المتابع لما يجري من تحوّلات في مواقف الأنظمة الإقليميّة يدرك صدق مقولة أننا في هذه المنطقة، في أعين الدول الكبرى على الأقل، لا نعدو كوننا مجرّد أحجار على رقعة الشطرنج. وفي الواقع هذه النظرة الاستعلائية تتضمّن الكثير من حقائقنا. وحين ظهرت بوادر صحوة التغيير بين شعوب المنطقة، اصطدم الحلم الكبير بصخرة الواقع المعقّد والمركّب من مشاكل وظلمات متداخلة: بعضها يتعلّق بمشاكلنا الذاتية وعجزنا عن التعامل مع مشاكل الواقع؛ وبعضها ينشأ من مشاكل التاريخ العالقة التي لم نجد لها حلولاً إلى اليوم، ولم نُجرِ حولها نقاشاً حرّاً بدون تشنّجات، فتعاقبت عليها القرون دون أن ينفض عنها الغبار؛ وبعض مشاكلنا يعود إلى ألغاز السياسة التي لا نملك تصوراً واضحاً عنها خارج نطاق التحليل والتخمين. مشاكل ومتناقضات كثيرة تعصف بهذه المنطقة قد لا نتّفق على توصيفها بشكل مطلق، لكننا سنتّفق حول نتائجها النهائية، متمثّلة بوجود فشل عربي مرير مع غياب المشروع؛ نظام عربي يلامس الحضيض على كل المستويات، ضيّع العروبة كقومية جامعة، وسيّس الدين والطائفية والعلمانيّة والمقاومة وكل القيم التي أسّست لحضارات ومشاريع سواءً في منطقتنا أو في مناطق أخرى من العالم، فـ«بهدل» معه كل المسميات حين استغلتها الأنظمة بشكل مبتذل لشرعنة ظلمها تحت ستار المصطلح، فلا خطة تنموية ولا سياسية ولا ثقافية حضارية. ببساطة لا شيء يحسب للنظام العربي العام، فها نحن بعد مرور عقود على الاستقلال نجد أنفسنا أتباعاً من جديد لنفس الاستعمار القديم، وبعد أن كنّا نمنّي النفس بانتهاء حقبة الاستعمار المباشر، مع قبولنا الضمني بحتمية خضوعنا له بشكل غير مباشر، نجد أن بلادنا معرّضة في كل لحظة للاحتلال أو التقسيم أو حتى للتدمير. في الواقع لا شيء يشفع لنا تأخرنا، ومع أن الأسباب والتحليلات كثيرة، إلا أنها لا تكفي مجتمعة لتقديم أي تبرير لتأخرنا كل هذه القرون.
لن أقارن النظام العربي بأي من الأنظمة الديمقراطية التي أسّست دولاً راسخة في النظام العالمي الحالي، يكفي أن أقارنها بنظام الملالي في إيران، هذا النظام الذي بعد حرب ضروس استمرّت لثماني سنوات مع النظام العراقي استطاع أن يعود ليثبّت قدميه في عمق المنطقة العربية، وأن يبني دولة قائمة ذات قدرات اقتصادية وعسكرية وذات مشروع قومي تُسخّر لأجله الطائفية لتكون منفذاً إلى عمق مجتمعات المنطقة. نعم استطاع الإيرانيون تشكيل أذرع في أكثر المواضع حساسية، تمكّنهم من فتح مسارات تفاوض مع الدول الكبرى، يبيع لها الإيراني الخدمات، ويحقق الاستقرار لمشروعه السلطوي والقومي. الفرق بين المشروع الإيراني والمشروع العربي أن المشروع العربي يأكل بعضه بعضاً ويتناهى إلى العدم.
لا خلاف حول دور الأنظمة الجملوكيّة الفاشيّة في تدمير المشروع العربي، لكن اللوم الأكبر يقع على الأنظمة الملكيّة الخليجية، لأن الأنظمة الجملوكية كانت تفتقد دوماً للاستقلال الاقتصادي مما جعلها عرضةً للارتهان وبيع الخدمات للآخرين الأقوياء، بينما كان يفترض بأنظمة الخليج أن تكون، بفعل ثقلها الاقتصادي، حاملة للمشروع وقادرة على خلق التوازنات الإقليمية. الواقع يشير إلى أنها كانت، على العكس، أحد أهم عوامل الخلل والتخريب وارتهان المنطقة بأكملها. ومقارنةً بإخلاص النظام الإيراني لتحالفاته مع الأنظمة والجماعات الرديفة له في المنطقة، بشكل بدا معه وكأنه إخلاص مبدئي، فإن الأنظمة الخليجية ساهمت بضرب الأطراف بعضها ببعض، فعملت في مصر على ضرب الإخوان بخصومهم، في حين كان يفترض أن تكون عنصراً فاعلاً لترسيخ الاستقرار في أهم دول المنطقة، كما تعمل في سوريا على ضرب مجموعات محسوبة عليها بمجموعات أخرى، فتُفشل تحركات وتدعم أخرى، مما يجعل محصلة المحصلة الكلية للفعل صفراً! بدا واضحاً الوعي الإيراني للمصلحة والاستخدام الخبيث للطائفية لإخراج الإيرانيين من عنق الزجاجة، حين أصبحوا طرفاً تتفاوض الدول الكبرى معه، بينما كان الجميع يتحدث عن قرب انتهاء الحلم الإيراني في المنطقة. الإيراني الذي استطاع التعامل مع جماعات القاعدة وتسخيرها لإزعاج الإدارة الأمريكية بما يخدم مصالحه، وهي صاحبة العقيدة المعادية المكفّرة للشيعة، بينما بالمقابل أدى تسييس الطائفية بجهود أنظمة الخليج إلى اكتمال المحرقة في سوريا دون أية فوائد تذكر لا على المستوى السوري ولا العربي العام، فلا السوري الثائر استفاد ولا النظام العربي حقق شيئاً في آخر المطاف… اللهم إلا إذا اعتبر تفتيت العمل السياسي والعسكري في سوريا مسألة ذات بعد استراتيجي للنظام العربي الحالي، أو كان انتصار السيسي هو انتصار للمشروع من وجهة نظر الأنظمة الخليجية، أو كانت استضافة الطغاة بعد أن تطردهم شعوبهم، كابن علي وعيدي أمين، هي رسالة حضارية تترك ذكرى طيبة في ذاكرة التاريخ!
لو تجاوزنا مسألة الخلل البنيوي والسلطوي الشرعي لجميع الأنظمة العربية بدون استثناء، فإن سياسة كل منها، القائمة على ضرب الآخرين بعضهم ببعض، هي عامل أساسي لهذا الانهيار العام، السياسة المعادية لتوحيد الجهود وتأسيس نظام يرعى مفردات الأمن القومي لشعوب ومجتمعات المنطقة التي تجمعها مصالح أزلية مترابطة، وهنا لا أريد أن أتناول مواضيع الحريات والديمقراطية ومفردات الحياة الكريمة، بل أعني العمل لتحقيق درجة من الاستقرار والتنمية التي تمكّن من فتح حوار حول كل مفردة من هذه المفردات، وهو ما نعاني من غيابه بسبب التشرذم المريع. في المقابل، تقوم السياسة الإيرانية على توحيد جهود كل الأطراف التي يجمعها مركب واحد، سواء كان المركب الطائفي أو القومي أو حتى المصالح المشتركة بعيدة المدى، كما في علاقتها مع حماس ومحاولتها فتح قنوات مع نظام الرئيس مرسي. الإيرانيون يعرفون جيداً أن المركب الذي يجمع عدداً كبيراً من الأطراف وشبكة متنوعة من المصالح لن يكون من السهل إغراقه. الأنظمة الخليجية فعلت ما هو معاكس تماماً، حتى الرابط الخليجي نفسه لم ينفع في تأسيس قرار مشترك، وهذا ما نراه بوضوح في التنافرات بين السياسة السعودية والقطرية فيما يخص الملف السوري.
الواضح أن الأنظمة العربية ذات الثقل يستند مشروعها، إن صحّت تسمية المشروع هنا، إلى نظرة استثمارية مطلقة، يغيب عنها أي بعد حضاري، فهي تكتفي على ما يبدو بالمساهمة في مشاريع إعادة إعمار البلدان العربية المدمّرة، وهي مساهمة لا تؤسّس لشيء أكثر من فائدة آنية وسريعة، ولا تسهم لا في استقرار المنطقة ولا في نجاة هذه الدول نفسها من التفتيت لاحقاً. بينما دول أخرى، ذات نظرة أبعد، تعمل على مشروع حقيقي يكون الربح فيه أحد نتائجه الحتمية… ولكن هذا الربح سيكون الثمرة الأقل أهمية ضمن قائمة المكتسبات.