كوكبة من الكتاب والمثقفين السوريين، كان انهمامهم اليومي بالثورة السورية لدرجة الاندماج، لكن مع الاحتفاظ للعقل بمسافته النقدية، وهذا أيضاً ما يميزهم ربما، أكثر من الاندماج بلحظة حلم طال انتظارها كثيراً بالنسبة لهم. هذه الكوكبة طرحت عليها سؤالاً: ماذا عنت لك الثورة إنسانياً، وما الذي غيرته فيك؟
كنت أنوي الكتابة عن هذه الأجوبة، محاولاً اشتقاق معاني جديدة، لكنني وجدت أن أؤجل لحظة الكتابة هذه، وأترك للقراء أن يجدوا المعنى الذي يرونه من كل إجابة لهؤلاء الأصدقاء. لكل هؤلاء جميعاً أقدم هذه المادة طازجة كما هي، مرتبة أسماؤها أبجدياً.. وأدناه اختياراتي لأسطر من نصوصهم، تحاكيني لأنها اختياراتي، انتقيتها وانتقتني ربما.
هنا أحسست بأن انتظاري لم يذهب سدىً، وأن باب الحرية انفتح ولن يغلق إلا بعد رحيل الاستبداد (فلورانس غزلان). مع الثورة حسمت خياراتي ومواقفي التي ما عادت تحت الاختبار (غالية قباني). كشفت لي الثورة عيوبي، نقاط ضعفي، وبؤر الظلام بلاوعيي، وجعلتني أكثر جرأة بالتعبير عما أريد وأكثر وضوحاً وأكثر شفافية وعلانية (رشا عمران). أعادتني الثورة إلى نفسي كسوري يحقّ له أن يقول: هذا شعبنا وهذا تاريخه (فرج بيرقدار). أعادت الثورة الاعتبار إلى سنوات أمضيتها في سجون النظام، مع عشرات الآلاف غيري (بكر صدقي). هي رحلة اكتشاف واستكشاف مستمرة، فالزمن الكثيف الذي نعيشه نزع تلك الغلالة الموهومة من اليقين (عمر قدور). إنها ثورة على المنظومة الأخلاقية الفكرية الاجتماعية الإنسانية الدينية التي تجذرت في أعماقنا فأسست لمثل هذا الارتكاس الحضاري الذي كنا نعانيه (نوال السباعي). سوريا وشعبها هم من سيصعد الجلجلة ويحمل صليب الحرية بدم غالٍ وتضحية لا مثيل لها (هيثم حقي). تبدو لي الثورة السورية تحرشاً بالمستحيل، تحدياً مأساوياً للقدر (ياسين الحاج صالح).
الباحث بكر صدقي
حين انتقلت الثورة من تونس إلى مصر، انتعش الأمل بحدوث شيء مماثل في سوريا. وإذ وصلت الموجة إلى قلب دمشق، استيقظ الخوف أيضاً ليعكر صفاء الأمل. فنحن نعرف، منذ عقود، مدى وحشية النظام واستثنائيته بالقياس إلى الدكتاتوريات العربية الأخرى. نعرف أنه سيدافع عما يعتبره مُلكه العائلي بكل ما يملك من شراسة وأدوات قذرة.
غير أن الشعب فاجأنا بسرعة استجابته واتساع حركته الثورية السلمية باطراد على امتداد الأراضي السورية، كما بشعاراته الوطنية ومطالبه التي عكست توقه إلى الحرية والكرامة . وهكذا غيرت الثورة نظرتي إلى الشعب الذي استعاد أصالته وشجاعته بعد قمع مديد تربت في ظله أجيال من السوريين.
أعادت الثورة الاعتبار إلى سنوات أمضيتها في سجون النظام، مع عشرات الآلاف غيري، فقالت لي ولنا إن ما راكمناه على مدى عقود لم يذهب سدى. لا أعني المعارضة السورية تماماً، بل كل صوت حرّ وقف بطريقة أو بأخرى في وجه الخراب الحاكم. فالمعارضة هذه فشلت فشلاً فاضحاً، للأسف، في مواكبة ثورة الشعب، أطراً تنظيمية أو تياراتٍ إيديولوجية أو أفراداً، في زمن كانت الثورة بأمس الحاجة إلى مظلة سياسية تمثلها وتقود خطاها وتساعدها في إنجاز مهماتها.
على المستوى الشخصي، لم أكد أقدم شيئاً يذكر لهذه الثورة العظيمة. اكتفيت ببعض المواكبة الفكرية من خلال مقالات نشرتها في الصحف، قدمت فيها ما اعتقدت بأنه صحيح. وفي بداية الثورة أجبت على اتصالات من محطات تلفزيون بما اعتقدت أنه مساهمة الحد الأدنى لنقل صورة صحيحة عن الثورة، في مواجهة ماكينة الكذب الإعلامية للنظام.
اضطررت، بسبب ذلك، للتخفي الاحترازي. وحين وصل الصراع العسكري إلى الحي الذي أسكنه في حلب، وبدأ شبيحة النظام بتصفية المعارضين في الحي، هربت إلى تركيا في مطلع العام 2013.
الشاعرة رشا عمران
كانت الثورة السورية هي الاختبار الأكبر مع نفسي لاختبار نفسي واختبار ما أنا عليه فعلاً. أقصد: هل أنا هي أنا التي كنت أدعيها؟ هل أنا خارجة حقيقةً عن انتماءاتي الضيقة والصغيرة؟ هل خيارات حياتي هي جزء من تراكم معرفتي خلال السنوات الطويلة الماضية، أم هي نتيجة طبيعية للبيئة التي أنتمي لها؟ وضعتني الثورة منذ بداياتها أمام هذه الأسئلة، وتركتني أراقب نفسي لأعرف الاجابات، وساعدتني على التخلص من الادعاءات التي كتت أدعيها دون أن يكون لها أساس قوي في داخلي. كشفت لي الثورة عيوبي، نقاط ضعفي، وبؤر الظلام بلاوعيي، وجعلتني أكثر جرأة بالتعبير عما أريد وأكثر وضوحاً وأكثر شفافية وعلانية. ساعدتني على الخلاص من شيء مهم أساسي: الأسرار التي تتكون بسبب الخوف من رأي الآخرين. لم يعد يعني كثيراً رأي الآخرين. المهم أن تكون واضحاً وصادقاً، وليفكر بك الآخرون كما يشاؤون.
الكاتب والروائي عمر قدور
يبدو لي أن الزمن الذي سبق الثورة، والذي استهلك الشطر الأكبر من حياتي، قصياً إلى درجة غير متوقعة، كأنني من حيث لم أنتبه قطعت مسافة طويلة جداً، ومن الغريب فوق ذلك ألا توجد رغبة في الالتفات أو الحنين إلى الخلف. بوسعي القول بأنني، كالكثيرين، مدين للثورة بالتخلص من الإحساس بالسلبية واللاجدوى، وما يرافق هذا الإحساس من انغلاق وعدم ثقة بالقدرة على التغيير. كمشتغل في حقل الثقافة، كانت قناعتي العميقة بأن الأواصر مقطوعة نهائياً بين المثقف والمجتمع الذي نزعم الانتماء إليه، وستبقى هكذا. لم يعد ذلك ممكناً مع الإحساس الصادم والمؤلم والكثيف بالانتماء إلى الآخرين الذين يجري اكتشافهم يومياً، لم يعد الآخر فكرة فحسب، وهنا لا بد من الإشارة أيضاً إلى الذين قدموا لنا فجيعة انتمائهم إلى القتلة؛ أولئك الذين كنا نحسب أنهم منا.
هي رحلة اكتشاف واستكشاف مستمرة، فالزمن الكثيف الذي نعيشه نزع تلك الغلالة الموهومة من اليقين، وفي المقدمة منها الزعم بمعرفة الذات. ومع أنني لم أكن يوماً من أنصار الاستقرار، إلا أن العيش المستمر ضمن ظروف متبدلة وقلقة، هو بمثابة امتحان يومي على الصمود، امتحان يتطلب شجاعة القدرة على الخسارة أيضاً، ويتطلب أحياناً رهافة الأحاسيس وصلابتها معاً، يتطلب العيش في زخم من التناقضات اليومية بين التطلع إلى المستقبل وفقدان مقومات العيش البسيطة. بهذا المعنى لا يدري الواحد منا إن كان قد تغير فعلاً، أو أنه لم يكن يعرف نفسه جيداً من قبل.
الكاتبة غالية قباني
لطالما كنت أنا وأصدقائي نرثي مجتمعاتنا والخراب الذي يعشش فيها، ونعتقد أن الاصلاح والتغيير «لن يكون على زماننا». وعندما بدأت الثورة في سوريا على يد أطفال درعا، أدركنا أنا وأصدقائي، في اعتراف متبادل لاحقاً، أننا تشاركنا الدهشة أمام ما حدث «على زماننا».
أعيش بعيداً عن سوريا منذ سنوات طويلة، بسبب إيقاع لم أتمكن من مسايرته في الحياة اليومية والعلاقات مع مؤسسات فاسدة ومع عدد متزايد من البشر أقلموا أنفسهم مع الفساد والانحطاط الأخلاقي، وشرعنوه بطريقة باتت لا تتناقض مع أخلاق ولا تديّن، فقد أصبح الفساد بكل صوره أسلوب حياة. وما عاد كثيرون يأبهون بمن يُعتقل أو يعذَّب أو يختفي، لأنهم هم أنفسهم يدارون خوفهم في تجاهل ما يحدث. وفي كل زيارة كنت أرى كيف ينهار القانون لصالح الأمن ورجاله وتتحول كرامة الناس بفعل الخوف إلى أدنى مستوياتها، حتى فقدت الأمل بأن شعبي سيستعيد كرامته… لكنه فعل.
لم يتغيروا هم فقط… أنا أيضاً تغيرت. لم أعد تلك الإنسانة نفسها قبل أذار 2011. كأني استعدت خلاصة شخصيتي بعد أن تضاربت فيها الميول والرغبات والأفكار والمشاعر. مع الثورة حسمت خياراتي ومواقفي التي ما عادت تحت الاختبار.
لقد كشفت الأحداث عن معدني، كما فعلت مع غالبية السوريين. حُسم الأمر وما عاد هناك من سبب لتبقى تلك المعادن مختبئة تحت غبار الأتربة.
شاعر السجن فرج بيرقدار
أن يضطر شعب إلى ثورة على طاغية خرتيت ومؤصَّل ومزمِن، فذلك يعني أن الأمور قد بلغت أقصاها، ولم يعد أمام الغالبية سوى احتمال الموت بذُلّ أو الموت بكرامة. بالنسبة لي سبق واخترت احتمال الموت بكرامة، ولحسن الحظّ كُتِبَ لي أن أبقى حيّاً.
لم أكن في أي فترة من حياتي يائساً من إمكانية اندلاع الثورة في سوريا. مرافعتي أمام محكمة أمن الدولة العليا سنة 1993 تشير إلى ذلك في أكثر من مكان، ولكني أتذكّر خاتمتها التي تقول: «شكراً لأمّي، علّمتني أن الحريّة التي في داخلنا أقوى من السجون التي نحن في داخلها، ولهذا سوف تنتصر الحرية وتنهزم السجون». في الحقيقة لم أكن أتوقّع أن تأتي الثورة السورية مبكّرة إلى هذا الحدّ، ويبدو لي أن الربيع الثوري في المنطقة قد حفزها.
نعم، أعادتني الثورة إلى نفسي كسوري يحقّ له أن يقول: هذا شعبنا وهذا تاريخه. حين كان يسألني أوروبّي عن جنسيتي، كنت أقول له إني سوري، كنت أقولها بمرارة. بعد الثورة لم تتغيّر إجابتي، ولكنّ ردّة فعل مستقبِلها تغيّرت. تحوّل الشعب السوري من شعب يقتضي الشفقة، إلى شعب يفرض التعاطف والإعجاب. أعرف الحجم الباهظ للضحايا التي منحتنا إمكانية الاعتزاز بشعبنا. يحزنني ويؤلمني هذا كثيراً، وذلك لا يعني أن الحزن والألم لم يكونا موجودين وممضّين على مدى عقود قبل الثورة.
كنتُ أشعر، قبل الثورة، أني سوريّ مستفرد، وأشعر الآن أني سوري مجتمِع مع نفسه وغيره. حلم انتظرته لسنوات طويلة، وقد وصل الحلم منذ أكثر من سنتين ونصف.
السوري بني آدم جدير بالحرية والكرامة يا عالم، فافتحوا عيونكم وضمائركم.
الكاتبة فلورانس غزلان
إنسانياً، تعني أن إرادة الشعوب لا يوقفها العنف، ولا يردعها الموت، بل تدفع ثمن الحرية دون حساب، لأن وطناً عاش نصف قرن دون حقه في هواء حر ديقراطي لايمكنه أن يقفز فوق مسلّمات التاريخ الإنساني، وهو أحد صنّاعه. لا إنسانية دون حرية. مذ فتحت عيني على معنى الانتماء، رفضت واقع الاستبداد، وعشت خارج وطني منفية، أنتظر وأعمل أن يعود لسوريا ألقها ونورها الحضاري، أن تحمل سعفة الحياة باتجاه إشراقة التطور والديمقراطية… حلم كل فرد سوري، حلم إنساني عاشته شعوب الأرض، منذ سبارتاكوس الثائر على عبوديته مروراً بثورة غاندي وبمانديلا من أجل المساواة الوطنية والعرقية. فكانت طبشورة أطفال درعا كافية لتجتاح العالم وتنتفض على القهر، مسطرة أمله وحلمه في وطن حر، رادة على الأسد بتصريحه أن «سوريا ليست مصر ولا تونس»! فأي إنسانية يمكنها أن تقف أمام جرأة طفل شق درب الحرية؟ هنا أحسست بأن انتظاري لم يذهب سدىً، وأن باب الحرية انفتح ولن يغلق إلا بعد رحيل الاستبداد.
الثورة جعلت مني مواطنة انقلبت على الروتين، على السياسة الحزبية التقليدية، أجلت كل مشاريعها الشخصية، وراحت تراقب وتكتب وترفع الصوت إلى جانب عدالة قضية شعب تواق إلى حرية حُرِمَ منها عقوداً. الثورة أعادتني شابة تقفز فوق السنين، تشارك الشباب وتتظاهر، تهتف، وتأمل، موقنة أن عجلة التاريخ لا تعود للوراء، أمام شعب دفع أغلى ما يمكن أن تدفعه أمة في العصر الحديث من أجل انعتقاها وبناء وطن حر ديمقراطي.
الكاتبة نوال السباعي
هذه الثورة التي تشهدها المنطقة الناطقة بالعربية، وتتمركز معاناةً رهيبة وصموداً أسطورياً في سورية، ليست من وجهة نظري إلا «القيامة» التي كنا ننتظرها منذ عقود متطاولة، والتي ما فتئنا نناضل من أجل ولادتها زمناً.
إنها النتيجة الطبيعية لتراكم القهر والألم، وامتهان إنسانية المواطن، وتضييع الحقوق، واستلاب الحريات، وذهاب المستبدين بعيداً وبعيداً جداً في محاولاتهم تركيعَنا.
هذا «التسونامي» يمضي أفقياً، يشق الطريق نحو التغيير الحقيقي المنشود في المنطقة عامة وفي سورية خاصة، وأفقياً يقتلع أشواكنا وعفننا الاجتماعي واختلاطاتنا الفكرية ومشكلاتنا الأخلاقية.
هذه ليست مجرد ثورة على نظام سياسي استبدادي مجرم خائن يعمل في خدمة الاستعمار الشرقي أو الغربي فحسب، إنها ثورة على المنظومة الأخلاقية الفكرية الاجتماعية الإنسانية الدينية التي تجذرت في أعماقنا فأسست لمثل هذا الارتكاس الحضاري الذي كنا نعانيه.
هذه الصورة تعني بالنسبة لي قدرة الشعوب الكامنة على أن تأتي من الموت، وتمشي على الجرح، وتثبت مصمّمةً على الخلاص. ما يقوم به الشعب السوري هو أسطورة، ملحمة شعب يعاني بهذه الدرجة الرهيبة، ولكنه ‒وعلى الرغم من المعاناة‒ مصمّم على المضيً قُدماً لاقتلاع هذا النظام من وجوده.
لقد غيرت هذه الثورة نظرتي إلى الشعب السوري، وأعادت لي ثقتي بإنساننا، وثقتي بهذه المنطقة، والأمل بقدرة هذه الشعوب على التغيير، ومنحتني الرضى بأن الجهود التي بذلناها ‒كل الطبقة الثقافية والفكرية وبكل انتماءاتنا‒ وخلال أعوام طويلة لم تذهب سدىً… كان الناس يقرأون، وكانوا يتعلمون.
لقد غيرت الثورة فيَّ تلك النظرة المتشائمة عن «الإنسان» في بلادنا، لكنها في الوقت ذاته كشفت لي وللجميع حجم الجهود الهائلة المطلوبة للاستمرار في طريق التحرر والخلاص.
المخرج هيثم حقي
منذ اللحظة الأولى التي سمعت فيها صوت متظاهري درعا وهم يهتفون للحرية، ومنذ الصور الأولى للهواتف المحمولة تنقل تظاهرات السوريين وهم يرددون أهازيج الكرامة ويتمايلون وهم ينعون شهداءهم بـ«سكابا يا دموع العين سكابا»، منذ أن صاح القاشوش «سوريّا بدها حرية» وردد الآلاف النداء، منذ كل هذه اللحظات المتفجرة بالعواطف، خرجت نفسي من سكون مستنقع اللاجدوى الذي كنا نعيشه، وأحسست باقتراب ما سعينا إليه كحلم بعيد المنال خلال الأربعين عاماً التي مضت: «سوريا دولة ديموقراطية تعددية مدنية (لا دينية ولا عسكرية) بمواطنة متساوية أمام قانون يعدَّل ليصبح عادلاً، بفصل بين السلطات واستقلالية تامة للقضاء وحرية كاملة للتعبير وتشكيل الأحزاب ضمن إطار القانون العادل». ولقد تخيلت منذ اللحظة الأولى أن ضغط الهبة الشعبية سيجبر النظام على التغيير. وكنا لا نزال نعيش نشوة النجاح السريع للثورة التونسية والمصرية. لكن منذ اللحظة التي دخلت فيها الدبابات وسط حماه وحويقة ودير الزور، وراحت تطلق نيرانها على البشر والشجر والحجر رداً على التظاهرات، أيقنت أن النظام اختار بحله الأمني إحراق البلد وبقاء نظام الاستبداد. ومن يومها سالت دماء كثيرة طالت كل بيت سوري ووصلت إلى بيتنا باستشهاد سوسنتنا، وبات واضحاً أن سوريا وشعبها هم من سيصعد الجلجلة ويحمل صليب الحرية بدم غالٍ وتضحية لا مثيل لها… أنا حزين وكلّي أمل…
الكاتب ياسين الحاج صالح
تبدو لي الثورة السورية تحرشاً بالمستحيل، تحدياً مأساوياً للقدر.
للثورة تأثير متناقض عليّ. بما هي تمرين في الاستماتة، أظنها تعطينا درساً في الاستمرارية والثبات. في الوقت نفسه، أورثنا الاستمرار المديد تصلباً في النفوس وطبقات من الغضب المتراكم.
للاستماتة وجهان: وجه يطل على مواجهة الموت إصراراً على الحياة ودفاعاً عنها، ووجه يطل على الموت والاستعداد له والإلفة معه. وهما أيضاً وجها الثورة: وجهها الحيّ والمُحيي، ووجهها المدمّر والمميت. ويبدو لي أن لكل منا اليوم هذين الوجهين. أنا أيضاً بوجهين: وجه منشرح ووجه منقبض وغاضب.
لا أعرف كم تغيرتُ في الثورة. أظنني لا أزال منجرفاً في تيارها، أحاول التمسك ببعض نقاط علام. لكن حياتي تغيرت كثيراً ونهائياً. أشعر أني مقتلع، مبعد عن زوجتي أكثر الوقت، منفصل عن بيتي وكتبي، وبلا مكان، لوقت لا أعلم كم يطول.
رهاني الشخصي إكمال الثورة في المجتمع بثورة في نطاقنا، في مجال التفكير والثقافة. المساهمة في توليد معاني عامة رفيعة من هذا العناء الرهيب. الثورة السورية تستحق إكمالاً ثقافياً وأخلاقياً، يتجاوز تناقضاتها السياسية والاجتماعية، ويضفي صفة نسبية ومرحلية على هذه التناقضات، ويفتح الباب لحلها وتجاوزها. إذا استطعنا فعل شي مهم في هذا المجال ستكون الثورة قد نجحت مهما تكن محصلاتها وتعثراتها في الواقع.