالات نادرة، كما فعل البروفسور البرليني فولكَر غيرهارد خلال فترة إعادة تسليح ألمانيا في ثمانينات القرن الماضي، فيلسوفاً مجسداً لموضوع آنيّ.
مع كانط ضد جورج دبليو بوش
لقد تغير الزمن وغدت الفلسفة شأناً عصرياً. لأسباب متعددة. العامل الحاسم هو على الأرجح أن الفلاسفة قد أعادوا اكتشاف قدرات علومهم الكامنة منذ عهد أبيهم سقراط لاستخدامها في الحياة العملية. وعواقب هذا الاكتشاف تمتد من المشاركة العلنية الحيوية في المسائل المصيرية للأمة إلى تعيين فلاسفة بارزين «مستشارين فلسفيين»، في منافسة واضح مع الأطباء النفسانيين.
آخر الأدلة على ارتفاع قيمة الفلسفة جاءت من تخصيص وسائل الإعلام سنة 2004 «سنة كانط». ومن جديد كان الدور الاستثنائي لمجلة « دير شبيغل» التي بدأت السنة الجديدة بـ«مقالة التنوير»، تقديرا مفصلا على شرف كانط. إلا أن المادة لم تتوقف على «المفكر العظيم»، الذي لا يصلح أن يكون «سوبرستار» برأي الكتاب أيضاً.
خطأ تودنهوفر
فقد كان أحد أهدافها جعل كانط شاهدا رئيسيا ضد جورج دبليو بوش. فالمشاركون في المظاهرات الألمانية الحاشدة ضد الحرب على العراق كان لها، حسب المجلة، اقتباس «شعارات سهلة – وبذلك أفضل الحجج من كتاب كانط». فقد نص كانط في كتابه «السلام الأبدي» (1795) بكل بساطة ووضوح على أن «من اعتدى على دولة، مهما كانت الأسباب، يهدد استقلال كافة الدول، وهذا الحق يعلو كل حق جزئي ممكن في العدوان».
مع استخدام الحكومة السورية للأسلحة الكيميائية، والجدل الناشئ في احتمال استعمال القوة ضد نظام الأسد، استعادت مسألة كانط المزعومة عن الحظر الشامل للتدخل آنيتَها وحيويتَها. وقد بادر إلى هذا الجدل السيد يورغن تودِنهوفَر، السياسي المحترف والعضو السابق في الحزب الديمقراطي المسيحي. في مقابلة مع صحيفة «شتيرن» الألمانية بتاريخ 29 آب أغسطس، حيث يتضح بشكل صارخ تضامن تودِنهوفَر مع النظام السوري، يقول: «لقد برهن كانط في كتابه ’السلام الأبدي‘ بشكل مقنِع على أن عدم التدخل هو الشرط الرئيسي للسلم العالمي. كما أن هيلموت شميدت يفكر على هذا النمط. القصف بالنسبة للسلام، مثل الجماع بالنسبة للعذرية».
أكبر مفسري كانط أذكى الجميع
إلا أن تودِنهوفَر مخطئ – مثله تماماً مثل هواة الفلسفة في مجلة «دير شبيغل» الذين قضوا عام 2004 بصلاحية حظر التدخل لدى كانط لكل الأزمان وفي كل الشروط. يدل على هذا ذاك التناقض المنشور في مجلة «ميركور». ففي عدد تموز يوليو 2003، كان الفيلسوف المقتبس أعلاه، فولكَر غيرهارد، الذي برهن على أنه أفضل من شغل نفسه بالمادة من خلال دراسته الشاملة عن «السلام الأبدي» لكانط، قد أشار إلى أن السلم لا تؤمنه إلا الديمقراطية.
وفق كانط لا يدوم السلام القانوني الظاهري إلا إذا ضمَنَته الظروف الداخلية السائدة لدولة القانون. بناء عليه، يؤدي هذا المفهوم لفلسفة كانط، الذي يسميه غيرهارد في موضع آخر «محور السلام الأبدي»، منطقياً إلى إضفاء الشرعية على إزالة الدول المارقة. يقول غيرهارد: «الطغاة يفرِّطون بسيادة بلادهم… إذا قبلنا فرضية أن الدول القائمة على أسس قانونية وحدها قادرة على إحلال السلام، فإن حظر التدخل الذي يدعو إليه كانط باطل». أي أن الحظر لا يسري على «دولة اللاقانون».
هذا التفسير الذي يحظر التدخل بين الديمقراطيات القائمة على أسس قانونية فقط، يجد له مكاناً في الجزء المتعلق بالقانون الدولي من «فلسفة الحق» الكانطية. في هذا المؤلف، المنشور بعد سنتين من مشروع «السلام الأبدي»، يعمل كانط بكل وضوح على «الحالة الطبيعية للدول». ففي البند 60 نقرأ: «لا حدود لحق دولة ضد عدو ظالم (ذلك حسب الكيفية، لا الكمية، أي حسب الدرجة) أي لا يحق للدولة المظلومة استخدام كافة الوسائل، إلا أنه من حقها الاستفادة من الوسائل المتاحة لحدٍّ يضمن حق وجودها، حسب قدراتها».
كانط داعية للحرب على الدول المارقة
إذن كانط يحدد عدواً ظالماً، وبالتالي حرباً عادلة. لكن من هو العدو الظالم؟ إنه «من تشي إرادته المعلنة (سواء قولاً أو فعلاً) بغاية بعيدة (إذا صارت قاعدة عامة) لا تنحو للسلم بين الشعوب، إنما تخَلِّد الحالة الطبيعية.». يكاد تعريف كانط هذا يتوافق مع تعبيرات الفلسفة السياسية الكلاسيكية عن «الدول المارقة». وعليه استنتجت كاتيا شتوبِنبرينك، التي تابعت النقاش عن كانط وحظر التدخل في عدد كانون الثاني يناير 2004 من مجلة «ميركور»: «إنه يميل إلى الدعوة للحرب على الدول المارقة».
بالطبع خلخل هذا الجزء من فلسفة الحق الكانطية أذهان الفلاسفة. فلا يحتمل ولا يجوز وجود فكرة حرب عادلة لدى كانط. هابرماس يشخص تضاداً لدى كانط. كارل شميدت في كتابه «المساواة الأرضية» ندّد بـ«عقلية الحملات الصليبية» لدى كانط. أغلب مفسري كانط يشتغلون اليوم على مشروع «السلام الأبدي» ويتجاهلون «العدو الظالم».
أما حيث يعتبَر الأخير منحطاً فكرياً وخيار كانط في «الحرب العادلة» مقبولاً، فيُتَغَلَّب على الإشكالية بالتأويل. وتقارَن «الواقعية السياسية» للوقت الراهن مع «الحجة الشرعية واسعة النطاق» لدى كانط. فيجب وضع «قيود عقلانية وأخلاقية صارمة» على «وصاية التدخل لصون حقوق الإنسان». وهنا توضع جبال من الشروط عقبات وكداء أمام البدء بـ«الحرب العادلة». شروط مسبقة، لم يضعها كانط، بيد أنها من روحه حسب زعمهم. شروط مسبقة، تسمح نظرياً بـ«الحرب العادلة»، إلا أنها مجملاً بعيدة تماماً عن التنفيذ في هذا العالم.
خطيئة جماعة الفلاسفة الألمان اليوم
سيتضح من الحرب على الإرهاب، التي وافقت عليها الأمم المتحدة وأيدها الرأي العام العالمي بأسره، إلى أين يمكن أن يؤدي منطق القسم الأعظم من جماعة الفلاسفة الألمان السياسيين، عندما يرون في تلك الحرب خلافاً لفكر كانط. أما من يعلم مدى ورع كانط في التعامل مع الطغاة، فسيعلم حق العلم أنه ما كان سيبجّل الإرهابيين الذي سحقوا حرفياً ثلاثة آلاف مدني أمريكي دون أدنى تحذير، كما حدث في الحادي عشر من أيلول سبتمبر مثلاً.
ورغم هذا، فإن مقبولية الحرب ضد دولة مارقة ليست نهائية المعتقدات الكانطية في القانون الدولي. ففي البند 56 من «فلسفة الحق»، يشرح كانط الشروط الدقيقة لممارسة «الحق في الحرب». أولاً عندما يستخدم العدو العنف. «علاوة على الانتهاك العملي (أول عدوان …) يأتي التهديد. وهذا يشمل إما التسلح مسبقاً، وعليه يُبنى حق الدفاع المسبق، أو مجرد تضخم قوة دولة أخرى تضخماً رهيباً (بالتوسع). وهذا ضرر بالضعيف لمجرد الوضع القاهر للقوي، وفي الحالة الطبيعية يكون هذا الهجوم قانونياً. عليه إذن يُبنى حق التوازن بين جميع الدول المتلامسة فعلياً».
كانط يؤيد حتى الحرب الوقائية
لذا ليعمل كل من شاء ما شاء. وفقاً لكانط، يجوز حتى شنّ حرب وقائية ضد الدول المارقة – إذا استوفيت الشروط.
لكن لنعد إلى نقطة البداية. إن زعم تودِنهوفر بوجود حظر حرب شامل، صالح لكل زمان ومكان، زعم خاطئ. إلا أن تودِنهوفر ليست وحيداً في زاوية رؤيته للأشياء. فما زال هناك فلاسفة قليلون (يقلون أكثر مع الزمن) من المتسيسين والراغبين في سماع الهتافات والتصفيق، ينتصرون بـ«سياسة السلم» على كانط بالتوافه، ويحثّون الخطى لتكييفه مع روح العصر. إلا أن تأويلهم السطحي لكانط ليس مدفوعاً بدوافع السياسة اليومية وحسب، بل إنه يضلل الجمهور في نقطة رئيسية.
لم يكن كانط داعية سلام. التركيز المستميت على شرط «السلام الأبدي» والمبالغة البشعة نوعاً ما بصدد الأمم المتحدة، وبينها 191 دولة عضو لا تتمتع بالشرعية الديمقراطية، يشوِّهان صورة المتجادلين عن «الحالة الطبيعية» لزمننا الراهن – والمستقبل أيضاً. «السلام الأبدي» (آخر أهداف كل القانون الدولي) هو «فكرة غير قابلة للتطبيق»، كما يقول كانط ذاته في فلسفة الحق.
كان الاستبداد أبغض إليه من الحرب
في «المقالة السرية عن السلام الأبدي» يطالب كانط: «يجب على الدول التي تتسلح للحرب أن تأخذ ثوابت الفلاسفة عن شروط احتمالات السلم العام بعين الاعتبار». إذا استحضرنا الجدل حول بيان كانط للسلام، تطرأ شكوك عميقة بإمكانية أخذ الجيل الراهن من الفلاسفة، بصرف النظر عن استثناءات نادرة، بعين الاعتبار.
بالطبع يحق لكل أستاذ فلسفة اعتبار التكليف الأممي بالحرب على الإرهاب خطأً. ومن البديهي أن يكون لكل سياسي ضالّ
اعتبار التدخل في سوريا غير حكيم أو حتى غير متوافق مع القانون الدولي. إلا أن الاستشهاد بكانط هنا إهانة.
«الاستبداد أبغض إلي من الحرب»، يقول الفيلسوف الفرنسي آندريه غلوكسمان على لسان كانط، في حوار خيالي، آخذاً المقولة جوهراً لفكره. أما خلاف هذه المقولة فمحتمل فقط حين تُهمَل أجزاء محورية من أفكار كانط أو تُؤوّل «تأويلاً عصرياً» يحيل عبارات كانط الدقيقة في أصلها إلى نقيضها. لم يعد في وسع كانط الدفاع عن نفسه. للأسف.