المصدر

سنتان ونصف والسوريون يُسحقون بشكلٍ ممنهج. سنتان ونصف ونحن نصور السوريين وهم يُسحقون. سنتان ونصف والعالم يشاهد صورنا دون أن يرف له جفن. كيف يمكننا أن نؤمن بالإنسانية بعد هذا ؟ أو كيف لنا أن نصدق أن الإنسانية مازالت تعتبر السوريين جزءاً منها ؟

من المفترض لهذا السؤال أن يكون محسوماً. فقد حسمه فيلسوفٌ رحالة في عصر الأنوار، اتخذ لقب فولني (1757-1820)، في إشارة لاسم فولتير. عثر حينها هذا الفيلسوف على سوريا التي كانت الإنسانية فقدت أثرها منذ العصور القديمة. وأراد أن يفهم كيف أمكن لهذا البلد، مهد الحضارات، أن يسقط في النسيان أو في «البربرية». فوضع كتاباً موثقاً يظهر فيه الدور الحاسم الذي يلعبه نظام الحكم. وانتهى فولني إلى أن سورية سقطت في البربرية بسبب الاستبداد، وهذا مصيرٌ كانت فرنسا لتبتلي به إن لم تتمكن من الخروج من الاستبداد الملكي.

أصبح كتاب فولني «رحلة إلى سوريا ومصر» من الكتب الأكثر مبيعاً في أوروبا عشية الثورة الفرنسية عام 1789 حيث جاء كنداء في سبيل إنسانية جامعة تقوم على نبذ الاستبداد. قدّم الكتاب طرحاً بديلاً للفكر السائد في حينها، والذي يفترض وجود فروق طبيعية بين إنسان «الغرب» وإنسان «الشرق». وفنّد هذا النمط الفكري السائد الذي اقترن بشخصية الفيلسوف مونتسكيو ونظريته الشهيرة القائلة بأن المناخ هو الذي يحكم أفعال الإنسان وليس نظام الحكم.

ولكن لماذا، والحال هذه، يعتقد العالم أن هناك مناخاً خاصاً بـ«الشرق المعقّد» هو الذي يقتل السوريين اليوم، وليس الاستبداد الذي يضرب العفن في مجتمعهم منذ سنوات طويلة ؟ ولماذا تقتصر صورة سورية في الإعلام على أموات مجردين من  أسمائهم، أو أحياء يشهرون هويات قاتلة، أو طاغية في حلة جنتلمان يدّعي محاربة القاعدة ؟

ربما يجب علينا طرح هذه الأسئلة على فولني نفسه. لأن فيلسوفنا عاد عن قوله بالإنسانية الجامعة عبر دعمه لحملة نابليون وكليبر اللذين أرادا حمل الحضارة إلى مصر وسورية الواقعتين تحت الحكم العثماني. وكانت النتيجة أن اكتشف السوريون الأنوار عبر جيش من الغزاة ارتكب من الفظائع بقدر ما ارتكبه العثمانيون. وقد خلفت الحملة صدمة عميقة، خاصة وأنها انتهت بمقتل الجنرال الجمهوري كليبر، حيث طعنه طالب سوري.

وربما ينبغي أن نستعيد قصة ذلك الطالب. فهيكله العظمي عُرض في متحف باريس تحت مسمى «سوري متعصّب» ليمثل السوري الأول في عيون الرأي العام الذي كان قد اكتشف سورية لتوه. ولم يوجد هناك سليل واحد لفولني ليعترض على هذا التصوير الذي ينزع السمة الإنسانية عن سوريا، والذي لم ينته إلا خلال ثمانينيات القرن الماضي حين ووري الهيكل عن الأنظار.

علينا أخيراً أن نتساءل فيما لو كان «الشرق المعقد» الذي يحدثنا عنه الإعلام تعبيراً ملطّفاً لنظرية المناخ. فصفة «معقد» تشي بأن الشرق لا ينتمي إلى مجموع الإنسانية بسبب فرادة طبيعته. هذا ما يبدو عليه الأمر عند الجنرال ديغول، الذي ابتدع تعبير الشرق المعقد، وقد برر على منواله رفضه منح الاستقلال لسورية الواقعة آنذاك تحت الانتداب الفرنسي : «في الشرق، وسورية جزء منه، نحن أمام مجموعة من الأقوام، عربية على العموم، ذات مزاج مفرط، تمور وتتقلب دون توقف، مما شكل للعالم دائماً مسألة شائكة جداً».

والحال أن سورية تشكّل اليوم مسألة شائكة جداً للعالم. لكن هذه المسألة ليست جيوسياسية بقدر ما هي أخلاقية. والمسألة هي : هل بإمكاننا أن نتنكّر إلى ما لا نهاية للقيم الأساسية للإنسانية متذرعين بخرافات حول «الشرق المعقد» والمتعصبين ممن يقبضون على سكاكين بأسنانهم ؟ إن كنّا نريد حقاً أن نتنكّر لهذه القيم، فلنفعل دون ذرائع. أمّا إن أردنا خلاف ذلك، فليس لنا سوى شيءٍ واحد : أن نساعد السوريين على التخلص من طاغيتهم قبل أن يصبح الإيمان بالإنسانية ضرباً من المستحيل.