ولدت الزراعة وتدجين الحبوب البرية في الشرق، وكانت سورية والعراق المكان الأول لهذه الحادثة التي غيرت مسار البشرية، فلقد كان اكتشاف الزراعة إعلان لبدء الاستقرار والمدنية، وبالتالي ولادة العقل المفكّر والأديان. ولأن سورية بلد زراعي بامتياز، فقد كان الدخول إلى السياسية فيها يمرّ بالضرورة عبر المسألة الزراعية، فكل سياسة وطنية يجب أن تكون في عمقها تعتمد على الزراعة، وكل سياسي مرّ من هذا الباب كان يُعدّ صاحب مشروع وطني وكان يلقى محبة أهل الريف، حتى أن أكرم الحوراني، وهو أبو الإصلاح الزراعي في سورية، رُفع إلى مصافي الأولياء والقدّيسين عند فلاحي الجبل وفقرائه، فالوطنية السورية ارتبطت بالزراعة كما ارتبطت بالتجارة.
حاول الفرنسيون توزيع الأراضي المشاع في مناطق عديدة من سورية، ومنها الساحل. لم تنجح العملية بسبب النفوذ الكبير للملاّك في الدولة. كانت العلاقات الزراعية تقوم على استئجار الأرض التي يملكها الآغاوات من قبل الفلاحين، الذين يأخذون البذار منهم مقابل تقاسم المحصول. كانت عمليات التبادل تقوم على أساس الموسم القادم، أما الأنشطة الإجتماعية والزيجات فتؤجّل إلى حين قدوم «الموسم». كانت دورة حياتهم مرتبطة بـ«الموسم»، لذلك كانت حياتهم «موسمية»، فإذا كان الموسم شحيحاً وُسمت حياتهم لعام كامل بالسواد والحزن والتوتر، وإن كان العكس وجدتهم في حال من السعادة. كان فلاحو الجبل يعملون في أراضٍ يعيشون عليها لكنهم لا يملكونها؛ كانت تملكهم بالأحرى، هم جزء منها، كأشياء وأملاك تعود للإقطاعيين والآغاوات، والذين صارت تحت أيديهم ملكيات ضخمة كانت تصل في حالات عدة إلى قرى بمن فيها من فلاحين وبما عليها من ممتلكات وأدوات ومواشٍ، وفي حالات كثيرة كان الإقطاعي له سلطة أن يسجن المزارعين مع عائلاتهم في بيت كبير مقسّم إلى غرف ويقفل عليهم بنفسه حتى الصباح، كحال عنابر العبيد في امريكا.
كان التبغ المحصول الأساسي لفلاحي الجبال، إضافة للقمح، وكانت زراعته محدّدة من قبل إدارة حصر التبغ والتنباك، وكان لمراسلي الدخان دور ونفوذ هامّان في الجبل، فبيدهم مصير زراعته ومساحاته المحدّدة، والكميات التي يجب أن يسلّمها الفلاحين لهم.
جاء الإصلاح الزراعي في الخمسينيات، ووزّعت أراضي الملاّك على الفلاحين الذين كانوا يعملون بها. وبحكم أن نسبة السكان مقارنةً مع مساحة الساحل كبيرة، فقد كانت الملكيات التي انتقلت إلى الفلاحين صغيرة نسبياً مقارنةً بما ناله فلاحو الجزيرة السورية مثلاً. وهذا يعني أنه، بعد جيل أو جيلين، سيصبح نصيب الشخص من الملكية الزراعية صغيراً ولن يكون بإمكانه الاعتماد عليها فقط في العيش. وهو ما دفع أبناء الساحل إلى انتهاج طريق التطوّع في الجيش وقوى الأمن، من ناحية، ومن ناحية ثانية دفعهم إلى انتهاج طريق التعليم من أجل الوظيفة.
«صعود» الحمضيات مع الوصول إلى السلطة
لم تكن المسألة الزراعية أفضل حالاً من باقي الأوضاع الإجتماعية المعاشية لسكان الساحل السوري. تزامن الانتقال إلى زراعة الحمضيات مع مجيء حافظ الأسد إلى الحكم، ومع انتقال المزارعين وأبناء الفلاحين إلى التوظيف في دوائر الدولة. هكذا كان هناك تلازم بين الوظيفة وبين استصلاح الأراضي في شمال اللاذقية لزراعتها بالحمضيات، التي لا تحتاج لعمل دؤوب؛ فالعمل في الحمضيات موسمي، على خلاف العمل في زراعة الخضار.
الحمضيات هي الزراعة الأساسية الأولى في الساحل. مع ذلك تمّ تهميشها على مدى عِقدين، خصوصاً عقد التسعينيات، حتى أن مزارعي حقول الحمضيات في ريف اللاذقية، القريب من المدينة، وبعد أن ضاق ذرعهم بوعود الحكومة لتحسين أسعارها وإعفائهم من رسوم الريّ وباقي ضرائب عملية الإنتاج، اضطرّوا لرمي سيارات كاملة من البرتقال على المدخل الشمالي لمدينة اللاذقية احتجاجاً على موقف الحكومة.
لم يكن محصول الزيتون بأفضل من حال الحمضيات؛ فبعد القطع الجائر لهذه الشجرة القديمة في ريف اللاذقية طوال عقدي الثمانينات والتسعينيات، ارتفعت أسعار الزيت، لكن الحكومة قررت استيراد كميات كبيرة من الزيت لتعويض انخفاض كمياته، فانخفضت أسعاره في السوق المحلية، مما ضاعف معاناة مزارعي الزيتون ودفعهم لمزيد من قطع أشجاره واستبدالها بأشجار الحمضيات.
يعمل في مزارع الحمضيات أكثر من 45 ألف مزارع، إضافة لجزء من أفراد أسرهم، موزعين على 38 ألف هكتار. تجاوز الإنتاج مليون طنّ سنوياً، منذ خمس سنوات. المشكلة الأساسية تكمن في تصريف الإنتاج، فقد بلغ حجم التصدير في حده الأقصى25 ألف طن سنوياً، أربعة أخماس الإنتاج في اللاذقية والبقية في طرطوس. السؤال الذي أصبح تاريخياً عند مزارعي الساحل هو، لماذا لا يتم اعتبار الحمضيات محصولاً إستراتيجياً مثلما هو في مصر وبقية دول حوض المتوسط؟ والجواب ليس اقتصادياً هذه المرة، بل سياسي بالدرجة الأولى؛ فقد كان من أجل ضمان النظام استمرار ولاء القطاع الأكبر من الطائفة، وهو القطاع المنتج الوحيد فيها، وليستمر استجرار أبناء هذا القطاع إلى الجيش والمخابرات، فإذا تحسنت الأسعار وتحولت الحمضيات إلى محصول إستراتيجي فهذا يعني أنه سيكون مصدر رزق ثابت وآمن ومستمرّ لمزارعي الساحل، وبالتالي سيصرفون أنظارهم عن الجيش والأمن والوظائف، أي يخرجون من سيطرة النظام ويخرجون عنه لأن مصدر رزقهم يصبح ذاتياً غير مرتبط بالنظام، وبالتالي يصبحون أحراراً.
ليس وضع مزارعي التفاح بأفضل حالاً من زملائهم؛ فهم يعانون كذلك من سوء تصريف منتجاتهم، إضافة لارتفاع تكاليف الإنتاج. لقد حدث إحراق مفتعل لكثير من غابات الصنوبر في جبال الساحل من قبل مزارعين، بدعم من ضباط في الجيش، وتم ضمّها لأراضي مزارعين من أجل استصلاحها وتشجيرها بأشجار التفاح .
مشاكل الزراعة في الساحل قبل وبعد الثورة
دخل معظم ضباط الساحل في العملية الزراعية، حيث اشتروا ملكيات زراعية كاملة بأسعار بخسة من أصحابها الأصليين، واستثمروا أموالهم المنهوبة من الجيش في شراء تلك الأراضي، وحولوها إلى بساتين برتقال أو تركوها كما هي كأراضي زيتون، وشقوا الطرق الزراعية وأوصلوا إليها الكهرباء وأحياناً الهاتف… فلعبوا من هذه الناحية دوراً شبيهاً لما لعبه الفرنسيون في تخديم مناطق الساحل خدمةً لحركة وتوزّع قواتهم العسكرية.
لقد أعاد الضباط الكبار وآل الأسد تجريد المزارعين الذين استفادوا من عملية الإصلاح الزراعي من أراضيهم، تحت التهديد بالسلاح والقتل؛ فقد عمد جميل الأسد، مثلاً، إلى شراء ملكيات واسعة من أخصب الأراضي في منطقة الشاطئ الأزرق ومروج دمسرخو القريبة من مدينة اللاذقية، وهي في الأساس مزارع حمضيات. وبعد أن جُردوا من أراضيهم تحوّل هؤلاء مع عائلاتهم إلى فلاحين وخدم في مزارعهم نفسها، التي انتقلت ملكيتها إلى الضباط وزعماء الشبيحة في اللاذقية.
كان مزارعو الخضار في الساحل يعانون قبل الثورة من تدنّي الأسعار، ومن منافسة المنتجات القادمة من خارج المحافظة. ولقد تحوّل الكثير من منتجي البرتقال إلى الزراعات المحميّة، وربما كانت الزراعة الوحيدة ذات الريعية اقتصادياً. ومع ذلك ليس هناك خطة زراعية لمزارعي الخضار المحميّة، فالجميع يزرع نوعاً واحداً من الخضار، كالبندورة مثلاً، الأمر الذي يؤدي إلى تدهور أسعارها، وارتفاع أسعار باقي الزراعات المحميّة؛ وفي العام التالي يتم زراعة محصول ثانٍ كان مرتفع السعر في السنة السابقة، فتعود أسعاره للتدهور. وفي محصلة عامة، الزراعة في الساحل مسألة خاسرة، لأن الدولة لا تدعمها للأسباب سابقة الذكر.
بالإجمال، يمكن القول إن المخاطر والمشاكل التي تحيط بالزراعة والمزارعين في الساحل هي التالية:
الأراضي الزراعية عموماً قليلة، فهي تنعدم في بعض مناطق بانياس، لذلك ازدهرت زراعة الخضار المحمية هناك؛ بينما تتوسع في جبلة وشمال اللاذقية. ثم، في مقابل ضيق المساحة الزراعية يزداد عدد السكان بشكل متواتر. فقد تراجعت زراعة القمح في الساحل، رغم أن زراعته غير محدّدة بمساحة أو كمية، وذلك لحساب الخضار الباكورية. كذلك اندثرت زراعة التنباك مثلاً نتيجة تفشّي الامراض الفطرية وتقاعُس الدولة عن حماية هذا المحصول المهم في تاريخ الزراعة الساحلية. زراعة التبغ تشترط رخصة من الدولة وبكميات تحدّدها هي.
وإضافة لتضرّر فلاحي الساحل بالتقلبات المناخية أكثر من سواهم في باقي المناطق السورية، حدثت في العقدين الماضيين حالة تفتّت للملكيات الزراعية، نتيجة تقسيم الملكيات، التي هي بالأصل صغيرة، بين الأولاد، ونتيجة لجوء كل من الورثة إلى بناء منزل أو هنغارات الزراعة المحمية. فلقد تحولت الأراضي الزراعية على جانبي طريق بانياس-جبلة-اللاذقية إلى تجمعات سكنية متلاصقة، على حساب الأرض الزراعية، وهو أمر مدمّر للزراعة في الساحل، ما أدى إلى مشاكل اجتماعية عديدة. وتحولت الوظيفة في الدولة إلى حلم وقيمة عليا لدى غالبية الشباب والشابات وخريجي الجامعات الذين فقدوا الأرض، وهو أحد أسباب ارتباط شباب الساحل بالدولة ودفاعه عنها.
لا بد أن نذكر هنا وعود النظام لكبار إقطاعيي الخمسينيات بإعادة أملاكهم التي جردهم منها الإصلاح الزراعي، فقد كان يعني تجريد المزارعين من أراضيهم. لقد تمّ الانقلاب على الإصلاح الزراعي ببساطة، ولا غرابة أن يكون هذا قبل الثورة بسنوات. فحين تخلّت الدولة عن الفلاحين والمزارعين، وحين تراجع القطاع الزراعي وهجر مزارعون كثر أراضيهم، سقطت مشروعية الدولة و«وطنيتها»، وكان هذا إيذاناً بالثورة في مناطق مهمّشة في ريف دمشق؛ ولم تحصل في الساحل إلا في المناطق القلقة اقتصادياً والتي لا ارتباط لسكانها بالدولة من خلال الوظائف.
ثم بعد الثورة دُمرت قطاعات الزراعة في الساحل، لأسباب متنوعة، حيث تراجع مبيع الحمضيات بسبب ضعف القوة الشرائية، وارتفعت نسبة التضخم مئة بالمئة خلال عامين من الثورة، ودُمّرت مزارع التفاح في منطقة الحفّة نتيجة اجتياح كتائب الأسد لتلك المناطق بحجة وجود عصابات مسلحة، وتراجعت الخضروات المحمية، خصوصاً في بانياس ‒مركزها الرئيسي‒ نتيجة ارتفاع كبير في أسعار المازوت وعدم توفره، وانقطاع الكهرباء لساعات طويلة، وفقدان اليد العاملة نتيجة ملاحقة معظم شباب بانياس من قبل النظام واعتقال أعداد كبيرة منهم. من ناحية ثانية، ولذات الأسباب السياسية والأمنية، ازدهرت الزراعة في ريف القدموس لأول مرة منذ عقود، حيث عاد الجميع، ولا سيما الموظفين المطرودين من وظائفهم والفارّين من الجيش وغير الملتحقين بالخدمة الاجبارية، إلى الأرض ليزرعوها بعد فقدانهم مصادر رزقهم، وارتفاع أسعار المواد الغذائية. إن العودة إلى الأرض والاهتمام بالزراعة أحد شروط استقرار سورية وبناء وطنيتها الجديدة.