الحراك السلامي الأميركي ما زال يحتفل بما اعتبره انتصاراً له في سوريا. «الولايات المتحدة لن تقصف سوريا كما كان بالتأكيد سيحدث لولا التحرك الهائل والضغط ضد الحرب على الرئيس والكونغرس خصوصاً»، هكذا كتبت فيليس بينيس من ’معهد دراسات السياسة‘. هذا يمثل «نصراً استثنائياً وغير متوقع للحراك العالمي المعادي للحرب»، تتابع، «نصراً علينا تذوّقه». روبرت نايمان من منظمة ’سياسية خارجية عادلة‘ راح يتباهى «كيف أوقفنا القصف الأميركي على سوريا».

هذا التحول في الأحداث «أمر استثنائي ‒ بل وحتى تاريخي»، حسب ما كتبه الصديق العزيز ستيفن كينزر، من منظور مختلف لكن مشابك. أما مؤلف الكتاب الشهير ’السقوط: القرن الأميركي لتغيير الأنظمة من هاواي إلى العراق‘ فقد كتب بحماس «لم يحدث أبداً في التاريخ الحديث أن تشكك الأميركيون في حكمة القصف أو الغزو أو احتلال بلاد الآخرين … إنها لحظة مثيرة … بداية لمقاربة جديدة وأكثر واقعيةً في السياسة الخارجية».

الصحفي التقدمي الذي لا يكلّ، ديفيد سيروتا، والذي أحترمه جداً، راح يمجّد «كيف الأكثرية المعادية للحرب أوقفت أوباما». معارضة «أميركيين غاضبين» لنية الإدارة الأميركية في ضربة عسكرية، يجادل سيروتا، أثبتت أنها «حاسمة بلا ريب» وهي «سبب ما يلوح اليوم من إمكانية تجنب حرب جديدة في الشرق الأوسط».

أفهم تماماّ هذا التهليل. لكني مع ذلك أشعر بالارتباك.

لأكن واضحاً: أنا أيضاً كنت ضد ما قررته إدارة أوباما من ضربة عسكرية على سوريا. وجدت من الغريب أنْ، بعد سنتين ونصف من اللاشيء عملياً بخصوص الأزمة المتجذرة في سوريا، يقرّر البيت الأبيض التصرف، فجأة وبذلك الاندفاع الذي لم يُطِق حتى انتظار فريق مفتشي الأمم المتحدة لينجز أعماله. كأن على العالم فقط أن يثق بالمزاعم الأميركية عن أسلحة الدمار الشامل. آخر مرة حصل ذلك كانت الأمور روعة!

وجدت أيضاً أن الأسلحة الكيماوية كانت المسألة الخطأ. اقتباساً من شادي حميد من ’مركز بروكنغز الدوحة‘، لمَ تم رسم «خط أحمر» على استخدام الكيماوي وليس على 100,000 قتيل؟ أو على سنتين ونصف من الجرائم ضد الإنسانية؟ الأكثرية الساحقة من المدنيين الذي قتلوا منذ انطلاق الانتفاضة السورية في آذار 2011 قتلوا بأسلحة عادية لا بالكيماوي.

اتفقت من كل قلبي مع مجموعة الأزمة الدولية، أن دعوة إدارة أوباما للتحرك كانت مبنية على «أسباب شديدة الانفصال عن مصالح الشعب السوري»، الذي «عانى خلال الصراع من فظاعات جماعية أقتل بكثير، دون أن يهرع الجميع لنجدته كما يحدث الآن».

تبين أن تعليق المسألة على الكيماوي خطيئة استراتيجية أيضاً. روسيا أعاقت بذكاء الإدارة الأميركية، مستفيدةً من هشاشة حجتها. هكذا يُحذف احتياطي الكيماوي السوري من المعادلة ‒ ثم ماذا؟ آلة القتل الأسدية، التي كانت بشكل ساحق لاكيماوية  في البداية، يمكنها الاستمرار بلا قيود في هيجانها. قضية السلاح الكيماوي: محلولة. ميادين القتل السورية: لا نهاية في المدى المنظور.

وبناء على هذه الصورة المروّعة، يصعب عليّ أن أشارك الحراك السلامي حسّه بالانتصار. نعم، تم إحباط هجوم أميركي عسكري… حسناً. لكن هل تنتهي القصة؟

بالنسبة للانعزاليين التحرريين أمثال راند بول، والمحافظين جماعة ’أميركا أولاً‘ أمثال بات بوتشانان، ويمينيي سياسة الواقع الذين يهيمنون منذ زمن على جهاز السياسة الخارجية للحزب الجمهوري، نعم، القصة تنتهي في واشنطن. الموضوع كله يتعلق بنا. الناس في الأراضي المرمية بعيداً لا يهموننا ‒ إلا إذا تعلق الأمر بمصالح الأمن القومي\الإستراتيجي للولايات المتحدة.

لكن بالنسبة لتقدميين، خصوصاً من يرفعون قيم التضامن والأممية، لا يمكن للقصة طبعاً أن تنتهي على شواطئ أميركا. النضال حول العالم من أجل العدالة والكرامة يهمّنا. نحن نؤمن أن ثمة رهاناً لنا عليه وعلى نتائجه. نحن منحازون.

الحقيقة أن المشروع الذي تقوده فيليس بينيس في ’معهد دراسات السياسة‘ يسمى ’الأممية الجديدة‘، وهو اسم ذو إرث نبيل وراءه. كنت متدرباً في المعهد منذ 24 سنة. موت الزميل سول لاندو مؤخراً أعادني إلى تلك الأيام. سول الذي أتذكره بشغف كان يسارياً عالمثالثياً بامتياز، وقد شكل التضامن مع النضالات التحررية، خصوصاً في أميركا اللاتينية، لبّ سياساته. لم يكن مجرد معارض لسياسة الولايات المتحدة؛ لقد كان مع حركات التحرر وقيادييه ‒ سيلفادور أليندي في تشيلي، السانديستا في نيكاراغوا، فارابوندو مارتي في السلفادور.

في الأسابيع الباكرة من 2011 كان الأمميون التقدميون أمثال فيليس بينيس مع ثوار تونس الذين انتفضوا ضد ديكتاتورية بن علي، وإلى جانب محتجي ميدان التحرير الذين طالبوا بطرد الفرعون مبارك والذين تظاهروا في البحرين ضد طغيان المملكة المدعومة من أميركا والسعودية. موقفنا في هذه الحالات كأممين تقدميين لم تكن له علاقة أصلاً بالولايات المتحدة ‒ له علاقة بالدعم والتعاطف مع كفاح شعبي ضد الفاشية ومن أجل الكرامة الإنسانية.

الانتفاضة السورية بدأت تماماً بنفس الروح وكجزء من ذات الموجة الثورية العابرة للعالم العربي. لكن استجابة التقدميين الغربيين للحالة السورية كانت مختلفة أيما اختلاف. كما أن شبح الهجوم العسكري الأميركي (المتكهَّن به) سحب كل الأوكسجين من الغرفة، وفرض حالة من النظر المحدود النَفَقي على التقدميين. «أين كان هؤلاء خلال سنتين مضتا؟»، يسأل المرصد السوري لحقوق الإنسان في لندن، مندّداً: «الوقت متأخر لبدء مسيرة من أجل ’لا للحرب في سوريا‘ … ما ينشأ في الولايات المتحدة والمملكة المتحدة الآن هو حراك ضد الحرب شكلاً ومع الحرب مضموناً».

قد يبدو هذا الكلام قاسياً أو مغالىً به، لكنه يعكس إحباطاً يشترك فيه كثير من السوريين. الحراك السلامي بالتأكيد ضد تدخل الولايات المتحدة، لكن ما موقعه من الصراع لإسقاط ديكتاتورية الأسد القاتلة؟ ماذا يقترح لإنهاء حمام الدم؟ ما العمل؟

ليس هناك أجوبة صريحة وواضحة لهذه الأسئلة، كما أكدنا أنا ونادر الهاشمي في مقابلة. هذه قضايا مربكة. لذلك يجمع كتابنا الذي اشتركنا في تحريره ’المعضلة السورية‘ وجهات نظر متزاحمة لاثنين وعشرين مفكراً وناشطاً. «الجادّون أخلاقياً يختلفون بحدّة فيما يتعلق بما يجب فعله»، كما جاء في مقدمة الكتاب، فـ«ثمة حجج قادرة على إخضاعك لدى مختلف الجهات». في الواقع يحتوي الكتاب ما يقرب من اثني عشر موقفاً.

لكن امتلاك موقف فقط حول ما لا يجب فعله، مع التهرب من سؤال ما يجب فعله، هو محض تنصّل من الضغط، بل وخيانة لتعاليم الأممية. سؤال ما يجب فعله أكثر حرجاً بعد، للدقة، فهو يتطلب المزيد من التفكير والتحليل والتأمل، بل وبحثاً في الذات مؤلماً. ذلك بالضبط ما يفعله ريتشارد فولك، وهو أحد الأصوات الرائدة في السلام وحقوق الإنسان في نصف القرن الفائت، في مساهمته النموذجية في الكتاب. السيد فولك يشتبك مع المسائل المتنازعة في الساحة ويفكر بمشقّة في حلول للمأساة السورية. هذا ما تطلب منا الأممية فعله.

لكن الماركسي اللبناني جلبير أشقر يذهب أبعد من ذلك، ويحاجج بأنه «واجب على كل من يزعم دعمه لحق تقرير المصير للشعوب أن يساعد السوريين في الحصول على أدوات للدفاع عن أنفسهم». أشقر (مؤلف ’الشعب يريد: بحث جذري في الانتفاضة العربية‘ و’الشرق الملتهب: الشرق الأوسط في المنظور الماركسي‘، والمشارك، مع نوعم تشومسكي، في تأليف ’السلطان الخطير: السياسية الخارجية الأميركية والشرق الأوسط‘) بارك امتناع البرلمان البريطاني عن التصويت لصالح هجوم عسكري في سوريا، لكنه واضح فيما يتعلق بـ«الدعم الصميم للانتفاضة الشعبية في سوريا».

طبعاً هناك الكثير من التقدميين وخصوصاً في الحراك السلامي لا يرتاحون لدعم ثورة مسلحة أو الدفاع عن تحصيل السلاح لها. ضمّنّا مقالين في كتاب ’المعضلة السورية‘ يحاججان ضد هذه المسار (أحدهما كتبه تشارلز غلاس والآخر مارك لينك). حسناً، إذا كانت تلك رؤيتك، ما الذي تراه أفضل وأفعل؟ تأسيس مناطق حماية للمدنيين في سوريا، كما تقترح منذ زمن الناشطة السلامية الإنسانية ماري كالدور في مساهمتها في الكتاب؟ أم شيئاً آخر؟

المسألة هي وضع مأزق الشعب السوري مقابلنا وفي مراكز جداول تفكيرنا، لنفكر بجدّ كيف يمكن الحلّ. أكثر من 100,000 سوري قتلوا وحوالي 7 ملايين نزحوا من بيوتهم، وحوالي 5,000 يغادرون إلى دول الجوار كل يوم… هَول هائل إنسانياً.

عام 2000 ترأستُ اجتماعاً بخصوص كوسوفو واليسار في المؤتمر العالمي لـ’رابطة الفلسفة الجذرية‘ في شيكاغو. بين المجتمعين كان الماركسي السلوفيني سلافوي جيجيك. حدث وقت النقاش ما لن أنساه. أحد الحضور بدأ يسرد ما كان الموقف الواسع والمعلن لليسار: أن القوات الصربية ارتكبت فظائع مروّعة في كوسوفو لكن التدخل العسكري الخارجي فقط سيجعل الأمور أسوأ وبالتالي يجب الوقوف ضده… قلت بدأ يسرد لأن جيجيك ‒وهو الذي يعرف هذه السردة ويعرف خلاصتها‒ قاطع المتحدث فوراً بعد المقدمة، بمجرد ما انطلقت من فمه «لكن».

«وماذا برأيك كان يمكن فعله بالخصوص؟»، أرعد جيجيك بشراسته المميزة. كانت لحظة من أولئك اللواتي تجمد عندها الزمن. صمتت الغرفة. لقد تم فرض وضوح أخلاقي قلق على الحوار. كان مربكاً. أثار أعصاب الجميع. ولكنه مع ذلك منوّر بعمق. الجملة قوية، درامية، ولكنها لم تكن سؤالاً خطابياً. جيجيك طلب أن يعرف: ما هو ردّك على هذه المسألة؟ (ولمزيد من الدراما لم يكن هناك ردّ). إن لم يكن س، ماذا إذن؟ لا يكفي أن نقف ضد ‒ يجب أيضاً أن نقف مع، وأن نفكر بما يعنيه ذلك بشكل ملموس، على الأرض، حيث الناس بين الحياة والموت.

أريد توجيه سؤال جيجيك إلى ناشطي اللاحرب فيما يتعلق بسوريا (تاركاً قليلاً نظرة جيجيك إلى الوضع السوري، التي سأتطرق لها في مقال لاحق). إذن عارضتم ضربة أميركية على سوريا. كذلك فعلتُ أنا. كذلك كان علينا أن نفعل. وتم ربح هذه المعركة. لم يعد يلوح في الأفق عمل أميركي عسكري في سوريا… والآن، ماذا سنفعل؟

انتهت المهمة! هذا ما يبدو أن الحراك السلامي يقوله، وكأنه بلغ النصر. لكن هل يحق لناشطي اللاحرب الشعور بكل هذا الارتياح، بينما عداد الموت في سوريا يستمر في حصده الأرواح دون نهاية تقترب؟

لأكون منصفاً، بعض منظمات اللاحرب تتجه الاتجاه الصحيح، على الأقل بالكلام. منظمة ’بيس أكشن‘ دعت لـ«بدائل حقيقية وحلول مبنية على دبلوماسية تعدّدية جادّة، ولاء للقانون المحلي والعالمي، مساعدات إنسانية كثيفة… إضافة لحظر أسلحة ووقف إطلاق نار». لكن ماذا لو هذه الدعوات الصارخة استمرت في ملاقاة اللامبالاة، كما كان الحال منذ سنتين ونصف ورغم كل الجهود ‒ ماذا بعد؟

«الحوار، المقاومة المدنية، بدائل من خارج الصندوق من اللواتي لا يتوقع أحد نجاحها… دائماً هناك خيارات أخرى»، هكذا تقول رسالة من ’لجنة الأصدقاء الأميركيين‘. هل حقاً دائماً هناك حلول؟ للإنصاف، ’اللجنة‘ تشارك المنظمة البريطانية ’ريسبونس تو كونفلكت‘ «في دعم شبكة من صناع السلام السوريين الشجعان، العاملين على المستوى المحلي، لبناء مستقبل يتعايش فيه كل السوريين بأمان وسلام». بقوة أدعم هذا الجهد. لكن ماذا إذا فشل في إيقاف المذبحة؟

لم لا يخصّص التقدميون جزءاً فقط من الطاقة والجهد، كاللذين ذهبا في الحشد ضد الضربة الأميركية، في قضية وضع حدّ لكابوس سوريا؟ ربما لن يُحدث ذلك فرقاً ملموساً ‒ كل الجهود التي سعت لحل الصراع حتى الآن، بما في ذلك كوفي عنان والَاخضر الِابراهيمي، انتهت إلى جِهاض (وهي ذاتها الجهود التي تُواصل مجموعات اللاحرب الدعوة لها، وكأنها لم تجرب، وكأنها لم تفشل على مدى سنتين ونصف). لكن سيكون أي جهد تعبيراً على الأقل عن التضامن والأممية. استحضار الشعب السوري ‒الذي كان وما زال غائباً جداً في نقاشات التقدميين‒ بشكل واضح إلى المعادلة سيعبّر عن قطيعة مرحّب بها مع النزعات المليئة بالنحن، المتمركزة حول أميركا، التي تملأ الحراك السلامي في الولايات المتحدة.