لا يمكن أن يكون النظام الأسدي قد بقي على حاله بعد الثورة السورية، ولكن ما زال البعض يتحدث عن هذا النظام كما لو أنه بقي هو نفسه، أو كأن سوريا كلها بقيت هي نفسها بعد أكثر من عامين ونصف على اندلاع الثورة السورية. فما زال البعض يتكلم مثلاً عن كلفة إعادة إعمار سوريا قياساً لما كانت عليه قبل آذار 2011، وكأنهم يتوهمون أن سوريا ستعود إلى ما كانت عليه وقتها، بدل أن يفكروا كيف ستكون سوريا الجديدة، وما هي كلفة بنائها بشكل جديد. وما زال البعض يتكلم عن الشعب السوري وكأنه لم يتغير، أو كأن المعتقلين والمهجّرين وذوي الشهداء سيعودون إلى بيوتهم ويعيشون فيها كما كانوا يعيشون من قبل.
الجيش «العربي السوري»
تغيرت العقيدة العسكرية لهذا الجيش بعد حرب تشرين (آخر الحروب من نوعها بالنسبة للنظام)، وكان لبنان مسرح تجارب جيش النظام في السبعينيات في الحروب الأهلية الصغيرة في المدن والبلدات والقرى والشوارع، كما كانت حماه وحلب وإدلب وغيرها مسرحاً لتجارب النظام في حربه ضد شعبه في الثمانينيات؛ وما إن اندلعت الثورة حتى نشر النظام الأسدي جيشه في طول البلاد وعرضها معلناً حربه «العالمية» ضد عصابات مسلحة غزت البلاد من أربعة أنحاء الأرض. اعتمد النظام على الكتائب «النوعية» الموثوقة الولاء، وجمّد جيشه النظامي الذي لا يضمن ولاءه في هكذا حروب. أرهقت تلك الكتائب وهي تنتقل بين المدن والبلدات حين اتسعت الثورة، فجرى الاستعانة بكتائب دينية شيعية جهادية من لبنان والعراق. استخدم النظام الهيليكوبتر ثم الطيران الحربي ثم صواريخ سكود ثم السلاح الكيماوي حين عجز عن التخلص من المقاومة المسلحة.
تم تهديد النظام بالتدخل العسكري من الخارج، وسرعان ما استسلم وسلّم سلاحه الكيماوي في مؤشر واضح على عدم قدرته نهائياً على خوض حرب خارجية. لا يمكن أن يكون جيش النظام بعد نزع سلاحه الكيماوي كما كان عليه قبل نزعه. لقد تحول جيش النظام عملياً ببنيته المقاتلة وعقيدته القتالية إلى عصابات مسلحة مثل التي يقاتلها، ومثل العصابات الحليفة اللبنانية والعراقية، ولم يبق منه كجيش «وطني» سوى العتاد العسكري المتفوق الذي تمتلكه «الدول الوطنية» عادة.
في تصديه لتهديدات محتملة من جيوش دول مجاورة، مثل تركيا (الناتو) وإسرائيل، سيكون النظام مضطراً لدعم مباشر من حلفائه الروس والإيرانيين، إضافة للعصابات الحليفة اللبنانية والعراقية، وهذا يعني خضوعاً لإملاءات خارجية وغياباً لإمكانية قرارات مستقلة.
المخابرات السورية
أصبحت أجهزة المخابرات متوحدة أكثر على حساب تنافسها السابق، ولكنها أصبحت خاضعة أكثر للمخابرات الإيرانية والروسية بحكم حاجتها لخبراتها في قمع الثورة الخضراء في إيران والمقاتلين الشيشان في غروزني. استُنزفت أجهزة المخابرات في قمع مجتمع الثورة، حيث وصل عدد المعتقلين إلى رقم غير مسبوق في تاريخ سوريا. ولا ننسى التنسيق الواسع مع كل أجهزة المخابرات في البلدان المجاورة والإقليمية والغربية المعنية بالشأن السوري (ازداد هذا التعاون والتنسيق في كل بلدان الربيع العربي من أجل إجهاض الثورات ومنع امتدادها). صار عمل المخابرات متركزاً أكثر على اختراق المعارضة السورية والتنظيمات المسلحة بوسائل جديدة سياسية أكثر منها مخابراتية.
الأحزاب السياسية
انتهى عملياً دور حزب البعث وأحزاب الجبهة، ولم يعد النظام قادراً على إيجاد غطاء حزبي سياسي مدني. الجيش (بما فيه جيش الدفاع الوطني) والمخابرات والشبيحة هم حزب النظام الآن، وصارت العلاقة معهم مباشرة دون أي وسيط إلا كديكور خارجي مفضوح.
الاقتصاد السوري
أصبح الاقتصاد السوري اقتصاد حرب… اقتصاد طوارئ… اقتصاد أزمات. يُدار الاقتصاد بشكل يومي وشهري وسنوي دون خطط طويلة الأمد أو متوسطة الأمد. زاد الاعتماد على المساعدات الخارجية وأصبح النظام مرتبطاً أكثر بحلفائه دون هامش مقبول لقرار مستقل.
المجتمع السوري
كانت تجربة الطليعة المقاتلة في سوريا رائدة في مجالها، وقد اعترف أسامة بن لادن بتأثره بها، كما كانت تجربة النظام الأسدي معها رائدة أيضاً، وقد أعطى للعالم كله درساً فيما فعله بمدينة حماه. ولكن هذا النظام الأسدي استثمر فيما بعد في التنظيمات الإسلامية السنية الجهادية، كما فعل في التنظيمات المسلحة القومية واليسارية والإسلامية الشيعية الجهادية في لبنان والعراق وتركيا، وما إن جاء زمن «الحرب على الإرهاب» بعد 11 أيلول الشهير حتى قدَّم أوراق اعتماده كخبير عالمي لكل مخابرات الدول الغربية، وعرض واستعرض خدماته في إدارة مثل هكذا حرب على الإرهاب، كمسهّل لها حيناً وكقامع لها حيناً آخر، وقايض بهذه الخدمات خصومه وحلفاءه سياسياً. وقد بلغت بهذا النظام الثقة والغرور بالنفس أن تساهل باستقدام وتمكين مثل تلك التنظيمات الإرهابية المسلحة في المناطق «المحررة» من بلده هو نفسه، في لعبة محلية وإقليمية ودولية تدل على مزيج من الحقد على مجتمع الثورة في بلده ومن التسليم بعجزه عن السيطرة على بعض المناطق الشاسعة لمجتمع الثورة، ومن الرغبة في الحصول على مؤيدين له أكثر في المناطق الأخرى التي يمكنه السيطرة عليها.
أدرك النظام بواقعيته وبراغماتيته مع تطور الثورة أنه لم يعد قادراً على حكم سوريا كما حكمها من قبل، فصار يبحث عن أفضل الخيارات المتاحة له في كل مناطق سوريا: بعض الحلفاء الأكراد والتنظيمات الإسلامية الجهادية في الشمال والشرق. هؤلاء هم من يتقن اللعب معهم منذ سنوات طويلة، يعرفهم ويعرفونه، خبرهم وخبروه.
كان النظام مضطراً للتركيز على منطقته الاستراتيجية: العاصمة، اللاذقية وطرطوس، وحمص. هكذا يبقي النظام شرعيته الدولية كـ«جمهورية عربية سورية» وليترك الآخرين يعلنون دولهم كما شاؤوا، وليقوموا بأعباء الدولة عنه في مناطقهم. يتعايش النظام مع هذه السلطات الموازية، ويتبادل المنافع معها ويفاوضها ويقايضها بكل رحابة صدر.
هناك، من جهة، تفاهمات بين الطرفين تدل على حرب طويلة وليست قصيرة الأمد، وسيحاول النظام الأسدي، من جهة أخرى، الحصول في وقت قريب على تفويض محلي أوسع من جمهور سوري أكبر، كما سيحاول الحصول في وقت قريب أيضاً على تفويض دولي في حربه ضد التنظيمات الجهادية المسلحة. أما بالنسبة للتنظيمات الكردية المسلحة فأمرها معقد أكثر ومرتبط بتفاهمات إقليمية ودولية أعقد في المستقبل الأبعد زمناً.
هل سيكون للنظام مصلحة في إنهاء هذه الحرب؟
لقد أصبحت حرب النظام ضد المجتمع السوري أهم مبرّر لوجوده. النظام يقود حرباً ضد «العصابات المسلحة»، ضد «الخارجين عن القانون»، من أجل «وحدة سوريا»، من أجل «الدولة السورية»… إلخ.
ألم تكن حربه ضد «الصهيونية والإمبريالية» من مقومات وجوده الأساسية؟ وهل يستطيع النظام الآن الادعاء بذلك بعد أن اعترف أنه يخوض حرباً عالمية محلية، وأن كل شيء آخر مؤجل لحين الانتصار؟ وهل هذا النظام قادر أصلاً على الانتصار في حربه المزعومة؟
يدرك النظام أن كل شيء أصبح مرهوناً بالتفاهمات الدولية، بعد أن فتح البلاد كلها لكل التدخلات الإقليمية والدولية الممكنة، وبانتظار تلك التفاهمات الدولية سيبقى الواقع السوري على ما هو عليه.
الاستحقاقات التي سيواجهها النظام فيما لو استتبّ الأمر له جدلاً (أي قضى على المقاومة المسلحة تماماً) في أي منطقة بسوريا مرعبة بالنسبة له: هل يستطيع إخراج المعتقلين كلهم؟ هل يستطيع إعادة المهجرين كلهم؟ هل يستطيع إيقاف إطلاق النار ومواجهة ذوي الشهداء وذوي الحقوق المنتهكة؟ هل يستطيع مواجهة قوى الثورة السورية التي ستبرز بشكل جديد حينها؟
يدرك النظام أن الشعب السوري قد تغير خلال هذه الفترة ولم يعد بإمكانه السيطرة عليه كما كان يفعل من قبل.
هذه الاستحقاقات هي التي دفعته للتساهل مع «داعش» و«النصرة» والتيارات الجهادية الإسلامية كي تبني دولتها في المناطق التي لم يعد يجد فائدة من استعادتها عملياً طالما لم يعد قادراً على حكمها بالطريقة السابقة.
لا يستطيع النظام فعل ما تقدم ذكره (من إطلاق سراح المعتقلين وعودة المهجرين ووقف إطلاق النار) إلا بشكل جزئي وعلى مراحل وخطوة خطوة، كي يضمن أن المجتمع ما زال قابلاً للضبط والسيطرة، ولو بطرق جديدة لا بد أنه سيضطر لها ولا يعرف مسبقاً نتائجها غير المضمونة.
إذا كان مؤتمر جنيف لم ينضج بعد عبر تفاهمات دولية لإحداث تغيير نوعي في سوريا في نظام الحكم فيها، فعلى ماذا يستطيع النظام أن يفاوض فعلياً؟ لن يكون وقتها مجال للتفاوض إلا على أمور جزئية وهامشية وشكلية لا تغير كثيراً في واقع الأمر، بل ستكرِّس شرعية النظام وشرعية مفاوضيه أيضاً ومن يمثِّلونهم، ولذلك سيكون النظام حريصاً كل الحرص على انتقاء مفاوضيه بعناية فائقة، حتى وهو يعرف أن لا شيء يستحق الذكر سيخرج من هكذا مؤتمر.