لم يغب مفهوم العدالة الانتقالية تشير العدالة الإنتقالية إلى مجموعة التدابير القضائية وغير القضائية التي قامت بتطبيقها دول مختلفة من أجل معالجة ما ورثته من إنتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان. وتتضمّن هذه التدابير الملاحقات القضائية، ولجان الحقيقة، وبرامج جبر الضرر، وأشكالاً متنوّعة من إصلاح المؤسسات. وليست العدالة الإنتقالية نوعاً «خاصاً» من العدالة، إنّما مقاربة لتحقيق العدالة في فترات الانتقال من النزاع و/أو قمع الدولة. ومن خلال محاولة تحقيق المحاسبة والتعويض عن الضحايا، تقدّم العدالة الإنتقالية اعترافاً بحقوق الضحايا وتشجّع الثقة المدنية، وتقوّي سيادة القانون والديمقراطية. عن أية ثورة من ثورات الربيع العربي كما غاب عن الثورة السورية، بعد أن حولتها الادارة الأميركية بشكل رئيسي إلى ملف سياسي، خال من أي ملمح حقوقي إنساني. على الرغم أنها قدمت من التضحيات، لأجل حرية شعب وكرامته، ما يفوق الوصف وما تعجز عنه حتى اللحظة آليات الإحصاء ومؤسساته، حيث يمكننا وبلا تردد أن نتحدث عن كارثة شاملة، جراء وجود نظام استثنائي لم يعرف التاريخ شبيها له بنيته التمييزية والجرمية.
ما كان يمكن للولايات المتحدة الامريكية، وإدارة أوباما بشكل خاص، أن تستمر في سياستها تجاه الثورة السورية دون أن تقوم بطي هذه الصفحة من العدالة الانتقالية والحقوق إنسانية. لأنها لو تركت لهذا الملف أن يطفو على سطح الحقل السياسي، فإنها مضطرة لتبديل موقفها، ومضطرة للتدخل من أجل حماية المدنيين. لهذا قامت الولايات المتحدة منذ بداية الثورة بمحاولات حثيثية من أجل إنكار أن ما يحدث هو ثورة شعب من أجل حريته وكرامته. ساعدها في ذلك معارضة اتضح أنها كانت، ولا تزال، نقطة ضعف هذه الثورة، معارضة وصلت لدى بعضها أن تشتري نفسها لدى النظام وقاعدته الاجتماعية، وتبيع الثورة، تحت شعارات الثورة نفسها. قسم من هذه المعارضة حاول تحسين شروطه على حساب الثورة في محاولة ما يسمى إصلاح النظام، والقسم الآخر فهم أن الثورة منتصرة لا محالة وأن عليه فقط أن يتقدم مواقعها الأمامية لكي يكون حاضراً في المراحل اللاحقة لسقوط الأسد. كنت مع غيري نقول لهم إن هذا النظام لا يسقط إلا بمنطق القوة الخارجية. بعد سنتين ونصف وصلت هذه المعارضة لكي تطالب المجتمع الدولي بالتدخل! لهذا هي ساهمت منذ اللحظة الأولى بتسويق ما أرادته إدارة أوباما عبر سفيرها روبرت فورد، وروسيا عبر تنسيقها، في نفي ما يحصل بكونه ثورة حرية وكرامة لشعب اخترق جداراً أسود من الحقد والجريمة. لم يكن أحد في التاريخ الراهن مهيأ لسماع نبأ الشعب السوري يثور من أجل حريته. كانت موضة في سياقات تأسيسات المعارضة في مراحل الثورة الأولى أن ترفع بوجهك شعار في بداية أي بيان: أنها ضد التدخل الخارجي. تريد إثبات وطنيتها، لكن لمن؟ للشعب الذي خرج مضحياً ومطالباً بتدخل أممي لحماية تظاهراته؟ أم لنسق إيديولوجي متهافت، أثبت حقارته وتواطئه مع الجاني؟ أم لنظام يريدون إصلاحه؟ أم لنسق إسلاموي أظهر فشله حتى في قيادة التيارات الإسلامية نفسها.
وصلت إدارة أوباما، وهذا كان من مصلحة النظام طبعاً، إلى معالجة ما يحدث في سورية بأنه حرب أهلية، ثم طائفية الآن. وصفق القسم الأول من هذه المعارضة وساهم حثيثاً للوصول لهذه النتيجة، غير الصحيحة لا واقعياً ولا أخلاقياً ولا قانونياً حتى. الشعب يُذبح، يرفضون تدخلاً لحمايته، ثم رفضوا خيار العسكرة، ليس لأنه خيار مميت، بل لأنه خيار كان يمكن أن يسقط هذا النظام. خيار العسكرة كان يمكن أن ينجح لو أراد المجتمع الدولي نجاحه، وخاصة الدول الغربية، ومع ذلك استطاع الخيار العسكري تحرير قسم كبير من المناطق التي كانت تشكل مصدراً للعملة الصعبة لهذا النظام، لكي يستورد سلاحه القاتل لشعبنا منها، ويدفع للمافيا الروسية ثمنا لهذا السلاح. فتطوعت إيران الملالي بذلك وقدمت أموال الشعب الايراني ثمناً لسلاح قتل الشعب السوري به. قبل عام وأكثر، أميركا ومعها بعض الدول الغربية تتساءل عن مصير الأسلحة الكيماوية، وطلبت من المعارضة ‒هذه المعارضة‒ عن موقفها من هذه الأسلحة. أجابتهم المعارضة بأنها ترفض تدميره، أو أنها طنشت عن هذا السؤال! ومنهم من أراد أن يتجهبذ سياسياً، فأبلغهم موقف النظام (يوافق على تدميره في مؤتمر دولي لتدمير أسلحة الدمار الشامل في الشرق الأوسط). بعد أن اطمأن النظام لأجوبة هذه المعارضة، بدأ باستخدامه على نطاق ضيق، في محاولة منه لشرعنته بالتدريج، حتى قام بمجزرة الغوطة الشرقية في 21 آب 2013، وحصل ما حصل بعدها، حتى صدور قرار مجلس الامن 2118 القاضي بتدمير هذا السلاح، وذرّ الرماد في العيون، بأخذ «أطراف النزاع» إلى جنيف للتفاوض من أجل وقف النزاع. كلمة ترددت على استحياء عن محاسبة من قام بجريمة الكيماوي، دون إشارة واضحة للنظام. أيضاً، كيف لأميركا وأدارتها أن تذهب لجنيف، ومع الأمم المتحدة، مع نظام استخدم الكيماوي؟ لهذا حدث متغيران، الأول: أن النظام أصبح بلا كيماوي! والثاني: دخول همروجة التواصل الإيراني الامريكي.
بالنسبة للأولى، مؤكد أن نظام الاسد خسر ورقة تفاوضية مهمة. أما موضوعة إعطائه وقتاً فهذه ليست كسباً، لأن إدارة أوباما بشكل طبيعي لا تريد الضغط حتى إسقاطه. أما بالنسبة للثانية فإن الطرف المأزوم هو إيران، وهي من طلبت ودّ أوباما، حتى لو كانت المبادرة من أوباما، إلا أنها مبادرة تأتي في سياق المأزق الإيراني، وليس العكس. وصلنا الآن إلى محاولة أن تحضر إيران جنيف2، الذي أصبح الآن جنيف3، لأن مقومات جنيف2 الذي لم يعد لها وجود، أعني نظاماً أسدياً بكيماوي، ودون وجود إيران في المؤتمر. والنظام أصبح مرتكباً لجريمة أقرتها الأمم المتحدة وأميركا والدول الغربية.
لكن المعارضة الائتلافية، رغم أنها يجب أن تكون الرابحة، نجدها قد وصلت لحائط من الإفلاس. وتمردت الكتائب العسكرية في الداخل على ما يطرحه هذا الائتلاف. هذه الكتائب العسكرية، أو بعض منها، لا نريد أن نختلف من أين أتت وماهي مصادر دعمها، لكنها في النهاية كتائب يقودها ملثمون! وهم عبارة عن محترفي إسلاموية جهادوية، أرادها النظام وقدمها له المجتمع الدولي على طبق من ذهب، لأن موقف القوى الفاعلة فيه تريد ذلك دولياً وإقليمياً، مما حول قسماً من سورية إلى ساحة لتصفية الحسابات. أيضا لو بحثنا في هذا الملف قليلاً لوجدنا المعارضة نفسها تتحمل قسطاً وافراً من هذه الحالة. فشلت في السلمية، وفشلت في العسكرة، وفشلت في حمل المجتمع الدولي على التدخل لحماية المدنيين.
وكي لا نُفهم خطأ، نحن نتحدث عن المعارضة وليس عمن يسمّون أنفسهم كذلك، وهم كانوا خنجراً في ظهر الثورة منذ لحظتها الأولى. هؤلاء معروفون بالاسم والخطاب.
بعد كل هذا الآن، مطلوب من تلك المعارضة أن تذهب لجنيف3 دون أي حس أو خبر عما أسميناه العدالة الانتقالية، تحت سؤال «أين حقوق الضحايا»؟ هذا غائب عن جنيف3 كلياً. لهذا سيكون هذا الجنيف3 لقاء تعارف، بين كل الفاشلين دولياً وإنسانياً وأخلاقياً، برعاية أوباما، فلماذا لا تذهب معارضة فاشلة لجنيف3؟ علها بذهابها تفيد، أفضل من أن تبقى عالة على الثورة، وتأخذ رواتبها من مآسي الناس وضحايا الجريمة الأسدية. ليذهب بأهداف رفعتها الناس التي ضحت، دون أن يتنازلوا عنها هناك. لأن النظام ساقط بهم أو بدونهم، عاجلاً أم آجلاً. على الأقل ليردوا الدين في أعناقهم لروبرت فورد، صاحب المقولة التي سوقت للإدارة الامريكية: «اتركوهم يقتلون بعضهم بعضاً»!
العدالة الانتقالية لن تكون بزمن باراك أوباما. فاذهبوا لجنيف3!