«يُشهر» بشار الجعفري، مبتهجاً على الأغلب، الورقة التي تعلن انضمام «الجمهوريّة العربيّة السوريّة» إلى معاهدة حظر الأسلحة الكيماويّة. يُرجَّح ألاّ يقتصر مصدر الابتهاج المفترض لدى مندوب النظام السوري في المنظمة الأمميّة على النتيجة المباشرة لتوقيع المعاهدة والمتمّثلة بتفادي ضربة عسكريّة بانت أنّها وشيكة ضد قوات بشار الأسد. يكتمل مصدر الابتهاج بإعادة النظام السوري، بعد توقيعه على المعاهدة بصفته الجهة «الحكوميّة» ذات «السيادة»، كعضو «كامل العضويّة» في المنظومة المهيمنة عالميّاً المسماة «المجتمع الدولي».

اعتادت «ورقة الجعفري» إلى بشار الأسد الشيء الكثير من الشرعيّة، كرئيس دوّلة بعد أن أصبح أمير حرب، وكلاعب إقليمي أساسي بعد أن حوّلته جرائم الإبادة الجماعيّة الموصوفة في تقارير المنظمات العالميّة المختصة إلى مجرم حرب لا أكثر.

بعد هذا التعويم السياسي الدولي لنظام الأسد، يغدو التساؤل عن مصير مجمل العقوبات التي فرضها «المجتمع الدوّلي» على بعض رموز النظام وهيئاته، ردّاً على تلك الجرائم، مشروعاً ومبرراً. علماً أنّ الحديث عن تأثيرها وفعاليّتها لم يكن مهمّاً ولا ضروريّاً طالما أنّ عدّاد الموت السوري لم «يأخذ نَفَساً واحداً» منذ عامين ونصف.

أخرجت المنظومة العالميّة مجرم الحرب السوري من النافذة لتعيد إدخاله من الباب عبر ما سُميّ «المبادرة» الروسيّة. جاء ذلك بعد أسابيع فقط من ارتكابه لأوّل جري مة إبادة جماعيّة في القرن الواحد والعشرين.

ليس الدهاء السياسي هو ما يقف وراء «المبادرة» التي سيتخلى بشار الأسد بموجبها عن سلاحه الكيماوي في مقابل إعفائه من المحاسبة وإفلاته من العقاب جرّاء استخدامه لهذا السلاح في الواحد والعشرين من آب وقتله لما يقارب الألف وثلاثمائة سوري بينهم أطفال ونساء. ما يقف وراء «المبادرة» هو، ببساطة، مزيج الخسّة والنذالة والصفاقة لمجمل «النخب» «السياسيّة» المعاديّة، بوضوح، لطموحات الشعب السوري في ثورته على نظام الإبادة الجماعيّة، والتي لا ترى في «ما يجري في سوريا كفاحاً من أجل بسط الديمقراطية».

على العموم، لا تحتاج الخسّة والنذالة إلى دهاء خاص.

المبادرة الروسيّة التي قيل أّنّها أنقذت الجميع لم تنقذ شيئاً بالفعل. ليس تماماً. فهي قد تنقذ نخباً حاكمة، مع مصالحها، و«ربما» مصالح شعوب البعض منها، ولكن على المدى القصير وربما القصير جداً.

ضحّت «المبادرة» الروسيّة بما هو أكبر بكثير من تلك المصالح. لا يدور الحديث هنا عن التضحيّة أو عدم إقامة الاعتبار لحياة مئات الألوف من ضحايا النظام السوري. ولكن أوّلاً، وقبل كلّ شيء، التضحيّة بمجمل القيم التي يتأسس وفقها إجماع بشري يقيم اعتباراً للمحاسبة والمسؤوليّة أوّلاً والعدالة والحريّة تاليّاً. وهي القيم التي يتمحور حولها، أو يجب أن يتمحور حولها، مفهومي «السياسة» و«الحرب».

«المبادرة» الروسيّة بهذا المعنى هي إجهاض وتحطيم لمعنى «السياسة»، وبالتالي لذاك الإجماع. وهذا ما يفتح الباب، الموارب أصلاً، لكل من شاء أن يصدر فعله «السياسي» أو/ و«العنفي» من خلفيات أيديولوجيات عدميّة. ليس هذا فحسب، بل إنّ «المبادرة» تمّهد جديّاً لفشل المقاومين للعدميات المتوالدة في مجرى الصراع السوري أوّلاً، وفي عالم ما بعد الحادي عشر من أيلول ثانيّاً، في تحقيق أيّة نجاحات أو اختراقات.

استخدام السلاح الكيماوي ضد الشعب السوري هو الجريّمة التي يؤدي التعاطي معها على طريقة الروس إلى تحطيم مفهوم «الحرب» أيضاً باعتبار أنّه، «بأدواته الأخرى» وفي تعيّنه الواقعي، امتداد طبيعي للسياسة؛ إذ يلجم العنف اللاشرعي ويحطمه، أو يردعه عمليّاً على الأقل، بالعنف الشرعي.

وعليه، تغدو السياسة «الصحيحة» ازاء استعمال الكيماوي من قبل الأسد هي «الحرب» ضده. كلّ شيء آخر، أقلّ من ذلك وغير ذلك، لا يمكن إلاّ أن يشكّل عاملاً إضافيّاً لتجديد الانهيار النظري لمجمل القيم التي تسعى شعوب ومنظمات وأحزاب وساسة ومثقفون وغيرهم إلى جعلها الأسس التي ينتظم وفقها إجماع بشري يسعى لأن يكون متوازناً. ولن يلبث هذا الانهيار المتجدد أن يجد من يضطلع بشأن ترجمته واقعاً.

تحطم «المبادرة» الروسيّة، من بين ما تحطمه، مفهوم الردع أيضاً. فمرحلياً ومؤقتاً، إن قَبِل عدميو الحاضر، و «عرّابهم» اليوم بشار الأسد ونظامه، بأنّ يستخدموا أسلحة محظورة دوليّاً لقاء تسليم ما تبقى منها لديهم، فإن عدميو المستقبل، وهم تنظيمات دون دولتيّة في الغالب، لن يقبلوا أن يدفعوا مثل هذا الثمن. فالغايات «السماويّة» لهؤلاء تفترق عن الغايات «الأرضيّة» للطغمة الأسديّة.

أمام التهديد الذي تنطوي عليه «المبادرة» الروسيّة بتطويب بشار الأسد شبيحاً عالميّاً أو «أزعر» العالم، الذي لا يُسأل عن أفعاله ولا يُحاسب عليها، وهي أفعال من مستوى جرائم ضد الإنسانيّة، يمكن «المجتمع الدولي» أن ينتهز فرصة لتحويل استعمال القوّة إلى فعل نبيل، على نقيض السمعة الشائعة له، إذ يكون منضبطاً بالغاية السياسيّة الأسمى: الدفاع عن حق البشر في الحياة.

لا يتعلّق الأمر إذاً برد الفعل، السلبي حتى الآن، لمنظومة الهيمنة العالميّة على توّرط «منبوذها» السابق، باستخدام سلاح كيماوي ضد محكوميه، بل في مؤدى رد الفعل هذا، وما يمكن أن يثيره من نزعات كامنة لدى عموم «الضحايا» قد تبدأ بالإلحاد بقيم المسؤوليّة والمحاسبة وتنتهي بتسخيف وتبخيس قيمة الحياة الإنسانيّة للفرد وللجماعة. فآخر ما يحتاجه عالم اليوم، وهو ما لم يحتجه يوماً: «مجانين» جدد، انتحاريون جدد.

«إذا لم يكن الله موجوداً فكل شيء مباح»، وإذا لم تنهض السياسة الدوليّة على شيء من الإحساس بالمسؤوليّة تجاه قيم كالعدل والقصاص فكل شيء مباح أيضاً وليس ثمّة سبيلاً إلى مواجهته.