للمسيحي واليهودي خانتان محددتان في التفكر الإسلامي القديم (والمعاصر)، كانت تتقلب أوضاع شاغليهما الفعلية في المجال الإسلامي بتقلب الأزمنة والأوضاع السياسية والاقتصادية، لكن وجود هاتين الخانتين كان يؤمّن اعترافاً وحماية مبدئيَين للمنضوين تحتهما. الاعتراف حقيقي، وغالباً كانت الحماية حقيقية أيضاً، ومن أميز ما أُتيح في العصور الوسطى، الآسيوية والأوربية. ولطالما كانت مضمونة أكثر حين كانت السيادة الإسلامية محسومة، فيما كان مصير هذه الجماعات يغدو مقلقلاً كلما كانت سيادة المسلمين مقلقلة أو موضع منازعة. هذا حصل في دمشق في مطلع العقد السابع من القرن التاسع عشر، أيام «المسألة الشرقية». ذهب ضحيته 5000 من المسيحيين. لا تسجل المراجع التاريخية واقعة مماثلة خلال نحو 13 قرناً من تاريخ الإسلام حتى ذلك الحين. «المسألة الشرقية» تضمر في الجوهر فقدان المسلمين السيادة في مجالهم ذاته، وتحولهم إلى موضوع لسياسات القوى الأوربية.
وفي التاريخ الفعلي تعايش الإسلام أيضاً مع إيزيديين ومجوس، وفي شبه القارة الهندية مع بوذيين وهندوس، تعايشاً متقلباً، لكن اختلاف المنسوبين إلى تلك العقائد، وليس تماثلهم مع المسلمين، هو ما كان يضمن لهم حماية بقدر ما حيث كان المسلمون مسيطرون سياسياً.
وسار التاريخ الإسلامي عموماً باتجاه قبول واقعي بوجود مسلمين من نوع آخر، وإن لم يرتقِ يوماً، ولا اليوم، إلى مستوى قبول شرعي. أدبيات الفِرَق ولدت في سياق تتحكم به ثقافة النجاة الأخروية والملة الناجية، لكنها أسندت ظهور الفرق المختلفة، ومنها ما توصف بالشاذة أو الملعونة، إلى منطق كوني مقدّر إلهياً (انقسم اليهود والنصارى إلى فِرق، وسينقسم المسلمون…)، أسهم في تطبيعها بقدر ما. وواقعياً كان وجود الشيعة والزيديين والإباضيين، والإسماعيليين والدروز والعلويين وغيرهم، من طبائع الأمور في الدولة (وهي دولة إمبراطورية، تحكم رعية من أخص خصائصها التنوع)، وإن لم يكن «شرعياً»، ولا تُقرِّه «الشريعة» التي تستند إليها الدولة شكلياً.
وجود هذه الجماعات مُعطى طبيعي ومُقدّر، لكن قلما يعتبر قيمة إيجابية. وبقي طريق إخراجها من الأمة مفتوحاً. الأمة معرّفة دينياً، والتكفير هو منهج الإخراج منها، على ما فعل ابن تيمية حيال «النصيريين» (العلويين) في القرن 13، في سياق مخصوص أيضاً. وإن لم يترجم التكفير إلى استئصال شامل لتلك الجماعات، فقد اقترن دوماً بتهميشها السياسي والجغرافي.
في الدولة الترابية الحديثة، أُقر نظرياً مبدأ المواطنة، لكن الفكر الإسلامي بقي متركزاً حول مفهوم الأمة الدينية، أما الواقع السياسي فبقي خاضعاً لمبادئ شبه خام، تتحكم بها موازين القوى والتحالفات الداخلية والخارجية. في سورية مثلاً، لدينا مبدأ المواطنة على مستوى القوانين والخطاب المعلن وبطاقات الهوية الشخصية، لكن الواقع كان يعطي أولوية لأصول دينية ومذهبية بعينها في مواقع وازنة من الدولة ومؤسساتها، والفكر الديني الإسلامي السني (وسلطة تعريف الإسلام تقع بأيدٍ سنية في سورية، حتى في ظل الحكم الأسدي الذي يحتكر، بالمقابل، سلطة تعريف الوطنية) مسكون بفكرة الأمة الدينية وسيادة المسلمين، ولا يقول شيئاً واضحاً لمصلحة المواطنة والمساواة الحقوقية، وليس هناك مؤسسة دينية مضمونة الشرعية على كل حال، ما يُبقي الباب مفتوحاً لرفضه من قبل متشددين سنيين.
والخاصية الجمعوية للتفكير السياسي الإسلامي، وللتفكير الإسلامي عموماً، تلعب دوراً مزدوجاً ومتناقضاً في هذا الشأن. المقصود بالخاصية الجمعوية أنه يجري التفكير في المجتمع كائتلاف مجموعات دينية أو كتل دينية، ينسب الأفراد فيه إلى أديانهم أو مذاهبهم. ويفترض بالطبع أن هذه النسبة تقول الشيء الجوهري عن كل منهم. الأسبقية هنا لـ«ممّن تكون» على «من تكون»، أي للانتماء على الفعل، وللهوية على الذات، وللأصل والفصل على التحصيل، وللجماعة على الفرد، وكونك مسيحياً مثلاً يتقدم على كونك مهندساً أو بعثياً أو رجلاً طيباً. قبل حين أخذ علي ناشط إسلامي أني أظلم السنيين السوريين بسبب شيء كتبته، رغم أني، بحسبه، معارض للنظام، وأنحدر من أسرة سنية عريقة (هذه المعلومة الخاصة بالعراقة غير صحيحة). انتسابي المفترض يتقدم عنده على فعلي، وعلى عملي ككاتب.
هذه الخاصية الجمعوية تقوم بدور مزدوج: توفر حماية جمعية بقدر ما للأفراد من جهة، ومن جهة أخرى تلغي فرديتهم وتقوض الأساس الجوهري للمواطنة: الفرد. فكونك مسيحياً يُدرجك في جماعة كبيرة معترف بها، وحصينة مبدئياً؛ لكنه يلغي أنك فلان أو فلانة، الشخص الذي قد لا يُقرّ بأولوية تحديده الديني على تحديدات أخرى. ومثل ذلك طبعاً بخصوص المجموعات الدينية أو المذهبية الأخرى.
ومن جهة ثالثة، والأهم في سياقنا، لا يجري تصور حرية الاعتقاد الديني، إسلامياً، إلا على مستوى جمعي، وليس على مستوى الأفراد بحال. لا يُكرَه غير المسلمين على أن يصيروا مسلمين، لكن ليس لأفراد مسلمين أن يكون لهم القرار الحر في شأن دينهم، فيتحولون عنه إلى غيره أو يتخلون عنه وعن كل دين. الدين هنا ليس شأن الأفراد، بل هو شأن جمعي، شأن «الأمة»، و«ولي الأمر».
وبينما يتمتع المسيحيون وعموم غير المسلمين كأفراد بحرية الاعتقاد تجاه جماعاتهم الأصلية التي تعيش في بلدانٍ أكثريتها مسلمة، بحيث يمكنهم أن يصيروا مسلمين إن شاؤوا أو وافقهم ذلك، فإنه ليس لأي مسلمين أن يفعلوا الشيء نفسه، فيصيروا مسيحيين أو لا مسلمين. وهو ما يعني عملياً أن غير المسلمين مكونون من أفراد أحرار جزئياً (حريتهم في اتجاه واحد)، أما المسلمين فأمة لا حرية لأفرادها على مستوى الخيارات العقدية الأساسية. وبما أنه يفترض أن الخيارات العقدية محددة للخيارات السياسية والفكرية والاجتماعية في الإسلام، وهي محدِّدة بالفعل في نظر كثيرين ممن يُعلون من شان الاتساق في تفكيرهم وعملهم أياً يكن دينهم، فإن انعدام الحرية الدينية يعني أيضاً انعدام الحريات السياسية والفكرية والاجتماعية، أي كل ما هو مهم. وهو ما يعني أن المسلمين أمة مكونة من لا أحرار جوهرياً، لا تقوم لها قائمة إلا إذا ألغت حرية الأفراد المنسوبين لها.
هل تقوم قائمة لأمة من غير الأحرار؟ وهل يمكن لأمة اللاأحرار أن تكون أمة حرة؟
من يهتفون «طز، طز حرية/ بدنا خلافة إسلامية!» يمارسون حريتهم، لولا أنهم يريدون فرض «الطز» والخلافة على الجميع، وقول «طز» للجميع، وسلب حرية الجميع.
هذا كفاح من أجل العبودية، عبودية بشر لبشر.
في كتاب مبكّر، وفي سياق مختلف، قال برهان غليون: إن أمة من العبيد لا يمكن أن تكون إلا من عبيد الأمم!
*****
هناك أفراد بعينهم يمثلون مشكلة كبيرة للتفكير والمخيلة السياسية الإسلامية، لكونهم لا ينضوون ضمن خانة يمكن أن يرتاح لها الإسلامي أو رجل الدين المسلم المعاصر: أفراد، رجال ونساء، ينحدرون من أصول إسلامية (سنية في سياقنا) لكنهم لا يعتبرون ذلك المحدد الأساسي لهويتهم، وقد لا يكونون مؤمنين، وهم ليسوا قلة بحال. أكثر هؤلاء أفراد «علمانيون»، لكن يولون اهتماماً أكبر لأدوارهم الاجتماعية أو السياسية أو الثقافية، حتى حين يكونون مؤمنين.
لا يستطيع القائمون على الفكر الإسلامي العالِم (السني فيما يعنينا هنا) تصور مسلمين ليسوا مثلهم، أو مثلهم ومثل المستمعين بصمت إلى خطب الجمعة. وليس هناك، تالياً، مفهوم يغطي هذا الوضع الجديد لأمثالنا، أو يحدث طفرة في التفكير، فيجعل من هذا الوضع المستجد والمرشح للاتساع منطلقاً لتفكير جديد في قضايا الدين والأمة والإيمان والهوية والفرد.
هؤلاء الأفراد يجدون أنفسهم اليوم بلا حماية في أزمنة صراع وتحول صعبة.
يعنيني الأمر شخصياً لأهميته الخاصة، ولأني من هؤلاء الأفراد. وجدت نفسي غير مرة في الفترة الماضية في وضع غير ملائم، لكوني أنحدر من بيئة إسلامية سنية من جهة، ويفترض أني أندرج ضمن الخانة المركزية، ومن جهة أخرى لكوني لست مسلماً نمطياً، ولا أنضبط في تفكيري وسلوكي بما يفترض أنها أساسيات الإسلام السني، وهذه الخانة لا تغطيني. وضع ممتنع على التصنيف، يبدو أنه يقلق سكينة الهوية الإسلامية الموروثة.
ثم إنه لا خانة معتبرة لأمثالي تضمن لهم اعترافاً وحماية نسبيين.
منكشفين بلا حماية، يتعين علينا اليوم أن نكافح لا للدفاع عن حريتنا الخاصة فقط، ولكن لتثبيت مبدأ الحرية الدينية وللمشاركة في تحرر المسلمين الذي نحن منهم. هذه ضمانتنا كأفراد، ومساهمتنا في تحرر بني قومنا، وفي الصراع الإنساني من أجل الحرية. وهذه هي القضية السياسية والأخلاقية التي تحول هشاشتنا وانكشافنا إلى منطلق للدفاع عن الحرية.
والواقع أن هذا الوضع ليس جديداً، بل هو متجدد اليوم، وعمره ينوف على قرن، يعود على الأقل إلى أيام وجد محمد عبده في أوربا إسلاماً بلا مسلمين، ووجد هنا مسلمين بلا إسلام. وهو مدون بكامله في التحول الذي مثلته الحداثة، وبالتحديد من حيث أن الدين فقد السيادة السياسة والعقلية، فلم يعد نظام العالم، او علم العالم وسياسة العالم، وتحول عملياً إلى أحد أنظمة العالم أو أحد وجوه الثقافة، وظهرت وجوه أخرى للثقافة أكثر ارتباطاً بالعيش في دولة ومجتمعات حديثة، إن بالحكم والإدارة أو بالاقتصاد، أو بالسياسة والمعرفة، أو بالثقافة في وجوهها الجديدة الكثيرة.
وبدءاً من هذا الوقت، صار ممكناً أن يوجد أفراد مسلمون، لا تكاد صفتهم هذه تقول عنهم شيئاً مهماً أو تميزهم عن غيرهم. فهم يشبهون غيرهم من أديان ومجتمعات أخرى، وربما يختلفون عن غيرهم من شركاء الأصول، ويتقاسمون قيماً عالمية متقاربة وأنماط حياة متقاربة بدورها. مثقفون وأكاديميون وأرباب مهن علمية ومشتغلون في منظمات دولية.
وإذا كان هؤلاء الأفراد يبدون اليوم منكشفين، لا خانة تضمهم ولا جماعة تحميهم، في أزمنة تحول عاصفة، فلأننا لم نخض معركة التحرر الديني، أو ما سميته في سياق آخر الاستقلال الأساسي. ما كسبناه من أوضاع وحقوق بفعل اندارجنا في الحداثة العالمية يتعين إعادة كسبه ثقافياً، وبصراعاتنا الخاصة ضد قيودنا الخاصة. الجماعات البشرية لا تستفيد من التجارب التاريخية لغيرها، وقلما تستفيد من تجاربها التاريخية الخاصة أصلاً.
الخطر المباشر اليوم هو اعتبار أمثالنا «مرتدين»، ما يوجب استتبابتهم، وربما هدر دمهم. وبما أنه ليس هناك جهة دينية إسلامية سنية مرجعية، تحتكر تعريف المسلم وغير المسلم والكافر والمرتد، وبما أنه يمكن لأي كان تقريباً، أو لجهات متعددة جداً، أن تبادر إلى التكفير، وتطبيق «حد الردة» على الكفرة المزعومين، فإن هذا يجعل أمثالنا مباحين، منذورين للإبادة. هذا يجعل مواجهة المسألة أمراً ملحاً في سياق التحول الجاري في مجتمعاتنا، تحول يعيد الدين إلى مركز الحياة العامة، ويعيد طرح مشكلات فكرية وسياسية أساسية، متصلة بالدين، على أرضية النقاش العام.
الدفاع عن أنفسنا يمرّ عبر الدفاع عن مبدأ الحرية الدينية كما سبق القول، وعن الحرية عموماً. والأساس في ذلك فيما نرى هو التجديد الثقافي وإنتاج القيم الثقافية والروحية الجديدة. ليس غير ثقافة تنهض، تنتج دلالات ومعان أرفع مستوى، تستطيع أن تجدد الحياة وتخرجها من الأطر الدينية الضيقة. يقول غوته: من له علم وفن ليس بحاجة إلى دين، ومن ليس له علم وفن فليكن له دين.
يمكن أن يساهم في العمل من أجل الثقافة والتجدد الثقافي والروحي الجميع، بغض النظر عن أديانهم ومذاهبهم، لكن العلمانيين وغير المؤمنين من أمثالنا، أعني المسلمين غير المسلمين، هم «البروليتاريا» صاحبة المصلحة الأساسية في الثورة على شرط العبودية الدينية. هذا فوق كوننا، بعضنا على الأقل، معنيّين بتحرر الإسلام وكرامته، فضلاً عن تحرر المسلمين وكرامتهم. كاتب هذه السطور معني بالأمرين بذلك.
هناك مبادئ أولى، نرى أنه يمكن الانطلاق منها في وضعيتنا الراهنة كمدخل لتأسيس مبدأ الحرية الدينية:
• حرية الاعتقاد الديني مُقوِّم لمفهوم الدين ذاته، لا يستقيم من دونها، وهي شرط ذاتي للإيمان؛ يستطيع الإسلاميون أن يرفضوا ذلك قدر ما يشاؤون، ويوقعوا من الأذى على غيرهم قدر ما يستطيعون، لكن هذا لا يغير من الأمر شيئاً: الحرية الدينية شارطة للدين وسابقة له.
• حرية المسلمين كجماعة دينية مرهونة بحرية المسلمين كأفراد، وأساساً حريتهم الدينية. ووضعية المسلمين الدنيوية المتدهورة لا يمكن أن تكون بلا صلة بوضعهم الديني كـ«لاأحرار» جوهرياً.
• الحد من الفوضى الدينية ومأسسة السلطة الدينية ضرورة للحرية الدينية ولعقلنة الفكر الديني، كما للاستقرار السياسي والاجتماعي والنفسي في مجتمعاتنا المعاصرة؛
• لا يجوز أن يكون التكفير حقاً مباحاً للأفراد والجماعات، وليس لحق التكفير الشرعي الذي تمارسه أية جهات إسلامية منظمة أن يقترن بالعنف. يلزم التفكير في تحويل التكفير إلى آلية حماية لسلامة المعتقد الإسلامي بعيداً عن تجريم الأفراد والجماعات.