ارتفعت أصوات نخبوية قبيل وبعد الثورات الناعمة، نادت بوجوب قبول الحركات الإسلامية كجزء من المشهد السياسي العربي القطري، منطلقين من قواعد الديمقراطية التي تضمن دخول كل من يلتزم بمبادئ السياسة الحديثة وما يستلزمها من أدوات تكفل المساهمة والحضور في الشأن العام.
الثورات الناعمة في الدول العربية والتي بدأت مع تونس، أو مثلما يحب أن يسميها السواد الأعظم الرسمي والشعبي «ثورات الربيع العربي»، كانت البوابة التي سمحت لكثير من الحركات الإسلامية دخول المعترك السياسي، ونجحت في بعض الدول ومنها مصر في الوصول إلى سدة الحكم. في مصر التي سأركز عليها خلال السطور القليلة القادمة، كنموذج خاص قابل للتعميم، وصل فيها الإخوان المسلمين للحكم عبر أول انتخابات ديمقراطية لمنصب الرئاسة تشهده البلاد منذ الاستقلال والإطاحة بالملكية، ولكن هذا الحكم أسقط بعد أقل من عام من خلال حركة تمرد جماهيرية، اصطف البعض معها، بينما اصطف آخرون، على الضفة المقابلة، ضدها، بعد وسمها بأنها مجرد انقلاب عسكري صرف أطاح بحلم التحول الديمقراطي.
الديمقراطية، أيما ديمقراطية، لا تكتفي بمجرد الشكلانية أو الصورية، الديمقراطية هي بالمرتبة الأولى فعل سياسي صرف وممارسة يومية، لا تقبل الانفصام عن ثلاثية التوازن السياسي والمجتمعي والمؤسساتي. الإخوان المسلمون ونتيجة الاختلاف الوحشي لتمايزات الهوية لديهم أقصوا كل من لا يتفق معهم لدرجة التماهي والانصهار، وسارعوا في عملية أخونة للدولة معتمدين أساليب وطرق بالية لا تتماشى مع روح العصر. هذه الأخونة بدأت تنذر بهرمية مجتمعية لا تتماشى مع المزاج العام، وإن كان بغالبيته متأسلماً، ولكن إسلام شعبوي لا يطيق أدلجة الإسلام ليكون حوامل مشروع سلطة مستدامة.
والكلام سالف الذكر ليس نتيجة استكشاف نوايا، بل هو نتيجة استشعار نتائج سلوكيات ذات معاني ومدلولات، استشعرها الفرد المصري من خلال الحياة اليومية.
النوايا الحسنة بالتعاطي مع الإخوان المسلمين، وتغليب خطاب ديمقراطي صرف على الوقائع السياسية، ينيط اللثام عن مراهقة وعدم نضج سياسي، وتسطيح لوقائع تستدعي التعاطي معها بأدوات سياسية، لا تقتصر على التسليم بمبدأ الشراكة التاريخية مع الإخوان المسلمين، هذه الشراكة التي يجب أن يعوا عبرها أن مراجعاتهم الشكلانية واستدعاء خطاب ليبرالي صرف شكلاً، وإتيان أفعال ذات معاني ودلالات تناقضه سلوكاً، سلوك مضطرب ويدل على حالة فصامية، لا يمكن أن تنطلي ببساطة على المخيلة والوعي الجماهيري العام.
ويمكن أن يساق كأمثلة استدلالية تدل على فصام خطاب الإخوان المسلمين، والذي لا يتماشى مع ادعاءات المراجعات الليبرالية، ظهور قيادات الإخوان الذين في السلطة وخارجها مع شخصيات تتبنى العنف والإرهاب ‒ومنهم الذين اغتالوا السادات وفرج فودة‒ خلال احتفالات جماهيرية.
السلاح الذي استعمله الإخوان المسلمون في الوصول إلى الحكم هو مبادئ الديمقراطية، وما يتضمنه من مبادئ شراكة وتعددية، وهو مستوى أول للتسويق الداخلي، وكذل شعارات نبذ الإرهاب والأفكار الجهادية وما تحمله من ضلال وشطط، وهو مستوى ثاني للتسويق الخارجي.
إذاً ما يهم الدول الغربية تفريغ هذه الحركات من خطرها ضدها، مقابل أن يتوجه هذا الخطر المتجسد في مشروع الأصالة والتراث البالي نحو المجتمع المصري، والذي كما يتخيل الإخوان المسلمون يستعدون لتقبله بغالبته كونهم شركاء مع دعاته في ذات الدين، والذي لا يعني بالضرورة المطلقة تقبل هذه الأصالة والتراث، والذي ينذر بتقسيم المجتمع وفقاً للدين واللغة والجنس، وهذا تقسيم يركن لاستشراقية غير صحيحة تدعي مساوقة هذا التقسيم لواقع تاريخي، مستعملين أجهزة التربية والإعلام والثقافة في ترويج أفكارهم، وهي أجهزة يحوزونها تاريخياً، وبالإضافة لهذه الحيازة التاريخية، أصبحت الآن حيازة مدعمة بالقوة والإرهاب بعد وصولهم لسدة الحكم، وهو ما ينذر بتآكل ونخر، دولة هي بالأصل متآكلة ومنخورة.
ناهيك عن عدم قبولهم بفكرة الفصل بين ما هو ديني ودنيوي، والإصرار على فكرة وأحقية وأسبقية الدين الإسلامي من منطلق قداسة تراثية غير قابلة ولا مستعدة لأي نوع من المراجعة العلمية النقدية لها، واعتبار الدين الإسلامي المرجع الجوهري والأساسي للحياة المجتمعية، مما يخلق استبداداً مجتمعياً يجعل أي آراء أو مرجعيات أخرى خارج سياق الأخذ بها أو الاعتراف بها من الأصل، مما ينفي ركونهم أو قبولهم بشراكة مجتمعية شاملة.
وبقي موضوع المرأة وما يحمل من شحنة دونية لدى عقلية الإخوان، يركن في نفس المسلمات التراثية، وتبقى رجولة الرجل مكان احترام وتقديس، بقدر ما أسقط هذه المسلمات من الأصالة والتراث على المرأة، مما يجعلها حالة قابلة للتشييء غير معترف بحقوقها المنصوص عليها في الأحوال الشخصية المتخلفة بالأصل، مما يحليها بالضرورة إلى وضع مزري على كافة الأصعدة.
إن عملية القفز من أنظمة سياسية مستبدة، ذات انسدادات سياسية، لا يكون بالقفز إلى أحضان الخلاص السياسي اللاعقلاني، المتجسد في الحركات الإسلامية التي تقوم على شعارات تفرغها في ممارسة المضامين من دلالاتها ومعانيها، لتخلق مجتمعاً يقوم على تنشئة إسلامية تستمد أصالتها وتراثها من كتب بالية، وهذه التنشئة لا بد أن تصطدم بمخيلة مجتمعية متمردة وتصبو لدولة حديثة تقوم على تطبيق الشعارات، سلوكيات وممارسات يومية، بعيداً عن خواء الشعارات، لتحقيق مطالب الجماهير في الحرية والعدالة المجتمعية والخدمات. وما حصل في مصر مؤخراً درس حقيقي وجاد لكل الحركات الإسلامية، يتخلص بضرورة إجراء مراجعة حقيقية لفكر الأصالة والتراث ضمن قوالب علمية ونقدية تمكنه من التطبيع مع المجتمع، المجتمع المتصالح مع الحياة الرافض، للشعوذة والميتافزيقيا والسنن البالية.