القسم الأول: حول الإسلام والحداثة
الإسلام والحداثة، عنوان كبير لايزال يشغل كل المهتمين في شؤون العالم الإسلامي عموماً والعربي خصوصاً. كيف يقرأ عمر هذه المزدوجة؟
انشغلت قبل سنوات بالموضوع الإسلامي، لا شك أنني تأثرت أيضاً بموجة الاهتمام بالإسلام السياسي التي تلت أحداث 11 أيلول وما رافقها تحت عنوان الحرب على الإرهاب. على تلك الأرضية، كان لا بدّ من وجود مسبقات تجاه الحركات الإسلامية، لكن من المؤسف حينها أن تلك الأصوات كانت تجهد لوصم المسلمين جميعاً بالإرهاب، أعني المثقفين العرب منهم. العلمانوية ترى في الإسلام، ومن ثم المسلمين، قصوراً بنيوياً يفقد المسلمين القدرة على أن يكونوا أبناء العصر الحديث؛ غالبية العلمانويين يستندون في أحكامهم إلى مقولات حداثية جرى نقدها وتفكيكها في الغرب نفسه، وبخاصة منها المركزية الأوربية وفكرة التقدم. غير أن هذا لا ينبغي أن يُعفي المسلمين من أقلمة مفاهيمهم مع العصر، ولا يعني الاستفادة فقط من نقد الحداثة وإعفاء النفس من منجزاتها الفكرية الأخرى. الترسيمة الثقافية، كما أظن، منذ طُرحت إشكالية الإسلام والحداثة مطلع ما يسمى عصر النهضة قامت على أساس هوياتي يحجز التفاعل المشترك، مع أن الأخير لا بد حاصل، أقلّه ضمن الحدود الضرورية. للغرب بدوره مسؤولية مباشرة عن إبقاء العلاقة ضمن الإطار الهوياتي من خلال المرحلة الكولونيالية والاستشراق الذي واكبها، ثم فيما بعد المرحلة الكولونيالية من خلال الانحياز التام إلى إسرائيل والأفكار الغربية التي لم تتوقف عن اعتبار الإسلام جوهراً ثابتاً. بخلاف ما يراه الكثيرون، أعتقد أن الظاهرة الإسلامية هي ابنة المجتمع الحديث، وفي جوانبها الأكثر تطرفاً ودموية هي نتاج الممانعة التي تبديها قوى أصولية تجاه الحداثة التي بدأت حقاً تخلخل المجتمع التقليدي، وليس جديداً أن تشهد مرحلة التغيرات الكبرى أقسى حالات التطرف أيضاً.
أفهم من جوابك تلميحاً لا تصريحاً بأن المسبق السياسي بشكل عام، مثال «الحرب على الارهاب»، هو الذي حدد الإطار المفاهيمي للتعاطي مع الظاهرة الإسلامية بعد 11 أيلول، لهذا هل يمكننا القول: إن الانشغالات الثقافوية في هذا الإطار هي منتج لحقل الصراعات السياسية؟ إذا كان الكلام صحيحاً، معنى ذلك أن علينا إعادة قراءة الظاهرة انطلاقاً من القبض على القوى السياسية داخل حقل هذه الممارسات، وتصبح جدلية السياسة\الثقافة تحتاج إلى إطار معرفي ومفاهيمي جديد تتحرك فيه… وكأننا أمام حلقة مفرغة في أسبقية الثقافي على السياسي أو العكس، ما رأيك؟
لولا السياسة لما طُرح العديد من الإشكاليات التي تتعلق بالإسلام. أعتقد أن الأمر كان كذلك في الغرب أيضاً، فالدافع الأكبر لما عُرف هناك بالإصلاح الديني لم يكن الدين بحدّ ذاته، بل كانت السلطة السياسية التي تتمتع بها الكنيسة. أزعم أن سلطة السماء كانت تاريخياً مطابقة لسلطة الأرض، لذا لم تكن الحركات الدينية الكبرى منفصلة عن السياسة؛ الفصل هو عموماً نتاج عصر الحداثة. الإسلام بحد ذاته ليس مشكلة، بخلاف الإسلاميين، مثلما لم تعد الكنيسة تؤرق الغربيين بعد انحسار دورها السياسي. الانشغال الثقافي ضمن الفضاء العام لا يمكن أن يبقى خارج السياسة، وأعتقد أن الجهد ينبغي أن ينصبّ هنا، بدل الانشغال بنقد النصوص الإسلامية الأساسية وإثبات عدم واقعيتها وغيبيتها. النقاش في الدين بوصفه ديناً فحسب شأنٌ آخر، أما النقاش في الحركات الإسلامية فهو في غنىً عن محاولات إثبات تهافت الدين لنقضها من أساسها كما يظن البعض، وهو ينتمي إلى الفضاء العام الذي لا يجوز النيل من قسم معتبر منه تحت ذريعة المصلحة السياسية. لنتذكر أن المسيحية لم تصبح أقل غيبية في أعتى العلمانيات الغربية. الثقافي، بالمعنى الواسع، يشتغل على مبدأ الحتّ البطيء من صخرة الدين، ويرى علماء الاجتماع المعاصرون أن تراكم المنتج الثقافي غير الديني هو على حساب حصة الدين من الفضاء الرمزي العام، لكن تلك العملية أبعد مدى من الانشغال الثقافي الراهن والمحكوم بضغوط السياسة.
أين تندرج إشكالية العلمانية لدى عمر؟ لو أخذنا بعض الاجتهادات فيها، هنالك محمد عابد الجابري الذي يعتبر اندراجها في مشروع نهضوي عربي أمر غير مطروح، وجورج طرابيشي وعزيز العظمة اللذان يعتبرانها الإشكالية الأساس، لدرجة دعت ياسين الحاج صالح لتسمية هذا الطرح بالجهادية العلمانية؟ أين يقف عمر الآن؟
أظن أن الخلاف حول العلمانية، بين العلمانيين أنفسهم، منذ سنوات هو بمثابة كناية عن اختلاف أعمق يخص النظرة إلى الإسلام والمجتمعات الإسلامية. الجابري في كتاباته الأخيرة صار أكثر انحيازاً للفهم الإسلامي على حساب نقده، أما جورج طرابيشي فانتقل من استكشاف الإطار الإسلامي الأوسع إلى اختزاله بالإسلام الراديكالي، صار قريباً جداً من الأحكام الجامعة المانعة التي يطلقها عزيز العظمة. ياسين لم يرَ حلاً ما لم يشارك المسلمون والإسلاميون فيه، لأن حلاً من هذا القبيل سيقوم على الإقصاء الذي يعزّز المظلومية الإسلامية ويساهم في التطرّف، فضلاً عن أنه يُضمر فاشية تجاه المجتمع. أجد نفسي عموماً أقرب إلى تشريح ياسين للعلمانية العربية، فما يسميها بالجهادية العلمانية قامت أساساً على معاداة الدين، وهي تفترق عن العلمانية التي عرفها الغرب عموماً، وإذ تستند أحياناً إلى اللائكية الفرنسية فهي تتجاهل الأسباب السياسية المباشرة لها، حيث شهدت الثورة الفرنسية تطرفاً تجاه الكنيسة بحكم الضلوع الكبير للأخيرة في السلطة الملكية.
كنت أفضّل على مصطلح العلمانية الإشكالي اعتماد مصطلح «حيادية الدولة»، إنه يعني في بلداننا إيلاء الاهتمام لمفهوم الدولة والتفريق بينه وبين مفهوم السلطة، فمن المعلوم أن سلطة الاستبداد تهيمن على جميع مناحي الحياة، بما في ذلك الدين. السلطة عندنا ابتلعت الدولة واحتكرت الاقتصاد والسياسة والجيش والأمن والدين، تحريرها جميعاً من السلطة يقتضي الاتفاق على حيادية الدولة، وبحيث لا تقدر أية سلطة قادمة على التحكم بها من جديد، ذلك يعني أيضاً تحرير الدين من السلطة لئلا تحتكره أو تستخدمه لأغراضها. البناء المفاهيمي للدولة، ضمن صيرورة ديمقراطية، مُناطٌ به أن يصل إلى الحياد الذي تكون العلمانية أحد أوجهه من دون أن تختصرها جميعاً. الكثيرون يتحدثون عن فصل الدين عن الدولة، مع الأسف يتناسون واقع عدم وجود دولة لدينا، وواقع أن النظام الحالي غير منفصل عن الدين بل قائم على السيطرة عليه.
نصل إلى لبّ المسألة، السلطة… القضية ليست قضية ثقافة، بل قضية سلطة وهيمنة وسيطرة، وبالتالي علاقات قوة اندرجت أو تندرج فيها هذه الثقافة، ويصبح حتى تعريف العلمانية عندنا نابعاً من موقف كل منّا من السلطة السياسية أولاً وأخيراً، لأن الفرانكوفونية عموماً كأنها تعيش حالة عصاب ثقافوي، رداً على براغماتية أنغلوساكسونية مهيمنة بنسختها الأمريكية الجديدة. ربما يمكّننا مثال سطحي هنا من فهم بعض أوجه ما يجري: في دول الخليج عموماً، لا تأثير ملموس لهذه الفرانكوفونية الثقافوية ‒كثيرة اللغو قليلة الفائدة‒ بعكس دول المشرق وبعض دول المغرب العربي، بل نجد حضوراً للأمركة الثقافية ‒قليلة اللغو كثيرة الفائدة‒ بنسختها الأكثر سلعية takeaway، وهذا ما انعكس فارقاً واضحا بين تلك المجتمعات والمجتمعات الأخرى، لهذا السلطة مختلفة بين المجموعتين. ما رأيك؟ خاصة أن العلمانوية قضية لانجدها مطروحة كإشكالية في تلك الدول، كحل سياسي.
أعتقد أن ثقافة السيطرة والخنوع لا تزال عموماً هي السائدة. الإسلاميون والقوميون مثلاً لا تبارح مخيلتهم أوهام الماضي التوسّعي والهيمنة الإمبراطورية على العالم، بالمعنى الرمزي لا تزال الأندلس فردوساً مفقوداً لديهم، لذا يركزون كثيراً على مفهوم الأمة ويتحاشون تماماً مفهوم «الدولة/ الأمة»؛ هذا ينسحب على رؤيتهم لعلاقات السلطة والهيمنة داخل المجتمع نفسه، والتي يمثلها الاستبداد أحسن تمثيل. «اللاهوت» العلماني لدى البعض لا يختلف عن اللاهوت القومي أو اللاهوت الإسلامي في الجوهر، لأنه أيضاً يتوسّل أدوات الهيمنة والإقصاء نفسها لحل المشكلة الإسلامية، لذا يبدو اليوم خلافه مع النظام الحالي هامشياً جداً، ولا تخدش حساسيته الأخلاقية أعمال الإبادة. أصحاب هذا اللاهوت يتناسون أن العلمانية لم يكن لها وجود خارج العملية الديمقراطية. ثمة عصاب ثقافوي هنا، وقد يذكّر بالعصاب الفرانكوفوني، لكنني أميل إلى القول بأنه تكشّف في أثناء الثورة عن مستوى متدنٍّ جداً من الفاشية والعنصرية معاً؛ بعد الانحدار الأخلاقي الذي شاهدناه خلال سنتين ونصف، أخشى أننا نعلي ُمن شأن تلك الأصوات عندما نقارنها بمرجعيات عالمية كبرى!
القسم الثاني- الثورة السورية
ماذا عنى لعمر مفهوم ثورة الحرية والكرامة في توصيف ثورات الربيع العربي ، وكيف اندرج مفهوم الكرامة في سياق الثورة السورية؟
لنتذكر بعض شعارات النظام خلال العقود الثلاثة الماضية: «قائدنا إلى الأبد الأمين حافظ الأسد»، «عهدنا أن نتصدى للإمبريالية والصهيونية والرجعية وأن نسحق أداته المجرمة عصابة الإخوان المسلمين العميلة»؛ هذه الشعارات كانت فرضاً يومياً على كافة طلاب المدارس في سوريا، وهي مكتوبة أينما ولّيت وجهك على المباني الحكومية والجدران.
لنتذكر أيضاً أن لقب «الأمين» كان من أول الألقاب التي أُطلقت على النبي محمد، وهو يأتي هنا معطوفاً على الأبد الذي هو من صفات الربوبية؛ الأمر لا يتعلق بحساسية المتدينين فقط، إذ تُستبدل رمزياتهم المقدسة بعبودية جديدة، بل يتعلق أيضاً بغير المتدينين الذين خرجوا عن مفهوم المقدّس ليُفرض عليهم بأبشع صوره؛ ذلك ما تعين فعلاً بالتسجيلات المصورة التي شاهدناها لشبيحة النظام وهم يجبرون المعتقلين على السجود لصورة بشار والقول إنه الرب. في الواقع كان السوريون مجبرين طوال ثلاثة عقود على القول بأن الأسد، «الأب» ومن ثم «الابن»، هو الرب، أي مجبرين على عبودية تخطتها البشرية منذ قرون طويلة.
في الشعار الثاني يُستخدم فعل التصدي تجاه أعداء الخارج، بينما يُستخدم فعل السحق تجاه أعداء الداخل؛ تلك أيضاً هي عقيدة النظام التي نشهدها كل يوم، والقائمة على المساومة مع الخارج وسحق الداخل بلا هوادة. حتى تحت ضغط التهديد بالضربة العسكرية الأمريكية خرج وزير الخارجية ليعلن أن العمليات العسكرية الموجهة للمناطق الثائرة لن تتوقف أبداً، أي أن جيشه لن ينشغل بمواجهة الضربة المرتقبة وستظل أولويته هي سحق السوريين. هذا غيض من فيض يجعل من الثورة السورية ثورة كرامة، فضلاً عن كونها ثورة حرية بالمعنى المعهود، ومن دون أن ننسى الدوافع الاجتماعية والاقتصادية الأخرى.
منذ عام 2003 ‒ تحرير العراق من الطاغية صدام حسين، وحتى الثورة السورية في آذار2011، جرى انزياح لاهتمامات بعض النخب السورية، والتي كان لها موقف ضد هذا التحرير، فربطت بين وقوفها مع المقاومة العراقية (!) وعدائها للمجتمع السوري. تحت نفس العنوان وبالاستفادة من أجوائه ‒الحرب على الإرهاب‒ بدأت تلحظ اهتمام هذه النخب بالتصدي لأمريكا من جهة، لتسفيل المجتمع السوري من جهة أخرى، بما هو مجتمع إسلامي متخلف… حتى عبّر هذا الاهتمام عن نفسه في موقف سياسي واضح ضد الثورة، حجته العلمانية والطائفية والتدخل الخارجي. لهذا كانوا كالخنجر في ظهر الثورة، وكان عنوانهم أنها خرجت من الجوامع وبالتالي هذه ليست ثورة. تعرضت أنت في مقال لك عن النخب الثقافية قبل فترة وجيزة، وذكرت أدونيس مثالاً. غالبية هذه الأجواء تجدها لدى النخب المنحدرة من أصول أقلياتية أو قومية، وأما النخب الليبرالية واليسارية، وكنت أنا واحداً منهم، فكانت متواطئة بهذا الشكل أو ذاك مع تلك النخب، خوفاً أن تتهم بالطائفية أو بمحاباة الإسلاموية. أين كان عمر قدور في كلا المرحلتين، لأنني كنت ألمح في كتاباتك آنذاك قرباً من التيار العلمانوي هذا؟ وكيف يراهما الآن؟
ما تقوله في خصوص بعض النخب صحيح عموماً من جهة تلبّس الخطاب الأمريكي عن الحرب ضد الإرهاب ومن ثم النظر إلى المجتمع كمجتمع إسلامي وإرهابي بالضرورة. غالبية أصحاب هذه الموجة وقفوا مع الديكتاتورية، إلا أن الوقوف ضد الاحتلال الأمريكي للعراق جمع بين متناقضين في المشارب والأيديولوجيات على مستوى المنطقة، تماماً كما جمع احتمال توجيه ضربة أمريكية للنظام السوري قبل مدة بين متناقضين على المستوى الإقليمي والدولي.
على كل حال، لم أكن ضد إسقاط صدام بالطريقة التي حصلت، لقناعتي بعدم وجود سبيل آخر لإسقاطه. في الوقت نفسه لم أكن أتفق فكرياً مع أطروحات المحافظين الجدد في أمريكا؛ هذا قد يكون تناقضاً شخصياً لدي، وبصراحة عندما كنت أشاهد سقوط بغداد على التلفزيون، وعلى الرغم من اقتناعي بضرورة إسقاط صدام بأي شكل، شعرت بغصّة كبيرة، لأنني كنت أتمنى لو تم ذلك بجهود عراقية فقط. في سوريا قبل الثورة كان الوضع أقل جذريةً، فالذين سقطوا في الامتحان الأخلاقي للثورة لم يكونوا قد انكشفوا، بالنسبة لي على الأقل.
مع ذلك لم أكن أتفق مع بعضهم سوى في نقده للحركات الأصولية والتكفيرية. من جهتي كنت ولا زلت أرى الاستبداد والأصولية الدينية يتغذيان من بعضهما، لذا قبل الثورة بسنوات صرفت قسماً لا بأس به من جهدي في كتابة مقالات تشرح نظام الاستبداد والفساد في سوريا، نشرت معظمها آنذاك في ملحق نوافذ/ جريدة المستقبل.
الإيحاء الذي شعرتَ به بقربي من العلمانويين أظنه أتى من بعض كتاباتي في موقع «الأوان». ‒ للتوضيح، عملت أيضاً كعضو في هيئة تحرير الموقع لمدة أشهر، وكنت مشرفاً بشكل حصري على موقع فرعي منه باسم «منتدى الشباب»، ثم اختلفت مع باقي هيئة التحرير لأن تصوراتهم عن الشباب تأتي من منطق الوصاية والتعالي، ولأنني عملت على جعل موقع الشباب أكثر رحابةً وديمقراطيةً من الموقع الأم وبات ينال متابعة ملحوظة من قرّاء ليسوا شباباً أيضاً، قيل لي حرفياً أنهم لا يريدون موقعاً منافساً! مع ذلك كان الخلاف الجوهري في رؤيتنا المتباينة للعلمانية والديمقراطية، الغلبة في الموقع كانت للعلمانيين التوانسة وهم أكثر راديكاليةً منا. ورغم خروجي من الموقع حينها لم أشأ إثارة تلك الخلافات ولا القيام بتصفية حسابات شخصية. برأيي كان يمكن للموقع أن يكون نافذة أرحب لنشر أنواع من النقد لا تتجرأ على نشرها المنابر الأخرى، بدل أن يطغى عليه مزاج معاداة الإسلام؛ مع أذلك أقرّ للموقع بأنني نشرت فيه نصوصاً يستحيل نشرها في الصحافة عامة بسبب حسابات التوزيع العائدة للأخيرة، ولا أعني بهذا نصوصاً معادية للإسلام.
أما في خصوص النظرة إلى الأقليات، فلا زلت أرى الموضوع على صعيدين متباينين ربما من حيث الشكل؛ الأول هو ضرورة فهم تشكل المظلومية التاريخية للأقليات في سوريا، والتي ترجع أصولها القريبة إلى أيام الحكم العثماني ولها جذور مُحقّة، ذلك يعني أن نتفهّم الوعي الأقلوي لنزع الألغام من التاريخ الذي لم يُكتب بموضوعية. لكن على الصعيد الآخر ليس مقبولاً أن يصبح الوعي الأقلوي مشروعاً ثأرياً، وأن يتقنّع بأيديولوجيا فاشية للتستر على طائفيته؛ أن يكون الواحد منا مع مظلومية الأقليات لا يعني أبداً أن يصطفّ معها كطوائف، ولا أن يقبل بتكريسها كطوائف سياسية، فكيف إذا أتى ذلك على النحو الدموي الذي شهدناه منذ بدء الثورة؟! المسألة ليست شخصية؛ الأمر حالياً أن غالبية الأقليات، باصطفاف نسبة عظمى منها مع القتلة، تفقد ميزتها الأخلاقية المتأتية من مظلوميتها السابقة. رأيي أن النظام الحالي تسبب بأكبر إساءة من نوعها للأقليات وللعلويين تحديداً، هذا أيضاً ما تتجاهله تلك النخبة تحت وَهْم الإمساك بالسلطة إلى الأبد.
برأيك هل تتحمل المعارضة السورية مسؤولية انتشار العسكرة؟ وكذلك انتشار اللغة الطائفية؟
نحن نتحدث هنا عن نظام يتوسل كافة أشكال العنف، وهو نظام في بنيته مولِّد للعنف، ولا يقبل إطلاقاً التغيير إلا بالقوة؛ هذه قناعتي الشخصية.
السوريون في البداية تمنَّوا ضغوطاً دولية حقيقية تُجبر النظام على التغيير؛ ذلك كان فهماً منهم لطبيعة النظام، لكن الذي حصل هو بقاء النظام بتغطية دولية، وحصوله على أقصى أنواع الدعم الخارجي، بما فيها الدعم البشري من إيران وحزب الله.
المعارضة أضعف من أن تتحمل المسؤولية، فالعسكرة بدأت فعلاً قبل أن تتبنّاها المعارضة رسمياً، إن كنتَ تقصد بسؤالك المعارضة السياسية. على العموم؛ يثبت النظام يومياً، من خلال تصريحات أركانه، أنه لن يقبل بالتنازل عن السلطة إلا مُرغماً، وعندما نتحدث عن القوة فالعسكرة ليست التمثيل الوحيد لها، وينبغي أن تكون خاضعة لإستراتيجية مضبوطة وإلا فقدت قدراً كبيراً من مكامن قوتها.
اللغة الطائفية ليست وليدة اليوم، فقد عمل النظام على تغذيتها منذ ثلاثة عقود، مستغلاً الخطاب الإخواني الطائفي حينها. بعض المعارضين، لجني مكاسب شخصية تتعلق بحُبّ الظهور، يغالون في إظهار طائفيته، وهذا لا يساعد على وضع المسألة الطائفية في إطارها الواقعي ولا على تفهّمها. في المقابل، يحاول البعض تجاهل المزاج الطائفي كلياً، فلا يساعد بدوره على مناقشتها ووضعها في إطارها الواقعي. الطائفية الملموسة اليوم ليست وليدة اللحظة، وهي أيضاً ليست مستدامة؛ هي طائفية وظيفية إذا صح التعبير، وستبدأ بالتراجع إن زالت أسبابها، وما لم يسقط النظام الحالي فهي آخذة بالتضخّم مع الأسف.
كلمة موجزة عن داعش وتبعثر التسميات الإسلاموية هنا وهناك، وتأثيرها على الثورة؟
بات واضحاً لكل من يريد رؤية الواقع أن داعش لا علاقة لها بالثورة، وأن وجودها بالضبط على حساب الثورة والمناطق المحرّرة.
داعش لا تصطدم مع النظام ولا تعلن المعركة عليه، والنظام بدوره لا يستهدفها أو يستهدف مقراتها المكشوفة والمعروفة تماماً. «القاعدة» لم تضع النظام السوري أو الإيراني على قائمة الأعداء، وهناك علاقات مخابراتية قديمة بين الطرفين، بينما تحصر عداءها بالغرب ودول الخليج، وهي الجهات نفسها التي يناصبها إعلام النظام العداء. لعل المقال الذي نُشر بتوقيع «أبو همام النجدي» من داعش، وأدين لك بلفت انتباهي إليه، يوضح جيداً حجم التقاطعات بين الطرفين، وإذا حذفنا قليلاً من الجمل غير المؤثّرة لبدا النص من إعلام النظام.
بخصوص التسميات، على العموم، ومع أنني أفضل تسميات وطنية جامعة بدل التسميات الإسلامية، إلا أن التهويل من شأنها وعدّها سبباً رئيسياً لتخاذل المجتمع الدولي عن نصرة الثورة؛ هذا التهويل ينمّ عن خفّة في فهم السياسات والمصالح الدولية. فحتى موضوع القاعدة والتهويل منه في الغرب سلاح ذو حدين، إذ قد يُستخدم ذريعة للإبقاء على النظام، وتارة أخرى قد يُستخدم ذريعة للتدخل الخارجي للقضاء على الإرهاب. إذاً مشكلة التسميات هي مشكلة تخصّنا أولاً، قبل أن نتوسّل بها دعماً عالمياً مفترضاً، والإفراط بالتسميات الإسلامية لا يعبّر حقاً عن الثورة السورية ولا عن المجتمع السوري عموماً حتى بمسلميه. عندما نقول إن الثورة في النهاية هي لجميع السوريين فذلك يوجب أن تكون رمزياتها جامعة قدر الإمكان، وربما لو اقتصرت التسميات الإسلامية على بعض الكتائب لما أثارت حساسية كما يثير أمر تعميمها وتحوّلها إلى موضة.
كيف يرى عمر الثورة الآن؟ وإلى أين تسير سورية؟
الثورة منذ سنة على الأقل لم يعد مسموحاً لها دولياً أن تنتصر، ينبغي لنا أيضاً أن نقرّ بذلك. غياب التوافق الدولي أو الإرادة الدولية يترك الواقع الميداني ساكناً تقريباً، فلا توجد إرادة لتمكين الثورة من الانتصار ولا إرادة لتمكين النظام من البقاء.
الجيش الحر خاضع لظروف الإمدادات وخطوطها التي تتحكم بها القوى الدولية عبر بعض الدول المجاورة، وطرق الإمداد تُستخدم كوسيلة للابتزاز السياسي، وقد جرى قطعها مرات لوقف تقدمه الميداني.
الواقع الإنساني أشدّ مضاضةً، والنازحون السوريون يعانون التضييق في الداخل والخارج، الأمر الذي يثقل كاهل الثورة أيضاً.
في المحصلة نجح النظام في تدمير البلد، وإن لم ينجح في السيطرة عليها، والتدمير سيستمر طالما استمرت توازنات القوى على ما هي عليه. هول ما جرى حتى الآن يمكن تخمين جزء منه فقط، أما القسم الأعظم فسنُصعَق من اكتشافه كاملاً فيما بعد. كل يوم إضافي للنظام يعني ثمناً باهظاً من الأرواح ومن مقوّمات الحياة في سوريا.
في النهاية لن تكون سوريا كما كانت، وستحتاج عقوداً لتستعيد عافيتها وتتخلص من آثار النظام. التفاؤل الوحيد الممكن هو إسقاط النظام لإنقاذ ما يمكن إنقاذه، فبقاؤه يعني تدمير كل شيء تماماً، لكن تدويل الشأن السوري كان وسيكون له انعكاسات كبيرة جداً على مسار الثورة وعلى سوريا المستقبل. التوقع يبدو صعباً جداً، اليقين الوحيد هو أن صورة سوريا القادمة التي أشاعتها الثورة في البداية لم تعد ممكنة في المدى المنظور، واليقين الآخر لديّ هو أنها الفرصة التاريخية التي لا ينبغي تفويتها أو التراجع عنها لنتجنب الكارثة ولبناء سوريا الديمقراطية.