مرة أخرى تخفق النخب السياسية والثقافية في استثمار الاستحقاقات التي ترافق التفاعلات الدولية مع المسألة السورية، فأغلب خطب اليوم تندرج في إطار المقاربات الأديولوجية لموضوع الضربة الأمريكية المحتملة على النظام السوري، مع الضربة أم ضدها، حتى اليوم لم نستطع أن نرسم خارطة لقوى وتوجهات المجتمع السوري لنحسم القول في من معنا ومن ضدنا، حتى اليوم تستفزنا بروباغاندا إعلام النظام وحلفائه، وكأنه نظام يحكمنا ونعارضه لا نظام يحتلنا ونحاربه، قبل سنتين كانت «الحماية الدولية» شعار تظاهرات جمعة التاسع من أيلول، ولازلنا حتى اليوم نناقش المشروعية التاريخية لهذه الحماية ومسوغاتها الأخلاقية.

والأكثر مرارة أن الكثيرين ما زالوا ينظرون إلى الضربة وكأنها جزء من سياق الصراع السوري، وكأنها رد متأخر من قبل الإدارة الأمريكية على صرخات متظاهري جمعة الحماية الدولية، في حين أن كافة التصريحات الديبلوماسية تؤكد على أن الضربة ليست إلا جزءاً من استراتيجيات الحفاظ على الأمن القومي الأمريكي، ولاستعادة الهيبة الأمريكية والحفاظ على خطوطها الحمر، وأن لا شيء يخص سوريا بذاتها ولذاتها، وأن هذه الضربة أشبه بإعلان دستوري يذكر من تجرأ على النسيان بأن أمريكا كانت ولازالت المحكمة الستورية العليا للعالم.

للمعارضة اليوم كلمة تسعى كافة وسائل الإعلام لسماعها إن كانت مفاجأة، اليوم لدينا من يستمع فلماذا لا نتكلم؟ لماذا لا نوجه رسالة للخارج ونعترض على مضمون الضربة وصيغتها وسياقها؟ لماذا لا نقدم نقداً للخطاب السياسي الأمريكي المتمحور حول الذات الأمريكية ونرفض هذا التمحور؟ ليس الكيماوي وحده سلاح تدمير شامل، بل صواريخ السكود وبراميل الموت كذلك، ولا يجب أن يعاقب الأسد لأنه استخدم الكيماوي فقط، بل يجب أن يعاقب لأنه قتل قرابة ألف وخمسمائة سوري في يوم واحد، لا يجب أن يتمحور الخطاب الأمريكي حول الذات الأمريكية فقط، بل يجب أن يكتسب بعداً كونياً لطالما ادعى امتلاكه. ولا يمكنه أن يتحلى بذلك إلا بتفعيل الدعم الدولي للمعارضة لاستكمال مأسستها وتدعيم فعاليتها وتخليصها من مأزق الدعم الأقليمي ضيق الأفق والفاقد لأي بعد استراتيجي معقول. لماذا لا نقدم مطالبنا كشركاء، ونصر على الاحتفاظ بصيغة أزلام الدول الأقليمية والغربية؟ الاعتراض على الضربة من هذا المنطلق يمكن أن يعيد البريق لقضية الثورة والماء لوجه المعارضة، ويمكن أن يمنح مقولة «الشعب السوري ما بينذل» أصداءاً عالمية.

الجزء الآخر من هذه الرسالة يمكن أن نوجهه لروسيا، على شاكلة صفعة، نسخر من حجمها الدعيّ الذي أوضحه إهمال السياسات الأمريكية للمحاذير الروسية، رسالة تسعى في الوقت نفسه إلى دعوة روسيا لاستعادة هيبتها عبر تقديم خارطة طريق واضحة وسريعة لانتقال سلمي يرعاه مجلس الأمن بحيث تحافظ روسيا على هيبتها وتتحول إلى عنصر من عناصر الحل بدلاً من تكريسها كأحد أعمدة المشكلة.

الرسالة الأساسية الثانية التي ما زالت قيد الانتظار، يجب أن يتم توجيهها إلى الداخل السوري، إلى فعاليات الثورة وتظاهراتها، إلى تلك التشكيلات التي تتفاعل مع العدم الظلامي الآخذ بالتمدد في سوريا، والتي تميل رويداً رويداً إلى الانضواء تحت رايته، هذه الفعاليات التي سعد أغلبها بالضربة واعتبرها نصراً إلهياً، يجب أن نقوم بتذكيرهم أنها ليست كذلك، هذه الضربة قد تكون فرجاً يحل بالمعادلة السورية ولكنه ليس فرجاً إلهياً، هذا ما علينا التأكيد عليه، إنها قد تكون فرجاً كونياً، فرجاً غربياً، ولأنه كذلك رفضته القوى العدمية في سوريا، ’النصرة‘ وداعش وغيرها. رفضهم هذه الضربة يؤكد على اتساق منطق هذه القوى وعدميتها الخالصة وكارثيتها على المجتمع السوري، في حين أن الضربة تعيد تذكيرنا بأن سوريا ليست جزيرة منسية وأن عليها واجبات تؤديها للآخر، الغربي، وحقوق ينبغي أن تسعى لانتزاعها، وأن شعار «يا الله مالنا غيرك يا الله» لا يمكن أن يترجم سياسياً، وأن ترجمته الوحيدة هي الرايات السود والأحزمة الناسفة والسيارات المفخخة.

عانت الثورة الكثير منذ عسكرتها، ولعل المعاناة الأكبر تكمن في تحول السياسة إلى امتداد من امتدادات الحرب، ويمكن للضربة العسكرية الأمريكية إن لاقتها النخب السياسية والثقافية في سوريا واستطاعت استثمار مفاعيلها أن تستعيد للسياسة ،حضورها وإلا فستكون ضربةً تستهدف السياسة في سوريا إلى جانب معاقل الأسد وترساناته.